نصوص أدبية
فرات المحسن: تلك الأيام المضنية (2)
هذا المرافق البولوني بزغ أمامي فجأة. وجدته بعد أقل من يوم، ممّا جرى مع المرافق الثالث، يطرق بابي ليلقي عليّ تحية الصباح بابتسامة عريضة ويقدم لي نفسه شارحاً مهمته التي كُلّف بها من قبل دائرة البلدية، مظهراً لي ورقة قرار المرافقة الممهور بتوقيع السيدة كاترينا. كانت رائحة دخان السجائر الكريهة العالقة بثيابه تبعث على الغثيان. سمحت له بالدخول ولكن لم يفتني أن ألقي عليه نصيحتي التي أكررها مع الجميع. على المرء أن يحذر من أن تعلق به رائحة السجائر، ولذا عليه أن يقوم بغسل فمه واستعمال الفرشاة أو العلكة لتنظيف أسنانه بعد كل مرة يتناول بها سيجارة، وإلا علق الدخان بملابسه وفمه، فكره الناس صحبته والتقرب منه.
ابتسم وولج نحو الداخل عبر الباب المفتوح، وهو يكيل المديح لنصيحتي هذه، وقال إنه سوف يفعل ذلك في المرات القادمة، لا بل سوف يفكر بخاتمة قريبة لعلاقته بالتدخين. ولكنه حين جلس على الكرسي المجاور لمقعدي نظر نحو الصفيحة التي كنت أستعملها لإطفاء السجائر اكتسى وجهه بملامح دهشة ظاهرة وقال وهو يزم شفتيه، وابتسامة صفراء علقت عليهما، بأني أعفر الشقة بالدخان، ويظهر أني مفرط بالتدخين، وهذا ما يبدو من كثرة أعقاب السجائر المرمية داخل علبة الصفيح الصغيرة. وزاد على ذلك بقوله إن دخان السجائر يعلق حتماً بجدران الشقة والأثاث والملابس، فلم لا ألاحظ ذلك وما دوافع نصيحتي التي قدمتها له إن كنت أهملها من جانبي. تلك اللحظة شعرت أن هذا الشيطان البولوني بدأ المعركة دون مقدمات، وهو يستفزني، لا بل يحتقر فكرتي عن موضوعة دخان السجائر، ويريد إحراجي ووضعي في الموقف الضعيف واتهامي بالرياء والكذب. جلب انتباهي حذاؤه العالي الكعب، المدبب، وبمقدمة دقيقة طويلة تبدو كمنقار طائر. دهشت وكتمت ضحكتي. كنت أعرف أن هذا النوع من الأحذية لا ينتعله غير الصبيان وبالذات الوقحون منهم، وهو يدل على شخصية مستهترة قليلة التهذيب، عندها نبهته إلى أن حذاءه ربما يسبب نوعاً من الإيذاء لأرضية الشقة، فعليه أن يخلعه دائماً جوار الباب الخارجي. وأنبأته بأني تسلمت هذه الشقة قبل سنة مضت وحافظت عليها، ولا أسمح لأي كان تخريبها. ابتسم وهمّ بالوقوف وهو يسألني إن كنت أرغب قهوة أم شاياً. لم ينتظر مني الجواب فقد أعطاني قفاه متوجهاً نحو المطبخ فصرخت: أتعرف أين توجد القهوة... لم تسألني حتى.. فما كان منه إلا أن التفت نحوي ونظر لي شزراً وصرخ بوجهي: ما الذي يجعلك تصرخ هكذا....أيستحق الأمر ذلك.
كإحساس عارم لا يغالَب، سيطر عليَّ خوف غريب وشعرت بمدى ما أنا عليه من عجز أمام هذه النظرة القاسية الوقحة. يؤلمني دائماً أن أتذكر تلك اللحظة. لحظتها كان يتصاعد غضب عارم في أعماقي، ولكني كنت كمن تملكه رعب شديد فأطرقت نحو الأرض ملتزماً الصمت واستغرق الأمر كله بعض الوقت. ولكنه حين عاد ربّت على كتفي وهو يضع كوب القهوة أمامي وكانت شبه ابتسامة عالقة على طرف شفتيه فبادلته الابتسام على مضض.
حاولت أن أسبر ما تضمره ملامح وجهه لأكتشف ما ينوي عمله بعد لحظة المخاشنة التي صبغت لقاءنا الأول.كانت عيناه صغيرتين مثل عيني عصفور، تحيط بهما هالة رمادية داكنة بعض الشيء. كان من الصعب أن أكتشف ما تنويه تلك العينان المتلصصتان وهما تجوبان دون توقف في محاولة للإحاطة سريعاً بتفاصيل الشقة وهيئتي التي بدت في أقصى حالات رثاثتها.
