أوركسترا

عدنان حسين أحمد: "حزن للبيع".. هروب من القمع إلى الغربة الروحية المُضاعفة

لم يكن "حزن للبيع" هو الفيلم الوثائقي الثقافي الأول للمخرج الدؤوب هادي ماهود وإنما سبقه فيلم "تراتيل السومري" الذي كرّسه للشاعر غيلان حوشي علي سنة 1998م. وكان يتحرّق شوقًا لإنجاز أفلام وثائقية ثقافية أخرى تغطي غالبية الأدباء والفنانين والمثقفين العراقيين المبثوثين في المنافي الأوروپية والأمريكية لكن ضيق ذات اليد وتقصير المعنيين بالشأن السينمائي كان يقف حائلًا أمام تنفيذ مشاريعه السينمائية المهمة. ولولا دعم الدكتور جبار جودي، نقيب الفنانين العراقيين، ومدير دائرة السينما والمسرح لما رأى هذا الفيلم النور. ومهما كان حجم هذا الدعم فقد أتاح للمخرج هادي ماهود أن يسافر من العراق إلى المملكة المتحدة ويتنقل بسلالة بين مانشستر ولندن تارة وبين السماوة ومدينة الخضر تارة أخرى ليتابع قصة حياة الشاعر خالد العامري التي تصعب، هي الأخرى، أن تُختصر بفيلم وثائقي مدته 25 دقيقة أو أكثر بقليل، فمادة الفيلم الخام الموجودة بين يديّ الآن قابلة للزيادة والنقصان، فمن الممكن أن يصبح الفيلم 30 دقيقة أو أكثر إذا تحقّق نَصب تمثال الشاعر خالد العامري الخضري واحتفت جماهير مدينة الخضر بإزاحة الستار عنه في الأيام القادمة.

لم يختر المخرج هادي ماهود الكثير من المتحدثين في هذا الفيلم وإنما انتقى الصفوة من الأصدقاء الذين عمل معهم في "صوت الشعب العراقي"؛ الإذاعة العراقية المُعارِضة التي كانت تبث برامجها من جدة في المملكة العربية السعودية أمثال الشاعر عبدالحميد الصائح،والكاتب عودة وهيب وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعًا من بينهم الشاعر خالد العامري نفسه، ومخرج الفيلم هادي ماهود، والمذيعة اللبنانية هدى المهتدي الريّس التي تظهر ظهورًا خاطفًا وتتوارى بعد عدد من الجُمل الاحترافية القصيرة. وعلى الرغم من قلّة المتحدثين الذين لم يتجاوزوا السبع شخصيات إلّا أنهم قالوا أشياء مهمة تسلّط الضوء على شخصية الإنسان والشاعر خالد العامري الذي رأيناه وهو يتنقّل بين خمس مدن رئيسة وهي الخضر والسماوة ودُبي وجدة ومانشستر التي استقر فيها أخيرًا وبدأ يبحث فيها عن حُسن الختام.1545 mahod

الحنين إلى ملاعب الطفولة والصبا

يتمحور هذا الفيلم على ثيمات متعددة من بينها مناهضة النظام الدكتاتوري في العراق في حقبة السبعينات وما تلاها من عقود وهي التي كانت السبب في هجرته أو اقتلاعه القسري من مدينته التي ظل متشبثًا بها، ومن العراق الذي يحبّه إلى درجه الهوس والجنون. كما تأتي الغربة كثيمة ثانية مهمة بنى عليها المخرج فيلمه، وتتبّع أحداثه بشكل مرهف ودقيق. لا يمكن لمُشاهِد هذا الفيلم أن يغضّ الطرف عن فكرة الحنين إلى ملاعب الطفولة والصبا، وأيام اليفاعة والشباب قبل أن يحزم حقيبته ويقرر الرحيل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة التي بدأت تتنفس الصعداء بعد الاتحاد في أوائل السبعينات من القرن الماضي. كما يتناول الفيلم جوانب متفرقة من المنجز الشعري لخالد العامري بين الأعوام 1979 و 2025 الذي بلغ ست مجموعات شعرية وهي "تِگلّي ارتاح..؟" و "بنت الملك" وهما مجموعتان شعريتان صوتيتان، و "قطار الـ ياريت" و "الملحمة الخضرية" و "حزن للبيع"، إضافة إلى "أنين الغربة" وهي مجموعة شعرية بالفصحى صدرت عام 1984م عن مؤسسة البيان للصحافة والنشر بدبي. ولديه الكثير من القصائد التي تنتظر أن ترى النور قريبًا.

