نصوص أدبية
ناجي ظاهر: سيدة الفواتح
وقعت احداث هذه القصة بعد حرب الايام الستة عام 67. وكانت بدايتها بعد ان انفصل ابو النور الاصغر، عن والده ابي النور الاكبر فاتح الاقفال المشهور في حارة السوق، ليفتتح حانوتا اخر لفتح الاقفال، في فم السوق، تلك كانت منطقة مركزية يمر بالقرب منها كل عابر، وهي بهذا تعتبر باب رزق واسعا، يمكنه استقبال الكثيرين. ومثلما فعل ابو النور الاكبر، حرص الاصغر على الا يُشغّل احدًا في حانوته خشية ان يسرق الصنعة، فيشيع سرها ويقل بالتالي المتعاملون معها، وقد كان بإمكانك ملاحظة هذه السرّية التي عمل ابو النور ضمن حدودها، جاعلا اياها واحدا من اسرار شبابه التي يحرص عليها حرصه على براعة يديه الموروثة ونور عينيه الموهوبة. هكذا تحصن ابو النور الاصغر وراء مفاتيحة واقفاله العصية على الانفتاح، مع معرفته التامة بنقطة ضعفه وهي الجميلات اللواتي يعبرن طوال الوقت تقريبا بالقرب من حانوته. اما اذا كانت احداهن تدخل الى حانوته للبحث عن بديل لمفتاح ضائع او قفل مكسور، فقد كانت تعلق في سين وجيم اضافة الى اسئلة لها علاقة حينا.. وليس لها علاقة احيانا.
وقع في احد ايام ايار الساخنة اللاهبة، حدث لم ينتبه اليه ابو النور جيدا، واخذ يكبر رويدا رويدا، حتى كاد يملا دكانه ويستحوذ على كل اهتمامه. كان ذلك عندما دخلت دكانه امرأه ذات ملامح جذابة، يزيد في جاذبيتها انها كانت سمراء، الا انها لم تكن على قسط كبير من الجمال. اتخذت تلك المرأة مجلسها على المقعد المخصص لزوار الدكان ورواده، وهي تعلن عن تعبها من طول الطريق وضيقها الشمس اللاهبة. قدم لها ابو النور الماء البارد.. وتابع عمله. لقد فهم انها مجرد زائرة تريد ان ترتاح فترة قصيرة من الوقت.. بعدها تنصرف، غير ان جلوس تلك المرأة على مقعدها ذاك طال قليلا، فما كان من ابي النور الا ان توجه اليها قائلا: ان مشهد الشارع المحاذي لدكانه يغري بالجلوس، فردت عليه المرأة السمراء بسرعة من اعد الجواب وحفظ الدرس قائلة، انها قعدة لا تعوض، وانها مرتاحة جدا في جلستها تلك، ولما كان العمل قليلا في تلك الفترة بسبب " الميتون"، والبطالة التي عمت البلاد جراء الحرب. فقد انس ابو النور لتلك المرأة وراح يمارس عمله في اصلاح الاقفال واعداد المفاتيح مستعرضا كل ما ورثه من مهارة عن والده ابي النور الاكبر، وراحت المرأة تسترق النظر اليه موحية له بعدم اهتمامها بما يفعله، الامر الذي شجعه على العمل اكثر واكثر.
بعد قرابة الساعة استأذنت المرأة السمراء في الذهاب، فاخبرها ابو النور انه بإمكانها ان تبقى فترة اطول اذا راقت لها اجواء السوق، قالت المرأة ان هناك مشاغل تنتظرها في بيتها القريب، فرد عليها صاحب الدكان قائلا: ما دمت جارتنا بإمكانك ان تزورينا في اي وقت تشائين.
ابتسمت المرأة ومضت في طريقها خارجة من فم السوق.
في اليوم التالي اقبلت المرة على دكان ابي النور وكان منهمكا في اصلاح قفل استعصى عليه اصلاحه، فملأ وجهه العرق وعلت وجنتيه حمرة طارئة خشية ان يفشل في اصلاحه، ارسلت المرأة نظرة باسمة نحو ابي النور، واردفت قائلة إن جارها سبقها الى المحل وان اصلاح ذلك القفل استعصى فعلا على التصليح. ادرك ابو النور ان المرأة هي من ارسل اليه صاحب القفل فابتسم وتابع عمله وهو يفكر في تلك الرزقة التي هبطت عليه من السماء القريبة.
اتخذت المرأة مجلسها ذاته وراحت ترسل نظرة الى الشارع المحاذي العامر بالمارة، وعشرا الى ابي النور، شعر ابو النور بما تقوم به تلك المرأة فقام بمفاجأتها بنظرة معاكسة، خجلت المرأة واخفضت عينيها، خفرا وحياء. سر ابو النور لتلك النظرة ورأى فيها بادرة خير ارسلها اليه الله ويسّرها رضا الوالدين. تحدث الاثنان، صاحب الدكان وزائرته، عن الاوضاع الصعبة التي خلفتها تلك الحرب المفاجئة القذرة المدمرة، وتوصل الاثنان بيسر وسهولة الى اتفاق قضى بان تجلب له تلك المرأة اصحاب الاقفال المستعصية وان تأخذ عمولتها اولا بأول.
