نصوص أدبية

نبيه القاسم: وأخيرا ماتت أمّي

كانت عيناه تُتابع تحرّكات شفاه الإمام وهو يتلو الصلاة وشفاه الأئمة الأربعة الذين يقفون خلفه. ثم شفاه المتكلمين الواحد بعد الآخر.

وانتبه بعد لحظات الصمت التي عمّت المكان لعدد من الشباب الذين يتقدّمون من التّابوت الموضوع وسط القاعة، وبسواعد قويّة، وبعضها مُتردّدة، يرفعونه ويضعونه في سيارة تنتظر عند المَدْخَل.

لفّته سحابة بيضاء خفيفة أخذته بعيدا.

انقطع عن كلّ ما حوله، لا يرى أحدا ولا يسمع غيرَ صوت مكتوم يأتيه من بعيد، وبكاء يتفجّر في داخله. انتفض وهو يفتح عينيه بكل قوّته وسأل: أين أنا!

 لم يسمع جوابا.

 كانت العيون الشّاخصة إليه تدمُع بصمت، وزفرات وأنّاتّ مكتومة تُطوّقه من كلّ الجهات.

زادت المساحاتُ البيضاء التي تُغلّف حياته، فقَدَ الاحساسَ بالفَرح، وتقلّصت أمنياتُه لتنحصر في لحظة طالما تمنّاها أن تكون التي فيها يُغادر الحياة.

منذ طفولته رافقته السحابة البيضاء. صغيرة كانت بحجم جسَده النّحيل، لازمته وهو لا يدري، لحظة رُفع جسدُ أمّه ووُضِع في تابوت دفنوه في مقبرة البلدة.

لاحظ الكثيرون انحراف الصغير وإيثاره الجلوس وحيدا، لا يُشارك أولاد الحارة، وحتى أولاد العائلة في ألعابهم، يُفضّل الانزواء مع كتاب يقرأ فيه أو قلم وورقة يكتب بعض الخواطر أو الاقتباسات. وكانت بعض الكلمات والتّعابير مرفوضة عنده، يتحاشاها في كلامه وكتابته وحتى سَماعها. ويعتبر النُّطق بها أمامه نوعا من التّحدي، فيتماسك ويتظاهر بعكس ما يُخفي ويبتعد ليكون وحدَه.

كانت الأعياد أكثر المناسبات التي يكرهها، وخاصّة أعياد الميلاد، كان ينزوي مع نفسه في زاوية ضيّقة من بيته مُتحاشيا متابعة الأخوات ومراقبتهنّ، رافضا دعوتهنّ لتناول الطعام أو زيارة أحد الأقارب أو السّفر في رحلة للاحتفال بيوم العيد.

 ساعاتُ الليل المُتأخّرة هي الأحبّ إليه، فيها يجد راحته وهدوءَه ويشعر بحريّته. يقرأ بعض صفحات في كتاب أحبّه، أو قصيدة سرقته من هدوئه بسحر إيقاعات مفرداتها وانسياب حروفها، وتشابك وتداخل البيوت المتلاصقة والناس المقيمين فيها. وإذا ما وصله الصوتُ الشجيُّ المُثير والكلمات المُفتّحة له جراحه وموقظة آلامه يُسارع ليُسجل الكلمات في صفحة دفتر يوميّاته وهو يتمنى لو يكون بإمكانه سكبَ الدّموع وتفريغ شحنات الحزن المُتملّكة منه.

عُدتَ يا يوم مولدي عدتَ يا أيّها الشّقي

ليت يا يوم مولدي كنتَ يوما بلا غد

وتُفْزَع شقيقته عندما تستيقظ وتجده نائما وهو يسند رأسه بظهر الكرسي ويمدّ ساقيه في الفضاء، لا غطاء يُدفئه، ولا وسادة تسند رأسه، فتُجهد نفسَها لتنقله إلى حيث ينام، وكثيرا ما كانت تستعين بشقيقتها لتساعدَها.

شقيقتُه الكبيرة هي التي يرتاح إليها، ويُفضّل الجلوسَ معها، فهي التي تهتمُّ به وتوفّر له كلّ ما يطلب، منذ كان في الثالثة من عمره، كانت التي تُدير البيتَ وتعتني بجميع أفراد الأسرة، وخاصّة بوالدها الذي تغيّرت حياتُه منذ موت رفيقة عُمْره وأمّ أولاده وهي لا تزال في الثالثة والأربعين من عمرها. وبدا الحزن الصّامت يكسو وجهَه. يُكثر من الصّمت، ولكنّه لا يغفل عن أيّة صغيرة أو كبيرة تخصُّ أولاده، يهتم بدراستهم ومتابعة تفاصيل حياتهم وسلوكهم، لا يحرمهم من أيّ شيء، لكن ما كان يحزّ في نفسه اضطراره إخراج ابنته الكبرى التي لم تتجاوز الرابعة عشر من المدرسة لتعتني بإخوتها وأخواتها.