كان مجرد تفكيري باللقاء الأول مع هذا الأخرق يجرح مشاعري ويؤذيني أيما إيذاء، وهذه المشاعر بدأت تتحول إلى كره بعد مضي الشهر الأول من مرافقته لي، وبدأت أشعر بأني اتخذت قراراً حاسماً بالوقوف في الضفة الأخرى، وهي ضفة أسميتها أخرى لأضع هذا الشيطان بعيداً عنّي بمسافة تعطيني القدرة على رؤية ما أريده بشكل مناسب. وضعته بعيداً عني رغم حضوره اليومي ووجوده جواري وقد قررت مقاطعته واخترت أن أكون وحدي حتى بوجوده.كنت أريد أن أثبت له قوتي وقدرتي على الخصومة. ربما شعر بهذا الشيء وحاول أن يكسر هذا الطوق ليعبر إلى ضفتي، ولكني قررت ألا أسمح له، لا بل أمنعه بكل ما أوتيت من سبل. بدأت أشاكسه وأناكده. وبدوره لم يكن يعاملني برقة ولطف، ولم أشعر ولو للحظة بغير ذلك، لذا وضعته في خانة الأعداء. فإن كان يحاول إثارتي بفضوله وتلصصه على أشيائي الخاصة فهو أيضاً يستفزني دائماً بعبارات مباغتة خشنة أحسبها أكثر ابتذالاً من وجهه العبوس وضحكته الشيطانية الساخرة.
الساعات الثماني التي يقضيها في مرافقتي بدت ثقيلة عليَّ مثلما هي ثقيلة عليه، وبدأت أحاديثنا شبيهة بألغاز. نزر من حديث متقطع حول أمور ليست بذات بال. كنت في أغلبها التزم الصمت طيلة الوقت، وكانت أسئلته وجمله الفجائية تغيظني، فأحاول عدم الرد، وأروح أطالع التلفزيون متنقلاً بين قنواته بسرعة دون توقف. ما كان يتذمر من ذلك أو يبدي أي استياء، بل يجلس ويروح يراقب حركاتي مبتسماً بتشفّ. الساعة العاشرة صباحاً يعطيني المجموعة الأولى من أقراص الدواء، ويذهب لغسل ملابسي ومن ثم ينظف ما اتسخ في الشقة، ويحضر لي بعض الأحيان شيئاً من طعام. وقبل نهاية دوامه يعطيني الوجبة الثانية من الدواء ويضع أمامي قرصاً أخر على الطاولة عليّ تناوله في المساء.
كانت أحاديثه تكتسي دائماً طابعاً غريباً يستحيل معه أن أكون فكرة متكاملة عما يريد أن يوصله لي. أعتقد أن لكنته البولونية واللغة السويدية التي يملكها كلانا، لا تنفع في التواصل بشكل ناجز. نحن نمتلك المزايا ذاتها في هذا الجانب، ولذا لا يمكن أن نخوض بشكل معمق في حديث متواصل. وأنا كنت، في أغلب الأحيان، أفضل الصمت وأترك له ما يشاء التحدث فيه. الحديث بهذر واصطناع المرح والخفة كانت أكثر مزاياه ظهوراً، لا بل لا يملك ميزة غيرها. جلّ حديثه عن حياته يدور حول إحدى القرى القريبة من وارشو، وكيف هي الحياة اليومية للفلاح هناك. كان يقلد ثغاء الأغنام وخوار البقر ونقيق الضفادع وزقزقة العصافير، وأصوات الحيوانات الأخرى، ليضفي على وصفه طبيعة الواقع، وكان يفعل هذا بصوت طافح بالفرح، ووجهه يكتسي حمرة وشغفاً باللحظة. كنت أبتسم في داخلي مستهزئاً بمحاولاته التي لا أدري كيف أفسرها. أحيانا، ومن خلال ثرثرته، أستشف وبشكل أكيد أنه يعتقد أني قدمت إلى السويد من عالم آخر يختلف كلياً عن عالمهم الأوربي. عالمنا لا يحوي غير صحراء جرداء يهيم فيها البشر، بحثاً عمّا يسد الرمق، ولذا لم تسنح لي الفرصة لمشاهدة الريف وسماع أصوات حيواناته، وكان في بعض الأحيان يفصح وبجدّ عن فكرته هذه. وفي أحيان أخرى يراودني ظن بأن ذلك الأمر جزء من الخفة التي تتلبسه دون مقدمات، ولا يمكن له كتمانها. وهذا ما توحيه بعض جمله أثناء الحديث. وحين يريد استفزازي وإثارتي، يروح في وصف الشرق، والعراق منه، بالبلدان الفقيرة غير المتحضرة، فيجدني قد استشطت غضباً، فيبدأ بإسباغ الفكاهة على حديثه ليبعد الجو الملبد بالشر. كان ترددي والحزن والكآبة الحادة التي تتملكني في أغلب الأحيان تجعلني في قلق وشك دائمين ينغصان عليَّ حياتي. حتى الترهات التي يفتعلها مرافقي تتحول في روحي إلى وساوس وأحاسيس غريبة من الخوف والانفعال يمنعانني من أن أستكين وأهدأ، فأشعر بالانقباض لساعات طوال، لا بل تأخذ مني تلك المشاعر أياماً طوالاً دون أن أستطيع إبعادها.
