نصوص أدبية
فرات المحسن: ثمن النصر
نهاية الحرب ما عاد الجنود المكدودون بحاجة لرصف الاطلاقات وتلقيم متاريس المدافع. صمت دوي الرصاص أيضا، واختفى أزيز أسراب الطائرات والتماعها خلف الغمام.
عند شرفة تطل على ساحة الاحتفالات الكبرى، راح القائد يتبختر بغترته البيضاء وعقاله الأسود وعباءته الموشاة بالذهب. يلوك ابتسامته الحيوية لتبدو وكأنها لبطل هوليودي. رفع يديه ولوح بحركة تفخيم يريد بها إمساك الغيم لشعوره الفياض بالنصر. أصابعه الغليظة تطيل متعتها وهي تخرم الفضاء ببطء شديد.
صورة بإطار منمنم وبحجم كبير تتدلى تحت سقف المنصة، يقبل فيها القائد رؤوس الأطفال مثل قديس، ويبارك لهم مستقبلهم، ويمسح على رؤوس المقعدين، ويمنح جنوده الأوسمة لشجاعتهم في القتل. بات المؤمن الفاضل ترتل له الأناشيد وتصدح له ألحان شعبية. هكذا بدا بعد أن خمد أوار الحرب واستسلم الخصوم.
لم يكن يعنيه دون ساعة نصره، مشهد رعيتة وهم يتجمهرون تحت قدميه مثل أنعام ملونة تتمايل رقصا. أنشدوا له بعد أن تزاحموا حشودا دون نهايات. طوقت الجموع الحافات السفلى للشرفة. أرتال نساء متلفعات بالسواد ورجال بكامل أناقتهم وشباب ارتدوا تشيرتات رياضية فاقعة الألوان وشابات يزهين بفساتين فضفاضة.
احدهم بدأ قبل الجميع، مارثون السباق، أجتاز الساحة وحيدا، داس بقدميه الحافيتين العشب الندي، وكان بسرعته الفائقة مثل أطلاقة مسدس صهر حديدها للتو، وصقل بعناية. أراد الوصول حيث يقف القائد، لكن رجال أشداء منعوه. هرولت بعده جموع، أطلقت سيقانها للريح، لتحضر مشهد قيامة نصر القائد، المنتصب مثل تمثال مهيب عند الشرفة المكرسة لوحدانيته.منتصبا كان تحت رايات ترفرف عاليا معلنة له المجد والمسرة وعلى الناس الخضوع.
تسمرت بأعوامها الستين مثل شجرة خاوية، أحست بألم حاد يضغط على رقبتها، وما عادت تستطيع اللحاق بالحشود.ثقل تنفسها وازداد لهاثها وارتخت قدماها، ترنحت واستدارت نصف دورة ثم هوت. كان العشب نديا لامس خدها الأيسر فاستطابت برودته. ولأنها اعتادت طيلة حياتها معالجة الأمور دون عون الآخرين، ولأن حياتها انفرطت فباتت تخلو من أهمية، لذا لا تود وهي تتوسد العشب، أن يرثى لحالها أحد، فأغلقت فمها تماما.ولكن عينيها بقيتا تطوفان بعيدا حيث يقف المنتصر عند منصة الاحتفال.
ــ ما الذي حدث يا أمي؟
- لا شيء ياولدي فقط أردت الوصول حيث يقف المنتصر ولكني تعثرت.
ــ ولكنك تبدين متعبة.
ــ نعم ولكن علي الوصول إليه.
- انه يقف بعيدا.ولن يشاهدك فهو في ذروة نشوة انتصاره.
ــ أعرف هذا ولكن المهم أن أصل إليه.
ــ وما نفع وصولك حيث يقف؟
ــ أردت فقط أن يحقق أمنيتي في يوم نصره، أن يعيد لي ولدي الوحيد الذي ذهب للحرب قبل ثلاثة أعوام دون أن أعرف عنه شيئا.
.........................
كان هناك
كان غارقا في تيه وضياع يطبقان على روحه طيلة يومه، حبيسهما دون فكاك. مازالت تتواتر بذاكرته المعطوبة لحظة من مساء أمس، حين لكزه أحدهم في خاصرته ونبهه عن ورود اسمه الذي تردد على لسان الحارس ذي الشارب الكث والعيون الجرذية الناطة . تسلسله في قائمة الأسرى المفرج عنهم، كان السابع عشر. نهض متباطئا وتلفت يمينا ثم شمالا بربكة وحذر، فربما يكون هناك أسير آخر بين هؤلاء يحمل ذات الاسم، فقد تكرر تعذيبه لمرات عديدة، مذ وطئت قدماه هذه الأرض الغريبة أسيرا.
تشابه أسماء، هكذا أخبروه ، في كل مرة يستدعونه للتحقيق، وكرروا ذلك بخبث . بعدها وربما قبلها بكثير، ماعاد يملك اليقين بحدوث هذا، ولا الاعتقاد بما حمله من أسم، ربما كان له ذلك، ولكنه كف عن البحث في باقي متعلقات حياته، لذا ما عادت التسميات بذات شأن.