عَرَضوا عليه الزواج، فهو لا يزال صغيرا وسيجد الزّوجة الملائمة التي تحضن أولادَه وتعتني بهم، لكنّه كان يرفض أيَّ كلام بهذا الموضوع ويكرّر جوابه في كلّ مرّة:

-لن أفكّر في الزواج قبل زواج آخر بنت من بناتي. لا أريد أن أجلب لأولادي مَن تقوم بالتّحكّم بهم وظلمهم.

كانت فرحة الوالد ساعات صباح كل يوم بعد أنْ يغلي القهوة ويوقظ الجميع ليتحلّقوا حول الموقد الواسع، يصبّ لهم القهوة ويقدّم لكلّ منهم فنجانه، وأحيانا يوزّع عليهم أقراص البسكوت الطيّبة. ولا يترك البيت إلّا وقد اطمأنّ على الجميع فيتوجّه نحو حقول الزيتون وكروم العنب والتين ليعمل فيها.

وتمرّ الأشهر والسنون وتتزوّج الأخوات الواحدة بعد الأخرى، ويتزوّج الوالد، وينهي سمير دراسته الثانوية ويتابع دراسته الجامعية ويبدأ بالعمل ويتزوّج ويُرزق بالأولاد والبنات ويكوّن أسرة سعيدة، ولكنه ظلّ حينما يختلي مع نفسه يشعر أنّه مقيّد بسحابة بيضاء تضيق عليه كلّ يوم.

الأشهر الأخيرة كانت الأقسى والأصعب.. كان يشعر أن عالمه ينهار عليه، كان عندما يزور شقيقته الكبرى ويقف أمام سريرها يشعر بتمزّق داخليّ، لا يعرف كيف يفسّره حتى لنفسه. كان يخاف عليها أن تذهب وتتركه ولا تعود كما فعلت أمّه قبل سنوات بعيدة، وجودُها كان التّعزية له، ورؤيتُها تُغنيه عن التي تركته وغابت، حتى أنّه مع الأيام نسي أمّه وحتى اسمها، وعندما أضاف صورتها التي أعطته إيّاها شقيقته الصغرى إلى جانب صور أفراد الأسرة لم يرتح لها وبعد أيّام قام بنزعها من مكانها.

وها هو الآن يرى شقيقته تلوب أمامه وتتوجّع ولا يستطيع فعلَ شيء. حتى الأطباء نفضوا أيديهم وقالوا:

-لا أمل، ساعات أو أيام فقط.

وكما في كل ليلة يدخل غرفته ليجلس وحيدا ويضيع في بياض السّحابة المحيطة به، ويتساءل بألم:

-أيمكن أن يحدث وترحل؟!

حتى كان الأمس، لم يستطع مُقاومة النُّعاس بعد يوم صعب وطويل، ولكنه ما كاد يستسلم للنوم حتى رنّ جوّاله وإذا بالمُمرّضة من المستشفى تطلب منه الحضور بسرعة لأن وضع شقيقته في تدهور. وسارع مع زوجته وشقيقته الصُّغرى، ولكنهم عندما وصلوا وجدوها قد فارقت الحياة.

ومرّ الأسبوع الأول والثاني والرابع وهو، كما في كلّ ليلة بعد أن ينام الجميع، يجلس على كرسيه في غرفته، ينظر إلى صورتها، يحاول استنطاقها ولو بكلمة، تبتسم له، يفرح، تصطدم عيناه بالفراغ الذي تركته الصورة التي نزعها من الحائط، يرتبك، يعود لينظر إلى صورتها وبسمتها، لا يرى شيئا، السحابة البيضاء غلّفته من جديد، وفقط كلمات الإمام الواضحة يسمع:

"إنْ كانت مُحسنة فزدْ من حسناتها وإن كانت مُسيئة فتجاوز عن سيئاتها".

وساد الصّمت.

فتح عينيه، كانت تنظر إليه وتبتسم.

لم يكلّمها، ظلّ يتأمّلها طويلا ودموعه تنسكبُ هادئة..

فقد أدرك أنّ أمّه قد ماتت بالفعل.

تابع النَّظر إليها، أراد أن يهمس لها ببعض الكلمات، أن يسألها إذا كانت ستعود، لكنه شعر بضعف كبير وتراخ في كلّ جسمه فهمس بصوت مخنوق:

أخيرا ماتت أمّي

أخيرا ماتت.. أمّـ.. مي.

***

قصّة: نبيه القاسم

......................

* من قصص المجموعة القصصية "لماذا فعلت ذلك يا صديقي" التي ستصدر قريبا

 

في نصوص اليوم