كان يخرج معي لساعة أو ساعتين، نتسوق ونقضي بعض الوقت في مسيرة تمتد جوار حافة البحيرة الواسعة التي تقع غير بعيد عن شقتي والطريق المفضي إلى مركز التسوق. إنه لشيء ممتع أن يصمت المرء وهو يطالع فضاءً من الزرقة يمتد بعيداً دون حوافّ أو حدود في فراغ أزرق رجراج، ويسير دون أن يطلب منه أحد ما، شخص ما، مزعج ما إيضاحاً عن شيء محدد. فسحة الوقت تلك والمسير نصحني بهما طبيبي الخاص قائلا إنهما أفضل من الدواء لاسترجاع عافيتي وقدرة ساقي اليسرى على الحركة. ومع تكرار المسير اليومي، بدأت أشعر بنوع من التحسن، أخذت معه أنقل قدمي بحركة رغم بطئها، فقد كانت تعينني على إنجاز تنقلاتي بشيء من الراحة، وبدأت حاجتي للكرسي المتحرك غير ما كانت عليه سابقاً. وكان ذلك فارقاً كبيراً عن السنة الماضية التي كنت فيها عاجزاً كلياً عن السير لأكثر من عشرين متراً.
في كل مرة أنبهه بأن يبتعد عني بعض الشيء حين نسير جوار البحيرة، وكنت ألقي عليه طلبي ذاك بإيجاز ووضوح تامين، رغبةً مني أن أسير بطمأنينة ووثوق من قدرتي على المشي دون عون، فكان يدعني أقطع شوطاً طويلاً مبتعداً عنه. أما هذا اليوم فقد وافق رغبتي، ولكني كنت أشعر بأنه لم يكن بعيداً عني بما فيه الكفاية، وأحياناً يحاول كسر صمتي بدندنة سخيفة سمجة أو استعمال الهاتف والحديث بصوت مرتفع مع الشخص على الطرف الآخر، أو رمي الحجارة في الماء أمامي أو تحذيري دون مبرر من السير بسرعة أو التقرب من الماء.
ـ لماذا تلطخ ملابسك دائماً عندما تتناول الطعام؟
كانت جملته هذه مثل صاعقة هطلت على رأسي، ولكني لم أحفل بها بادئ الأمر وبما تستحقه من غضب، وضبطت إيقاع مشيتي مثلما أعصابي التي توترت إلى أقصى حدود التوتر. التزمت الصمت ولكنه اقترب مني وكررها بشيء من الحدة، فالتفتّ نحوه وأنا أغلي غضباً وأجبته وأنا أصرّ على أسناني.
ـ لا شك أني أتصالح مع الجميع في هذا الكون عداك.
وببرود مفتعل وضحكة ضاجة أجابني:
ـ ولكنا لم نكن متخاصمين مطلقاً. وسؤالي يتعلق بوضعك مع كثرة الملابس التي تتسخ دون مبرر.
أجبته وأنا أشيح وجهي عنه.
ـ هذا شأني، وإن كنت تجد نفسك متعباً من تنظيفها فدعني أغسلها لوحدي.
