نصوص أدبية
تماضر كريم:... في رُباك
لم يبق في ذهني من تلك اللحظة سوى الضحكات، غاب عني كلّ شيء، وجوه أساتذتي، والطالبات، وسارية العلم الممتدة أمامي بثبات، وخفقة العلم بألوانه الأربعة، للحظة، لم أعرف أين أنا، ثمة شيء ما حصل،يشبهُ غرقي في عمر العاشرة، لازال إحساس الماء حياً وهو يبتلعني، ويجرّني للأسفل، بينما قدماي تلبطان، هبطت بعض العتمة، ونفد كلّ الهواء من حولي، لولا أن كفين أحاطتا بي.
في حضن والدي عرفتُ أن عمراً جديداً بانتظاري. إنه ذات الإحساس، بنفاد الهواء، والسقوط نحو القاع، عدا أنّ لا كفين ترفعاني الآن، هناك في مكاني، حيث أواجه العار وحدي. والعيون تحدق بي، كانوا يضحكون، ويهمهمون بأشياء لم أستبنها، فيما كنتُ متسمرةً أمام الجموع، كأني أضعتُ الطريق إلى حيثُ يجب أن أعود.
كانت اليد التي جذبتني مختلفة كثيرا عن اليد التي حرّرتني من الماء، بدت قاسية قليلا على ذراعي وهي تزحزحني عن البقعة التي أقف فيها
لأعود إلى مكاني بخطىً متعثرة.
لا أذكر جيداً كيف مرت الساعات، كانت شديدة الوطأة، بدا لي الكون عيناً كبيرة واحدة تحدق بي، وتتهمني بالغباء والبلادة. كلّما رفعتُ رأسي، أربكني مشهد العين المخيفة.
في طريق الإياب إلى المنزل، لم أمر بالدكان كما اعتدت يومياً، لشراء الكاكاو إلى شقيقي ذي الثلاث سنوات، خطر لي أن صاحب الدكان سيقول شيئاً ما، خفضتُ رأسي وانسللتُ إلى المنزل، وعلى الفور دخلت غرفتي.
ثمة صمت مريب، لم أعتده يوماً، صمت ثقيل وكئيب، حتى صوت أمي وهي تناديني للجلوس على مائدة الطعام بدا جريحاً. أما أبي القريب مني فقد لاحت منه نظرة مرتبكة، سرعان ما حاول مداراتها، فيما راح أخي الصغير يقطع الصمت بهمهمات غير مفهومة! يقيناً أنهم علموا بما حصل! الأخبار هنا تنتقل مع الهواء،
كيف أشرح لهم أنها لحظة من لحظات القدر، حيث كنتُ أحلّقُ مع كلمات النشيد الوطني، وعينيّ ترنوان بزهوٍ إلى العلم وهو يرفرفُ مع الريح: (موطني ..موطني..البلاء والشقاءُ في رُباك)! ثم انقلب كلُّ شيء مرة واحدة، صارت السكينةُ ضجة، والخشوعُ ضحكاً، والعنفوانُ سخرية مرّة.
في غرفة المديرة، ذات الصوت الغليظ، والعينين المحاطتين بخط متعرج من الكُحل، والنظارة ذات الإطار الأسود السميك، كان عليّ أن أبرر إهانتي للعلم الوطني أمام الجميع،
حاولتُ عدم التفكير في عيني المديرة المضحكتين مع ذلك الكُحل الرديء، والتركيز فقط في الإجابة على سؤالها المدوّي: (كيف تجرؤين على إهانة الوطن والعلم أيتها العاقة)؟
من مكانٍ قريب جاء صوت أستاذتي الخائب: (إخترتكِ لأنك أفضل طالباتي! كيف تفعلين ذلك)؟!
-(قولي! هل تعمدتِ ذلك)؟ صرخ مدرّس الرياضة، وهو يشدُّ العلم على كتفيه، مثل معطفٍ أو دثار.
