نصوص أدبية
أحمد غانم: عيون مستورَدة
العرض كان مغريًا جدًا، فلم أستطع الرفض، وقد انهار كل شيء من حولي فجأة إثر سقوط نظام من تبعات كيان عظيم خفقت أعلامه على مدى عقود في أصقاع الأرض، وقد كنتُ من أحد حماته المتخفين عن العيون أغلب الوقت.
هكذا وجدتُ نفسي في بلد ما كنتُ أسمع به إلا نادرًا، وعلى نحو سريع، فهو من البلاد التي لا تقع على خط اي اهتمام أمني، وبالتأكيد لم أتوقع أنه سوف يكون ذات يوم مأوى هزيمتي، من بعد شتات في سوق الأسلحة المهرّبة من ثروات بلدي نحو كل صوب من العالم الجديد، وأني سوف أصير من ضمن الأملاك المتَنقلة بيَد من تكون له سطوة الدفع أكثر، بل خالجني الأحساس أول فترة المكوث في البلاد الغريبة أني أستُقدمتُ مثل الكثير من الراقصات والفرق الاستعراضية التي أخذت تنثر فنونها في مرامِ الشهوات المستثارة والمزدادة تدفقًا من حطام الأحلام المتهاوية، وألقاني عصفها إلى خدمة سيادة الرئيس هنا.
كنتُ من أبرز رجال الأمن في عهده الجديد، والذين شغلوا مناصب القادة العسكريين ممن ساندوه في الانقلاب على الرئيس السابق للبلاد، مع ذلك لم ألتقه إلا مرات قليلة، لأن عملي كان ينصب بالدرجة الأساس على ترصُد حركات المعارضة في الخارج، وكتابة التقارير عنهم، ثم إرسالها إلى مكتب أحد مساعديه المخلصين، والذين يُستَبدلون كل فترة بدورهم، وأيضًا إعداد خطط الاغتيال إن جاء الأمر بذلك، ولذا توَجبَ عليَ السفر أكثر الوقت بين البلدان التي تأوي مثل هؤلاء، أو تلك التي يتنقلون بينها لغرض تلقي الدعم من هذا الطرف أو ذاك، وفي بعض الأحيان كنتُ أشارك بنفسي في تنفيذ مثل تلك العمليات التي أحرص أن تكون شديد الإحكام، والقادرة على بعث الخوف في نفوس أعداء النظام.
كانت مهنة سهلة بالنسبة لي، ومثيرة في ذات الوقت، لأني تحديتُ من خلالها كل ما تراكم فوق صدري من وهَن وكسَل إثر تجريدي تلك الوضيفة الأمنية المرموقة وشديدة السرية في بلادي، وفي النهاية الجميع غرباء عني، فلأكن زناد من يملك ثمن الرصاص، أما مسدس السلطة فهو ذاته في كل نظام وعهد، مهما اختلفت التفاصيل، وإن كنتُ قد فقدتُ الحماس القديم المتشبع بكل ما وعيتُ عليه منذ كنت صغيرًا، فلم يعُد هناك وطن أحارب لأجله أو أموت في سبيله بلا تردد، وقد تم الاتفاق على مبلغ من المال أتسَلمه بعد كل عملية اغتيال ناجحة، بالإضافة إلى الراتب الكبير والامتيازات المادية التي تضَمَنها عقد توظيفي منذ البداية، ولأني لم أفشل في أية واحدة فقد تم نقلي إلى دائرة أمنية تابعة للقصر الجمهوري، كل من يعملون فيها من الأجانب، عدا بعض الموظفين الصغار، كانوا من مواطني البلد، جلَهم أولاد وأقارب المسؤولين المرتبط بقائهم بحاكم البلاد، وكذلك منفذي عمليات الاعتقال والمشرفين على شتى أساليب التعذيب، فالمواطن عادةً لا يرهبه إلا ابن بلده، وهو الأعرف بكيفية إذلاله وإجباره على الاعتراف بما فعل وما لم يفعل، وكذلك الوشاية بالآخرين، حتى لو كان أولئك الآخرون ممن لم يلتقِهم يومًا، وقد أُعِدت أسماؤهم ضمن قوائم من يفَضَل التخلص منهم، ولأسباب قد تخضع لتصفية حسابات شخصية للرجال البارزين في الدولة، تحت مسَمى (الامتيازات الثورية) فكل صاحب منصب رفيع من حقه التخلص ممن يريد، وإن كان رفيق دراسة أو صديق قديم تعارك معه في يوم من الأيام لأي شأن من شؤون الصبية التي لا تلبث أن تتهاوى عن الذاكرة سريعًا.
