نصوص أدبية
قصي الشيخ عسكر: الستار الشفاف (1-4)
كان عليّ أن أعود إلى ربع قرن من الآن.
لا أنكر
أحاول أن أبحث عن عذر ما
أو
أواجه الحقيقة بكلّ شجاعة مادمت منذ البداية مقتنعا أني أعمل غرض أن أحقق الأفضل لغيري أولا ولي ثانيا.ربما لا يثق الكثيرون بعد الأحداث الأخيرة في أني أقدم مصلحة الآخر على مصلحتي الشخصية
الآن في هذه اللحظة ليس قبل ربع قرن يواجهني صخب الشارع.. تظاهرات كثيرة جدا تهاجمني وهناك الكثيرون بقفون في صفّي.
لا أهرب قط
ولا أفكر بمعنى سيئ.
أمارس مهنتي ضمن حدود الإنسانية.
الطب .. النجاح.
اليأس أشبه بالمحال.
مثلما يخلق الشاعر قصيدةـ والكاتب قصة، أو الكيمياوي يكشف عن إبداع جديد، فكرت أن أجد معادلة جديدة في هذا العالم الملئ بالمشاكل الصحية والنفسية، والغارق بالاضطرابات.
نعم ..
هذا ماحصل تصرف الآنسة (ن)الغريب المفاجئ الذي أربكني قبل الأحداث وربّما سارع في اندلاعها .كانت تعرف الشروط جيدا، وتدرك مثل غيرها من الطاقم الطبي الذي عمل معي أن عليها أن تلغي عواطفها قبل أن تأتي لتعيش في هذا العالم الجديد .عملت في المخبر معنا وهي في السابعة عشرة من عمرها ممرضة متدربة، ولم أتوقع أن تنسى نفسها ولا تتحكم بمشاعرها على الرغم من أنني كنت أراهن على مشروع جديد خال من كثير من نقاط الضعف التي يرثها العالم القديم الذي سبقنا بعدة قرون.
فكرت جيدا..
الدنيا تلفها المشاكل.. الصعوبات ويبدو لي أن السلبيات مهما تعددت وكثرت فإن عقل الإنسان يستطيع حصرها وتدميرها أو على الأقل تشتيتها.
لم أكن أستطيع أن أحقق تجربتي التي استمرت ربع قرن مالم أكن رجعت إلى أصل الحكاية..
وجودنا نحن.. .
إمّا أن يكون حقيقة أو أسطورة..
بهذه العبارة القصيرة حصرت مشاكل العالم الصحية بالدرجة الأولى .
تساءلت: إما أن يكون أصلنا حقيقة أم أسطورة:آدم أم الطبيعة التي أوجدتنا؟
وجدتني مخيرا بين اثنين:إما أن ألتقط الأسطورة المزعومة عندئذ أحولها إلى عالم جديد ، أو التقط الواقع القديم الذي ورثناه نحن البشر فأحيله إلى أسطورة..
في كلتا الحالتين لن أخسر شيئا..
بهذه الصورة بدأت عملي..
فكرت بعالم من أصل واحد في جيله الجديد من حيث الأب وقد أدركته بالسيد المتبرع (ك) الذي يبدو شكله الظاهري أبيض طويلا، ذا وجه حيوي ، وجسد سليم، عينان بلون أزرق ، شعر ناعم، صحة وجينات قوية تكاد تكون هي المثلى في عالم الحيامن.
أمهات مختلفات، من دول محتلفة وأجناس متباينة ، يتحدثن لغات مختلفة ويعرفن جميعهن اللغة الإنكليزية كونها اللغة السائدة المألوفة في العالم القديم وإلا فمن المحال أن أختار لغة قديمة أو اخترع لغة جديدة تكون هي السائدة في العالم الجديد.
قلة أمراض
عمر طويل
تلوث أقل توفره جزيرة متكاملة الظروف.نقية الأجواء.
لقد سألته فهو الأساس في عملي
أتعرف أن ماقدمته كان هو الأنقى
أجاب ببرود:هذا من حسن حظي.
أراك غير مصدق.
بل أصدقك وأسأل في الوقت نفسه:هل كوني الأنقى أعيش حياة أطول من غيري؟
هذا يتوقف على أمور كثيرة منها الحوادث واالعدوى والامراض الجديدة المفاجئة..
أتعرف أني أحب الحياة ولا أتخيّل أني سأموت يومت ما!
صورته عندي أحفظها في وعيناته استقرّت في المخبر.
كنت أراه بعد الفحص والتأمل والتجارب الطويلة المعقّدة أنه الأصلح للبقاء، فقد جاءني قبله متطوعون كثر، رجال سمر وسود وشقر وبيض، يجماون جينات قوية وضعيفة، متعددة الضعف ومتعددة القوة، هؤلاء مثله لم يطلبوا مالا ولم يكونا عابثين، أرادوا فقط أن يمتدوا في المستقبل القريب والبعيد من دون أن يدروا بتفصيلات امتدادهم بعضهم وافق على الشروط وآخرون على بعضها ثمّ هناك من انسحب.
أما السيد (ك) فقد كانت جيناته الأقوى والأقل ضعفا من غيره.
سيكون الرجل الأول في العالم الجديد
بل
هو أساسه من غير أن يدري ولا أظنّ الوقت مناسبا لأخبره بكلّ ما يجول برأسي
هل لديك شئ آخر تسألني.. تلك آخر عبارة قالها ولزم الصمت.. .