إختلطت الأصوات، بينما ضاع صوتي، غار في زاويةٍ قصيّةٍ من روحي،
وجه المديرة بات قريبا، وصوتها حادّاً،
والكُحل سخيفاً بدرجةٍ دفعتني للضحك، أمسك بي معلم الرياضة، من ذراعي، هتف قائلاً: (نعم عرفتُ أنها عامدة ...انظروا إنها تضحك)!
وقعتُ على ورقة استدعاء والدي،
وأنا خارجة كان صوت المديرة يلحقُ بي: (مكانُك في السجن مع الخونة)!
نظرتُ إلى وجهِ أبي، بدا حزيناً، ويخفي كلاماً كثيراً، أشفقتُ عليه، كيف سيواجه غداً حقيقة أني خنتُ النشيد الوطني، في مكتب المديرة، وأمام الأقارب، والجيران، يا للهول! سيكون ظهره منحنٍ، ورأسه للأسفل،
حملت أمي الصحون بصمت، لم يأكلوا كما في كلّ يوم، حتى إنها لم تطلب مني أن أساعدها، هرعتُ إليها، لكن صوت أبي باغتني، بنبرةٍ هادئة ودودة:
(ندى هاتي لي سجائري)!
رباه توقعتُ شيئاً آخر، لكن عينيه لازالتا ساهمتين، إنه على وشك أن يسألني، ويؤنبني، كيف استبدلتُ السناء والبهاء بالبلاء والشقاءُ!
هاهو ينفثُ الدخان، ويذهب بأفكاره بعيداً، لاشك أنه قرّر تسليمي إلى الأمن الوطني، ليعتذر من الوطن والشعب، تأملتُ سكونه العميق، ودخان سجارته الرقيق مثل غيمة، ثم قررتُ أن أستسلم تماماً، سأمضي معه بلا مقاومة، وأعترف بأني أنا ندى ذات الستة عشر عاماً، في الصف الخامس الإعدادي، قد أهنتُ الوطن والعلم والنشيد الوطني، ولن أعترض على حكم الشعب مهما كان.
عندما شرعتُ أغسلُ وجهي صباحاً، وأرفع خصلات شعري التي بعثرها النوم، رأيتُ أبي يُكمل هندامه، عرفت أنه بانتظاري، هو لا يريد الحديث، لكن عينيه قالتا كلّ شيء، وخطوات قدمية الثقيلات، غيرتُ ملابسي بسرعة، ومضيتُ دون أن اتوقف عند أمي الواقفة بقلق قرب باب المطبخ، خطر لي أن اعانقها، لكني لم أرد جعل الأمر صعباً، قبلتُ أخي قبلة خاطفة، ثم رافقتُ أبي إلى الخارج، ظننتُ أنه وقت مناسبٌ للحديث، لكن ثمة أصوات تأتي من المدارس القريبة، تقطع الصمت بضراوة، صادحةً: (موطني.. موطني.. السناءُ والبهاءُ...)، إرتجفت شفتا أبي، يقيناً أنه تذكر، ربما أصبح الآن أكثر تصميماً، كُنا على وشك صعود السيارة عندما داهمتنا همهمات ذلك الرجل المسن الغريب ذي الملابس الرثة، والسُحنة الشاحبة، بدت المرارة جلية في نبرة صوته الخافتة (موطني.. موطني.. في رُباك)، جفل أبي وهو يمسك بي مخافةَ أن تلامس كتف الرجل جسدي، شاهدناه وهو يترنح، ويبصق ويهمهم، حتى ابتعد.
كنا نسيرُ بخطىً هادئة، وقد خفتت من خلفنا الأناشيد، تاركين خلفنا مبنى مدرستي، ومبنى الأمن الوطني، صامتين تماماً، قبل أن تنتابنا نوبة ضحكٍ هستيرية.
***
قصة قصيرة
تماضر كريم – أديبة وكاتبة عراقية