نظام معقد، بما تسيطر عليه من شخصيات، كان لا بد لي من محاولة دراستها قدر المستطاع، ودون أن أثير الريبة في أني قد أفعل ذلك من أجل توجهات شخصية، ربما تكون مدفوعة الثمن من جهة خارجية، خاصة وأن الكفاءة في مثل هذه البلاد قد تصير مصدر خوف أكثر مما هي مبعَث امتنان، لذلك كان لا بد من المحافظة على مسافة، حدودها غير ملموسة، بين نوازع شتى تتحكم بقيادة البلاد أكثر من أي قرار معلَن أو خطاب حماسي يثير صخب الهتافات في الساحات العامة، تلك التي رحتُ أتجول فيها كسائح يحب التقاط الكثير من الصور هنا وهناك، خاصة في الزوايا والأركان التي قد لا تثير الانتباه عادةً.
كانت تأخذني السخرية من كثير من القضايا التي كنتُ أكَلَف بمتابعتها، رغم اجتهادي في تحَري كل تفاصيلها حتى النهاية، خاصة تلك التي تتعلق بمجموعة من الشباب الذين يجتمعون وتأخذهم الثرثرة للتكلم عن الديمقراطية وحق انتخاب الحاكم بكل حرية، دون تهديد بأبسط مقومات الحياة…
كل ذلك في النهاية مجرد لغو لا يستحق الاهتمام، على العكس تمامًا، مثل تلك التجمعات قد تكون أفضل وسيلة لامتصاص نقمة الشعوب المقهورة، كي لا ينفجر البركان ذات يوم، ومثل هذه البراكين قد تخبو سريعًا، وقد تلتهب حمَمها إذا ما حان وقت التغيير، بنفحات خارجية على الأغلب.
عرفتُ بعد ذلك بموت عدد من أولئك الشباب تحت وطأة التعذيب، وفي ذات الوقت تضاعفت الامتيازات المالية، وهذا هو الأهم بالنسبة لي بالتأكيد، ومن حسن الحظ أن مثل هذه القضايا لا تنتهي أبدًا، وإلا كان ذلك مدعاة قلق من قبَل القيادات العليا، بالإضافة إلى التنظيمات التي كانت تمثل خطرًا حقيقيًا لا بد من التصدي له، مع شيء من التهويل كي تتراكم أموال أكثر في حسابي المصرفي في الخارج الذي رحتُ أتوق للانطلاق نحوه بعد الانعتاق من أسر الوظيفة التي راحت تضغط على أعصابي بصورة متزايدة مع تتابع السنوات في خدمة نظام تقليدي جدًا، مهما اصطنع من تجديد في اتخاذ التدابير الأمنية الصارمة، المهم أن يكون هذا بعد تأمين نفسي تمامًا، ولا أنكر أني في سبيل هذا الهدف لجأت إلى تقاضي الرشى وكتابة التقارير عن زملاء العمل من مختلف الجنسيات، ولا بد أن الآخرين فعلوا ذات الأمر معي، لكن يبدو أني كنت الأكثر براعة في دَس المكائد للكفاءات المستوردة، حتى صرت سبيل البعض للإيقاع بالبعض الآخر من القيادات المرموقة في الدولة التي كانت تبدو لي مثل بيوت الرمال، كان لا بد لي من إسنادها بأقصى ما يمكنني، فالمسألة لا تعدو أكثر من استثمار ما تبقى لي من جهد وقدرة على المواصلة بأفضل نحو ممكن، ولم أجد في نهاية المطاف سبيلًا للنجاة بحياة المليونيرات التي كنتُ أحقد عليها فيما مضى غير اغتنام الفرصة قبل فوات الأوان.