احتواني بيديه الثقيلتين وهو يطلق ضحكة مجلجلة، وحاول أن يهزني مقرباً جسدي نحو حافة البحيرة. كان واضحاً أنه يهم بدفعي نحوها، فارتجّ جسدي وشعرت ببرد وخوف شديدين. تشبثت برقبته بكامل ما أملك من قوة، وبدأت أصرخ طالباً النجدة. ظهر بعض الأشخاص من بين الأشجار القريبة وكان واضحاً أنهم يستطلعون الأمر ليس إلا، فلم يحاول أحد منهم التقرب منا. شاء حسن الحظ أن يظهر هؤلاء في تلك اللحظة، على حين غرة، ولولا ظهورهم لما عرفت كيف يمكن أن ينتهي عليه الأمر مع هذا الوحش البولوني المستهتر. كان مرافقي يطلق ضحكات متقطعة، ويدفعني نحو الأمام وكأنه يمازحني، ولكني كنت على يقين بأنه حاول دفعي عنوة نحو البحيرة. تنحيت جانباً وأنا أنظر بتوسل نحو هؤلاء الناس، شاهدت ابتساماتهم ونظراتهم المتطامنة، والتي تعني في كل الأحوال أنهم غير معنيين بما يحدث. ولكني كنت وقتذاك مضطرباً أشد الاضطراب، فعقدت المفاجأة لساني فكتمت صرختي التي أطلقتها بادئ الأمر.
سجّلت كل ذلك في دفتر ملاحظاتي اليومية. سجلته واصفاً الواقعة بدقة متناهية لم أغفل حتى وصف تلكم الوجوه التي لم تكترث لطلبي النجدة منها. دوّنت ملاحظاتي، بالرغم من أني أهملت عن عمد، ومنذ زمن طويل، أن أسجل فيها أية ملاحظة عن هذا المخلوق البولوني، اعتقاداً مني بأن ذلك يمثل احتقاراً حقيقياً له، وأنه لا يستحق أن يدخل في ملاحظاتي كشخص له أهمية ما، وتلك رغبة سكنتني بالكامل لفترة طويلة.
لقد دوّنت الواقعة بالكامل، دوّنت حركته، وسجًلت حتى عدد صرخاتي حين طلبت النجدة بادئ الأمر، ووضعت وصفاً دقيقاً لوجوه الناس الذين شاهدوا الحادثة، بهيئاتهم وأنواع وألوان ما يرتدون من ملابس. رسمت خارطة لموقع الحدث وساعته. مضى على الحادث أكثر من شهرين، ولكنه وضعني في حالة حذر واستنفار شديدين، ولم أستطع إهماله بالرغم من جميع محاولات البولوني التي أراد فيها أن يوحي لي بأن الأمر ما كان ليعدو غير مزحة أراد منها إخراجي من حالة الكآبة التي تنتابني. رحت، وبحذر شديد، أراقب حركاته وسكناته وهو لا يفعل شيئاً سوى تكرار ابتساماته البلهاء واجترار الحديث عن مغامراته وطبيعة الحياة في قريته البولونية جوار العاصمة وارشو.
في المسير الاعتيادي جوار البحيرة، رحت أبتعد مسافة ليست بالقليلة عن حافة الماء وأتلصص بنظري نحو مرافقي. وبدأت رغبتي في التنزه تقل يوماً بعد آخر، خوفاً من أن يكرر فعلته.
كالأيام السابقة، ولجنا داخل السوق واتجهت إلى الكشك في طرفه الأيسر حيث طلبت علبة سجائر وبطاقة يانصيب تسمى (تريس ) كنت ومنذ قدومي إلى السويد أشتريها مرة كل أسبوع، ولم يفتني ذلك الأمر حتى حين رقدت في المستشفى، حيث كنت أطلب من الممرضة راشما أن تشتريها لي. كنت أستخدم مع تلك البطاقة طقساً خاصاً. أختلي فيه مع الورقة، أتناول الشاي وأنا أقشط ببطء وتلذذ طلاء الأرقام والصور من على الورقة، وأمنّي النفس بجائزة دسمة. لم يخطر على بالي أن أحسب عدد المرات التي اشتريت فيها ورقة اليانصيب، فالسنوات الثماني مضت سراعاً ولم أكسب من تلك اللعبة غير مرتين فقط، الأولى كانت مائة كرون والثانية خمسة وعشرين، ولو أردت جمع ما أنفقته في شرائها لكان الحال أفضل من دون هذه الورقة الساحرة.