يعالج الفيلم أيضًا ثيمة المرض المستعصي، فقد أُصيب الشاعر خالد العامري، مع الأسف الشديد، بسرطان الكبد الذي انتشر، كما تقول قصة الفيلم في الدم وأماكن أخرى من الجسد وقد حدّد الأطباء المشرفون على علاجه الأشهر القليلة المتبقية لديه لكنه بعزمه الشديد وإرادته الصُلبة تغلّب على هذا المرض وانتصر عليه، وقد تجاوز المدة التي حدّدها الأطباء ببضعة أشهر وهو يواصل الآن مختلف أنشطته الثقافية والإبداعية بين مانشستر ولندن ويشارك في قراءاته الشعرية الجميلة التي تغلّفها غلالة من الحزن الشفيف.

أصدقاء الغيم وحرّاس الأنهار الشرسة

اختار المخرج هادي ماهود حديثًا مهمًا للشاعر عارف الساعدي، وهو للمناسبة المستشار الثقافي لرئيس الوزراء، يقول فيه عن السماوة العريقة بأنها  "لا وظيفة لها إلّا بإنتاج الأبناء المخلصين" ويصف السماويين بأنهم "أصدقاء الغيم وحرّاس الأنهار الشرسة".

يستأنس المخرج برأي الشاعر الشعبي الماركسي ناظم السِماوي الذي تعرّض للسجن ومضايقات النظام السابق ويقول عن الشاعر خالد العامري بأنّ الغربة صنعت منه إنسانًا آخرَ يتمع بالهُوية الوطنية العراقية خارج حدود الوطن، وهو يشكّل إضافة جديدة في الثقافة العراقية. ويختم السِماوي حديثه بالقول:"سيبقى هذا الشاعر رمزًا من رموز الحركة الشعرية العراقية المليئة بالحُب والوطنية والإنسانية والشرف الأخلاقي".

يطل علينا الشاعر حسين عبيد وهو صديق العامري منذ أيام الصبا والشباب، وقد شرعا بكتابة الأغاني الشعبية للإذاعة ثم تطورت موهبتهما الشعرية شيئًا فشيئًا فأخذ العامري يكتب قصائد الحُب والغزل التي اشتهر بها. كما يتذكر حسين عبيد أول قصيدة كتبها في هذا الصدد مُذكرًا إيّاه بذكرى جميلة لم تغادر ذاكرته أبدًا يقول فيها:" تنسى الخضر / تنساني تقبل غيرتك / وبگلبي ما ظل كل صبر / تذكر أيام المدرسة / لمحبوبتك نوگف سوه بوگت الظهر". تنقّل العامري، كما يذهب حسين عبيد، إلى مدن الغربة التي أشرنا إليها سلفًا، وعرّج على السياسة، ثم انهمك في العمل الإذاعي قبل أن ينتقل إلى مانشستر، المدينة التي لا تؤمن إلّا بالحديد حيث تضاعفت غربته عمّا كان عليه في دبي والمملكة العربية السعودية. ولعل سبب هذه الغربة القاسية يعود إلى تجذّره بمدينة الخضر نهرًا وشاطئًا وبساتين مخضرّة على مدّ البصر. أمّا عن كتابته للقصيدة الشعبية فيقول حسين عبيد بأنّ خالدًا يكتب الشعر بطريقة متفردة تختلف عن الشعراء الشعبيين العراقيين برمتهم، فهو يكتب شعرًا موزونًا أو يعتمد على التفعيلة، ونادرًا ما يخرج في كل قصائدة عن تفعيلة واحدة. وديوانه الموسوم بـ "الملحمة الخُضرية" مكتوب بوزن واحد وتفعيلة واحدة لكنه لم يُحدد هذا الوزن، ولم يسمِّ تلك التفعيلة.

