نصوص أدبية
نضال البدري: امرأة الليل
قال انها اصيبت بالجنون بعد ان انفصل عنها زوجها الذي ظن انه تورط بزوجة بليدة لا تناسبه. خلعها من حياته كمن يخلع ثوبا قديما وهرب الى جهة مجهولة، اصبحت حياتها أكثر بؤسا وازدادت عزلتها عن الآخرين . يمكن وصفها بأنها كانت ذات بشرة سمراء وجسد نحيل، وعينان غائرتان في محجريهما، تراقبان بهلع كل من يحاول ان يقترب ويخترق جدار وحدتها، أو يفكر بالاقتراب من المنزل الذي تركه لهم والدها، والذي كان يمثل لها الامان والاذن، التي تسمع أنينها الطفولي القابع داخلها وحاجتها الى العطف الابوي . تجمع اخوتها من حولها كالضباع طالبين منها اخلاء المنزل لغرض بيعه وتقاسم الإرث فيما بينهم .
لم تكن تتخيل أنها ستغادره يوما وتفتقد الامان الذي تشعر فيه . اصبحت تهاجم اخوتها حين يقتربون من المنزل كقطة شرسة ويرتفع صوتها بالصراخ والشتيمة بوجههم،هذا كل وما تعول عليه من خلق فضحية تبين فيها قدرتها . وما ان يبتعدوا حتى تطلق ضحكة كبيرة ثم يعود لوجهها الوجوم.
ساعات النهار كانت تمر عليها طويلة، تقضيها جالسة قرب دكان والدها الكائن في احد الاسواق الشعبية، والذي استعادة صاحبه بعد ان توقفوا عن تسديد بدل الإيجار. تجلس هناك حتى وقت الظهيرة ثم ترجع بعد ان ينتصف النهار ويخلوا السوق من الناس وتوصد الدكاكين ابوابها، فتعود بخطى ثقيلة حاملة ما تجود به النسوة عليها من طعام وملابس قديمة، وبعض المساعدات المادية البسيطة . ترسم خطواتها بذيل جلبابها الأسود، الذي اهترئ وغيرت لونه الاتربة العالقة به الى اللون الرمادي . اصبحت ترى الجميع بعين واحدة هي عين الخوف والحذر، والدفاع عن النفس بالفطرة التي استمدتها من عدم الثقة بالأخرين . لذلك كانت تشعر بان العيون لا تكف عن مراقبتها وكثيرا ما كانت تبكي، وحدها خصوصا بعد اصرار اخوتها اخراجها من المنزل .
بعد مرور وقت ليس بطويل، تغيرت ملامحها مع تورم ملحوظ في عينيها وتدهور كبيرا في صحتها، حتى انها في احد الايام قد اغمي عليها فجأة، بعد أن نهضت من مكانها المعتاد في السوق، هرعت اليها بعض النسوة وقمن بنقلها الى المستشفى حيث أجريت لها الإسعافات اللازمة والتحاليل للتأكد من وضعها الصحي، حيث تبين بانها على وشك الاصابة بعجز كلوي، لان كليتيها لا تعملان بشكل جيد وكان هذا بسبب الاهمال وسوء التغذية، وشربها للمياه الغير معقمة كما قال الطبيب . بعد شيوع هذه الحادثة، تركها اخوتها فريسة للمرض الذي كان سيفتك بها حتما، ويخط ملامح نهايتها دون تدخل منهم .
مرت عدة شهور وعزلتها تزداد يوما بعد يوم . كل شئ بدء يتهاوى من حولها، حتى المنزل الذي تسكنه اصبح مهملا، وعلت فيه خشخشة اصوات اوراق الاشجار المتساقطة منه ويعبث فيها الهواء، نمت فيها ايضا الحشائش بشكل كبير وتباينت اطولها، حتى حجبت ضوء الشمس الداخل شبابيك منزلها وخنقت الضوء الخارج منها ليلا . اصبحت لا تخرج الى السوق الا قليلا، بعد ان انهكها المرض واستسلمت له سريعا والذي كان واضحا بشكل كبير، من طريقة مشيها وقوامها الذي بدأ يأخذ شكلا منحنيا كجسد سيدة عجوز، غيابها أصبح ملحوظا بعد ان تناقلت النساء اللواتي كن يبعثن اولادهم يتلصصون عليها ورؤوسهم الصغيرة تظهر وتختفي، وأنها متزوجة لان الاولاد اقسموا انهم رأوها تضع مساحيق التجميل ليلا، وتتحدث مع القطط بل وتأكل الطعام معهم . ضهورها بدء يتلاشى شيئا فشيئا حتى صدئت باب المنزل ولم يرها احدا مفتوحة لأي سبب كان. بدأ الجميع يتساءل عنها، فهي لم تخرج من منزلها ولا اثر لوجودها او لرائحة جثتها المتفسخة ان كانت قد فارقت الحياة . ولم يجدو الاجابة عن اسئلتهم الكثيرة، والتي ضاعف منها عدم حضور اخوتها للمنزل مرة اخرى....
***
نضال البدري
بغداد / العراق