مشروعي تطلّب دعما ماديا من جهات عديدة.. كثيرون من أصحاب المليارات.و الأثرياء يعرفون بحوثي ، وجهودي الطبية.بعضهم عالج عندي في مشفاي.. عدة دول دعمتني..
مؤسسات أهلية
متاجر
بنوك
مشروعي الذي أعلنت عنه قبل ربع قرن لايتعلق بالتسليح والتجارب المدمرة ولا يساهم بتلويث البيئة.كان نظيفا وإنسانيا بكل ماتعنيه كلمة الإنسانية.
ماذا لو صنعت عالما آخر؟
هكذا فكرت.
رحت أمارس عملي بدقة متناهية، في مختبر تجميد الحيامن، أختار الأفضل والأصح، وقد أعلنت ذات يوم عن تجربتي الجديدة التي تخص النساء بعد أن ضمنت الحيمن الأصح والأقوى كانت اية راغبة تأتي وتجتاز الفحص تعرف أنها تتلقح ثمّ تعيش في عالم آخر ذي هيكل جديد فلا تسألني عن أبي مولودها. فكرت بألف امرأة، ثمّ زدت العدد حتى وصل عرضي إلى مليون، أستطيع حسب ما لدي من مال وإمكانات وأطباء يساعدونني أن أبدأ عالما جديدا وخلال سنتين لقحت مليون امرأة.
الفرق بين أول امرأة تلقحت والأخيرة سنتان.
هنك جزيرة أو دولة أسستها أنا وكادر طبي الجيل الأول فيه متقارب الأعمار وخلال ربع قرن ستثبت التجربة الجديدة هي المثلى، وستكون النساء الحوامل وحدهن هن اللائي يقمنها .هن كل شئ في البدء.
عاملات مناجم
سائقات حافلات
مزارعات
ممرضات..
هكذا بدأت بكل صراحة ووضوح غير أني احتفظت ببعض الخصوصيات التي لم يخطر ببالي أن الجيل القادم يسألني عنها ويحب أن بلمسها بوضوح.
لا أتحمل الخطأ وحدي
أنا طبيب لا علاقة لي بالقوانين والمثل والعادات وكان على النساء المتطوعات حين قبلن تأسيس يوتوبيا تحتلف عن المألوف أن يساهمن في إلغاء آثار الماضي الذي راح يبحث عنه جيل الابناء.
لوائح القانون الذي التزم به مخبري الواسع الصيت، هو ألا تسألني سيدة عمن لقّحها، وأن تلتزم العيش في عالم جديد لا علاقة له بالعالم القديم.سأكون رابطة الوصل بين الانفجار الكوني القديم، والعالم الجديد.كن يرغبن في التلقيح ولا يعنيهن من يكون هو الرجل ..
كان عليهن منذ البدء أن يحسبن حسابا لفضول الأبناء فيجدن حلا لما يمكن أن يكون منذ أن بدأت التجربة تتضح وينعزل أصحابها عن عالمهم القديم.
لقد عاشت الجزيرة بأمان تتنتج النسوة مانحتاجه، وما ينقصها يصلها عبر البواخر بإشراف الكوادر الطبية التي معي.أنا أريد أن أنشئ عالما جديدا متنوعا أصله واحد
خلق جديد
ربع قرن مضى ولا مشاكل.. هناك حوادث تقع في أفضل الحالات، انقلاب سيارة، عطل في مصعد، موت امرأة من جيل التلقيح بلدغة أفعى، انهيار جسر، هي حالات نادرة، نحن لسنا مجتمعا خاليا من العيوب غير أننا أقرب إلى الكمال، أما المشاكل فظهرت تماما مع النشء الجديد.
الماضي هو السبب
القديم يفرض نفسه حتى لايتلاشى
طالبوني بصفتي الرئيس الدكتور لجزيرة العالم الجديد أن ينفتحوا على المدميا الأخرى المحيطة بهم ، يشاهدون محطات التلفاز، يسافرون، يفكرون بالمجهول..
كيف جاؤوا إلى هذه الدنيا
علمتهم أمهاتهم أن الرئيس الدكتور لقحهن من حيامن لم يكن يعرفن أيّ شئ قبلن بالشروط، الجواب نفسه أثار حفيظة بعض الشباب،
في البدء عترضوا ،
استاؤوا
ولابدّ أن أعود إلى الآنسة (ن) الممرضة التي سبق سلوكها الغريب الهياج الذي انتشر في الجزيرة
في الآونه الأخيرة قبل بضعة أيام ، دخلت علي مكتبي.يمكن أن أسميه مكتب الرئيس، فللمرة الأولى يصبح الأطباء قادة العالم الموازي لعالم موروث يشكو من عقد صحية ونفسية ومشاكل اقتصادية كثيرة.لقد فاجأتني عبارتها الأخيرة.. بسطت يدي نحو الكرسي المحاذي للمنضدة العريضة في مكتبي.
تفضلي..
نظرت إلى الأرض بانكسار وقالت بصدى أقرب للهمس:
في كثير من الأحيان سيدي الدكتور نتخيل أننا استغنينا عن غرائزنا وعواطفنا ثمّ نكتشف في وقت متأخر أنها بدأت تتحرك فينا فلا نستطيع ردعها.
***
رواية جيب
د. قصي الشيخ عسكر