مشيت جوار البحيرة مسافة طويلة، فشعرت ببعض الإعياء وكأني سرت على قدمي نهاراً كاملاً. كان قرص الشمس يهبط رويداً خلف المياه التي بدت تتلون بلون الغسق الأحمر. شعرت بشيء من البرد رغم أن الصيف لم يخبُ بعد. عبر الشارع جوار البحيرة، هناك غابة صغيرة كثيفة الأشجار تفضي مداخلها إلى ساحة صغيرة بالقرب من شقتي، أما جانب البحيرة الشمالي فهناك غابة أخرى كثيفة تفصح عن كامل وحشتها وربما أسرارها حين يهبط المساء. لم أرغب قط الدخول في جوفها بالرغم من الإغراءات والتطمينات التي كانت تقدم لي من قبل أغلب الذين عملوا معي كمرافقين. كنت أشاهد الناس يدخلون إليها ويخرجون منها. ومسيراتهم تلك خطـّت العديد من الطرق الميسمية الظاهرة كمخارج ومداخل لتلك الغابة. كنت أتهيب حتى التفكير بالوصول إلى مسافة قريبة منها أو تصور ما يحتويه جوفها من غرائب. أحياناً يشط ذهني فأجدني أفكر بتلك الغابة وكأنها تبدو مثل مصيدة للبشرتسكنها السعالي التي تصنع من رؤوسهم المسلوخة تعاويذ تعلقها فوق أعالي الأشجار. راودني هذا الإحساس طيلة المرات التي اقتربت فيها من تلك الغابة اللعينة. حدسي هذا قارب الحقيقة لمرات عديدة حين لمحت عيوناً تتلصص من بين كثافة الأغصان، وسمعت أيضاً أصواتاً لحشرجات كائن يذبح أو يعذب. لذا كنت أتحاشى أن أكمل المسير وأختصر الطريق مبتعداً عنها. فالرعب الذي يسيطر عليَّ لا يوازيه خوف سوى رعب أيامي القاسية الموحشة التي قضيتها عند السواتر في معركة الشوش.
استدرت متوجهاً نحو الشقة، فتبعني مرافقي الذي كان يثرثر مع أحدهم عبر الهاتف النقال. فتحت باب الشقة وقلت له: لم يبق من الوقت غير نصف ساعة، تستطيع الذهاب، فأجابني إنه سوف يضع الأغراض في مكانها وينصرف. فعل ذلك بعجالة وأغلق الباب خلفه. شعرت بالارتياح، فتحت جهاز التلفزيون وأخذت أبحث في القنوات العربية. لا أذكر بالتحديد المدة التي انقضت على شرائي لجهاز اللاقط للقنوات الفضائية العربية، ولكن التأريخ ذلك ليس ببعيد، فجاري المصري الطيب صاحب الوجه القريب الشبه بوجه فأرة، والذي يحمل قلبا طيباً محباً ويتودد للآخرين بفرح ومسكنة، تصل أحياناً حد الإزعاج والضجر، هو من نبهني لأهمية حصولي على لاقط القنوات. وقال بلهجته المحببة، إن القنوات العربية سوف تذهب عني وحشة الشعور بالوحدة، وإن الإنسان يحتاج التواصل مع خلفيته حسب التعبير السويدي، لكي يعيد أواصر روابطه بشعبه وبلغته. عندها اقتنعت بفكرته وتكفل هو ومرافقي نصب الجهاز اللاقط كاملاً. ولكن فكرة الإمتاع تبددت تدريجياً وبدأت أسأم تلك البرامج التي أغلبها سياسية أو تتحدث عن كوارث ومصائب وخيبات، أو أخبار مؤذية لا بل سخيفة جداً. حتى برامج المنوعات ما عادت تستهويني، فأصبحت مهووساً بالتنقل بعجالة دون التوقف لفترات طويلة عند قناة تلفزيونية بعينها، ولكن ما كان يهمني هو أن أستمع لأصوات عربية تتردد في داخل شقتي، دون أن أعير اهتماماً بالموضوعة التي يدور الحديث حولها. أصبح ذلك عادة مألوفة عندي.لم تكن نصيحة جاري المصري بالذات ما رست عليه قناعتي أو فضّله خياري، بالقدر الذي عنيته من وجود رطانة قريبة مني. هذه الرطانة العربية، بالرغم من إحساسي بسخافتها وعدم اهتمامي بمواضيعها، فأنها كانت تبعد عني بعض الشيء مشاعر الوحدة وتضفي على محتوى غرفتي المتجهم الرتيب شيئاً من حياة. ما أكثر ما تستطيع فعله تلك الأصوات في النفس، بالرغم من أني ميال للعزلة، ولكني أدرك أيضاً مقدار ما تكتنزه روحي من الفضول، وهذا لوحده صار المبرر المقنع لكسر وحدتي ووجود لاقط الفضائيات.
***
فرات المحسن