في اليوم الثالث ابتدأ العمل بالتحرك وشهد ازدهارا مفاجئا وغير متوقع، الامر الذي جعل الابتسامة ضيفة دائمة الحضور على وجه ابي النور، ومنح تلك المرأة الشعور الطيب بالانتماء الى ذلك الدكان، فطالت جلساتها ساعة اثر ساعة ويوما اثر يوم، وقد الهت كثرة العمل ابي النور، فكاد ينسى وجودها في الدكان، واقبل على عمله منتشيًا ، مبتسمًا وفرحًا، في حين تابعت سمراء السوق كل حركة ونأمة يقوم بها ابي النور في اصلاح الاقفال، والعثور على المفاتيح الملائمة التي يمكنها ان تفتح مغاليقها فتجعلها سهلة الفتح.
مضت الايام وباتت تلك المرأة واحدا من مشاهد دكان الاقفال المألوفة المعهودة، لدى السوق واهله، وكانت تلك المرأة، اذا ما غابت وقتا ما لهذا السبب او ذاك، شعر صاحب الدكان بغيابها، وانهال عليها حين حضورها بالسؤال تلو السؤال عن سبب غيابها، الامر الذي جعلها تشعر بأهمية وجودها.. وهل يطلب الواحد منا، اكثر من ان يكون له وجود لدى اهله والمحيطين به؟
هكذا شهد عمل دكان أقفال ابي النور ازدهارا فاق كل تصور، وتمكن، بفضل تلك الزائرة من التغلب على ما خلفته الحرب من بطالة وصياعة، بل ان اعمال الدكان اخذت بالتوسع، فراح صاحبه يفكر فيمن يساعده فيه، وهنا وقعت المفاجأة التي سيكون لها ما بعدها. قالت المرأة ولماذا تبحث عن مساعد لك وانا موجودة هنا قريبة منك، واعرف كل صغيرة وكبيرة في هذا المحل العزيز الغالي؟.. فوجئ صاحب الدكان مما قالته فسألها عما اذا كانت تعني ما تقوله، فأكدت له انها تعلمت المهنة وان معرفتها فيها لا تقل، بعد كل ذلك الوقت، عن معرفته هو ذاته.. بها وبأسرارها. ارسل ابو النور نحو المرأة ابتسامة ساخرة، مرفقًا إياها بغمزة من طرف عينه، وتناول قفلا بدا انه وضعه قريبا منه لوقت الحاجة، وأهاب بها قائلا: "فرجينا شطارتك". تناولت المرأة القفل، واعملت يدها به فاتحة اياه بسرعة الرغبة، ومعدلة ما اختلط من اعضائه وقطعه الدقيقة، وقدمته الى صاحب الدكان مفاجئة اياه بما لم يكن يتوقعه في اكبر تخيلاته.
في تلك اللحظة ابتدأت فترة جديدة في حياة دكان ابي النور للاقفال، وبات بإمكانه ان يوسع عمله اكثر واكثر، وكثيرا ما كان، في الفترة التالية، يترك سمراء لاستقبال زبائن الدكان وتصليح ما احضروه من اقفال معطلة، بل انه كثيرا ما كان يرسلها لإصلاح اقفال سيارات تعطلت اقفالها تاركة اصحابها في الخلاء.. خارجها.
مضى عمل الدكان على هذه الحال.. من تطور الى آخر، الى ان التفت صاحبه ان الناس يطلبون ان تصلح لهم سمراء اقفالهم، مؤكدين براعتها في التصليح وسرعتها في العمل، وقد دفع هذا كله صاحب الدكان للتفكير بما نزلت عليه به الدنيا من اوضاع مركبة.. معقدة، فاخذ يفكر اناء الليل واطراف النهار في تلك الجنية التي سرقت منه الصنعة وبرعت في معرفة اسرارها دون ان يدري، وبقي مفكرا ينام مفتوح العينين، الى ان خطرت له في احدى الليالي خاطرة، لخصها في السؤال الحاد التالي: ترى ماذا سيحل به اذا تركته سمراء وافتتحت محلا آخر لفتح الاقفال؟ وسرعان ما جاءته الاجابة.. ما ان بزغ فجر اليوم التالي حتى فتح دكانه مبكرًا مبكرًا .. وضع غلاية القهوة على الببور الساكت.. وجلس هذه المرة ينتظر سمراء.. ليعرض عليها.. الزواج منها
***
قصة: ناجي ظاهر