ضربة موجعة خبطت رأسه تقلصت معها عيناه، فهرول بخفة ورأس مطأطئا، ليحشر جسده المتهالك عند أول كرسي جلدي في السيارة الذاهبة خارج المعسكر نحو مطار المدينة.
تسلق سلم الطائرة بقفزات عجولة وجلس عند أقرب مقعد جوار النافذة. مد بصره وبعيون ذابلة فزعة حاول عبر النافذة لملمة ألوان البنايات المرصوفة عند الطرف البعيد. حملق بشرود وبلادة في الفضاء الواسع المغبر الممتد خلف مجموعة الطائرات الجاثمة عند المدرج القريب، ثم أدار نظره نحو السماء الملبدة بالغيوم.
تابع غيمات نحاسية كانت تلامس جناح الطائرة في تلك الزرقة السماوية الباذخة المساحة، وضوء احمر يومض بذبذبات رتيبة عند الطرف المدبب لجناح الطائرة وهي تحلق عاليا. ود لو استطاع القفز والإمساك بكوة ذلك المصباح ليتدلى جسده ويتهادى سابحا في الفضاء الشاسع، يتقاذفه الهواء بخفة مثل ريشة، يحرر صدره من أزرار القميص ويصرخ بأقصى ما تطلقه حنجرته.
ساعة هبوط الطائرة كانت قدماه عند المغادرة وبخطوات قصيرة ثقيلة، مذعورتان تتلمسان السلم بتثاقل وحذر. أهمل أصوات كانت تحثه للإسراع بالحركة والانتظام بالسير مع باقي رفاقه في المجموعة.
تأبط منشفة تدلت منها خيوط وكلح لونها بمرور سنوات التنقل بين أقفاص الأسر. سار وئيدا بتثاقل نحو باب سيارة النقل. شعر بشيء من رهبة وخوف، فرغب بالعودة حيث مقعده داخل الطائرة،بل الرجوع إلى هناك، عند الغرف ثقيلة الهواء شحيحة الضوء، يتردد بين جدرانها صراخ وأوجاع الأسرى،ويخيم الخوف في فضائها من المجهول حين إطلالة فجر.
ستة أعوام من رعب وتعذيب وأمراض، قضاها يتنقل مثل بهيمة بين سجن وأخر، من قفص لأخر. ما عادت ذاكرته تستحضر ولو نتفًا مما عافه هنا أو هناك، فجميع الأشياء اقتلعت ملامحها من عقله، ولم يعد لها ما ينفع للبقاء، وبات يشعر برعب ثقيل يتلبسه كلما أجبر على الانتقال لمكان جديد.فما كانت تنتظره غير جولات تعذيب وكومة شتائم.
ساروا بهم نحو بناية مرمية بإهمال حيث الطرف القصي للمطار. رصف مع الآخرين أمام ضابط كان يلهج بترحاب مبتسر وابتسامة مغتصبة، تخرج من بين شفاه متيبسة. سأله عن أسمه، فردد ما قيل له وحفظه لكثرة ماسمعه في الأسر،رجب مناهي مكَوطر، وتوقف. ثم لفه صمت ثقيل، رغم سماعه إلحاح الضابط وبصوت أجش غاضب، طالبًا منه إكمال باقي المعلومات. الاسم كاملا، التولد، أسم الأم، العشيرة، هل راسلت أهلك أثناء الأسر، كيف كانت أوضاعكم هناك.
ركز نظره بوجه الضابط ببلادة وضحك، لحظة كان رأسه فيها يتسكع في تيهه البعيد، فاستدار وطالع وجوه باقي المجموعة، وكأنه يحثهم للإجابة بدلا عنه. أعاد الضابط بابتسامة شاحبة وبعجالة تكرار أسئلته. هز رأسه بتثاقل وتمتم بصوت خافت مرددا دون يقين، رجب مناهي مكوطر وضحك ولوح بيده في الهواء.
دمدم الضابط بشتائم مكتومة ثم اطرق رأسه نحو الأرض، وراح يلتقط أنفاسه بصعوبة، وصدر عنه لهاث مسموع. سحب الورقة التي أمامه وطالع بعض سطورها، ثم التفت صوب الباقين، وبوجه شاحب صارم طلب منهم، إن كانوا يعرفون شيئا عن هذا الجندي .
ــ انصتوا جيدا، هل بينكم من لديه معلومة عن صاحبكم هذا، فليس له في هذه الأوراق غير الاسم .
ــ كان قد جيء به من أقفاص الأسر في الشمال القصي من تلك البلاد، لا نعرف عنه سوى اسمه، عاش بيننا صامتا طيلة الوقت، لا يشاطرنا غير فترات الطعام و أعمال السخرة. هذا كل ما عرفنا عنه.
***
فرات المحسن