واتتني على دفعات من التصفية التي لا بد منها في كل نظام دكتاتوري، خاصةً لمّا قرر حاكم البلاد، الذي ظللتُ لا ألتقيه كثيرًا، التخلص من وجبة من أبرز مناصريه، خشية الإعداد لانقلاب ضده مستقبلًا، فقد كنتً أقوم بالإشراف الكامل على خطة التخلص من الرفاق القدامى، ليس هذا فحسب، بل ربط ذلك بجهة خارجية كان يريد الرئيس مجابهتها منذ زمن لأسباب عدة لا شأن لي بتحليلها ما دامت لا تعني مخططاتي بشيء، وقد عقدتُ من أجل ذلك الكثير من الاتفاقات والتحالفات مع أطراف خفية كي أقوم بمهمتي وفق إرادة سيادته على أتم وجه، ولمّا تم تنفيذ المخطط المعَد بعناية شديدة كانت مكافأتي الاستيلاء على كل ثرواتهم المصادَرة، كعطية من عطايا القائد المنتصر دومًا لأحد مساعديه الأوفياء، ولعله أراد فعل ذلك نكايةً بثوار الماضي الذين جعلهم عبرةً لمن تخطر على باله فكرة معاداته أو الغدر به مستقبلًا.
قررتُ الاعتزال أخيرًا، الخروج من الدائرة التي ظللت أدور داخلها منذ ريعان الشباب حتى تلبستني بالكامل، وقد عشتُ أكثر من حياة، كلٍ منها ضمن شعارات مختلفة عن الأخرى، وحسب إيقاع كل عصر، خاصة بعد أن تحقق لي أكثر مما كنتُ أتمنى، إلا أني لم أحسب حساب الهاجس الأمني لدى نظام يخشى من يعرف الكثير من أسراره أكثر من أي شخصٍ آخر.
تكررتْ محاولات الاغتيال، كل محاولة صرتُ أكاد أعرف بصمات مخططها، وكذلك جنسية المنفِذ غالبًا، أو على الأقل إن كان من أبناء البلد الذين أشرفتُ على تدريبهم في فترة من الفترات، أم من القتلة المأجورين الذين يُستعان بهم في المهمات الصعبة وغاية السرية، دون أن يعرفوا شيئًا عن الجهة الداعمة للعملية، وكوني رجل أمن قديم وشارك في خدمة أكثر من نظام، وفي أكثر من حقبة زمنية، فلم تكن مهمة اغتيالي بالسهلة أبدًا، الأمر الذي جعلني كثير التنقل من بلد إلى بلد، ومن مدينة نحو أخرى، حتى كدتُ أيأس من قدرتي على الاستمرار في حياة الترحال طويلًا، إلا أن عناد ما وُطدتُ عليه عمرًا كان أكبر من كل تحدٍ يواجه شعور العجز الذي أخذ يستبد بي وأنا على مشارف العقد السابع.
لم يستلب آخر أنفاسي كما ظنتتُ، فقد بدأت تتردد هتافات تغيير جديد، وبدوري صرتُ من أكثر مناصريه، ولو عن بعد، وهو يهلل بتباشير عهدٍ آخر يخفق برايات الثوار التوّاقين إلى الحرية، ولمّا تم استدعائي مرةً أخرى، بعد سطوع وهج الأحلام المباركة، كي أعاود الخطى إلى ذات البلد لم أستغرب، فأنا ومن مثلي عماد كل سلطة، مهمتنا دومًا الحفاظ على نظام كل وليمة تعيد توزيع المناصب والمزايا والنفوذ كل حين، كما أني لم أتردد في الموافقة، لأني في النهاية تأكدت أن الأمان الحقيقي للذين عاشوا مثل حياتي لا يتحقق إلا داخل قلعة أمنية أكون ممن أشرفوا على تصميمها ووضع كافة تفاصيلها المترصدة كل خطر من قبل أن يلوح في الأفق.
***
قصة: أحمد غانم عبد الجليل
كاتب عراقي
5 ـ 9 ـ 2023