مُقارعة المرض الخبيث

لم يعتمد المخرج على تقنية  الـ " ڤويس أوڤر" وإنما استعاض عنها بالكتابة لتلخيص قصة مرضه بواسطة الكتابة على الشاشة بأسطر معدودات يقول فيها:"أُصيب خالد بسرطان الكبد وانتشر المرض في الدم وأماكن أخرى، ووصل المرض إلى درجة عَجَزَ الأطباء عن إيقافه. أبلغوه بأنّ الوقت المتبقّي له لا يتعدى الأربعة أشهر فقط. واجه خالد المرض بقوة ولم يستسلم وتجاوز بإصراره الزمن الذي حدّدهُ الأطباء".

انتقى الشاعر خالد العامري عشر قصائد قرأها على مدار الفيلم، ولعل المخرج قد ساهم في بعض هذه الاختيارات باعتباره مُطلًا على غالبية ما كتب العامري من أشعار، فهو صديقه الحميم، ورفيق غربته في المملكة العربية في الأقل. مَن يتمعّن في هذه القصائد الجميلة والمؤثرة سيكتشف من دون لأي أنّ المخرج قد بنى الهيكل العام لفيلمه على هذه القصائد العشر. كما أفاد من عنصر التأثيث الذي شيّدته الشخصيات المتحدثة الأخرى مثل الشعراء والكُتّاب ناظم السماوي، وحسين عبيد، وعبدالحميد الصائح، إلى جانب صاحب الديوان الحاج جبيّر، والعامل المتواضع سعد ستار ونّاس إضافة إلى شخصية الفيلم المحورية الشاعر خالد العامري الذي أطل علينا خمس مرات قال فيها أشياء كثيرة أفصحت عن أحاسيسه، ومشاعره الداخلية، وتوجهاته الفكرية، ورؤيته الفلسفية لرحلة الحياة التي أمضاها في غربة مضاعفة، وأوصله الحنين إلى الوطن إلى درجة العزلة القاسية والتوحّد مع الذات التي استلبها العسف والتجبّر والطغيان.1544 mahod

صندوق العرس العتيق

لا يمكن الإلمام بثيمات ومضامين ديوان "حزن للبيع" الذي يتألف من 95 قصيدة ولا يمكن الإحاطة حتى بثيمات القصائد العشر التي اختارها الشاعر والمخرج معًا لأنها كثيرة ومتعددة ومتداخلة مع بعضها بعضًا. وسنأتي عليها تباعًا ثم نختار أبياتًا أو مقاطعَ منها لتأكيد صحة ما نذهب إليه. فالقصيدة الأولى التي تحمل عنوان "حانة وسكران ومجنونة" تتمحور على الحياة التي تمشي بخُطى متسارعة وتكون عُرضة للتبدّل والتغيّير ويختمها ببيت شعري جميل وشديد الدلالة مفاده:" صندوگ العرس اللي يعتگ / ينباع بسوگ الحُب خرده" والنص الثاني يدور حول الاغتراب في هذا الزمن ويمكن ملاحظة ذلك من هذا البيت تحديدًا الذي يقول فيه:" لا دار عنده لا وطن / متغرّب بهذا الزمن". أما القصيدة الثالثة فيختمها ببيت شعري يثلج الصدر وهو يتناول بعبقرية فذّة تصوير الحكّام الجبابرة والنرجسيين والطواويس الذي يتناوبون على حكم العراق بالحديد والنار الذي يفضي في الأعمّ الأغلب إلى حمّامات الدم، والمقابر الجماعية، والحزن المعتّق الذي ينطبع في الذاكرة الجمعية العراقية حيث يقول:" خلّصنا العمر كلّه تروح چلاب وتجينا چلاب". ورغم قساوة التوصيف إلّا أنها حقيقة دامغة لا يمكن أن ينكرها إنسان حصيف. ربما تكون كلمة الحزن هي الصفة الأبرز في شعر خالد العامري وفي حياته الشخصية بشكل عام حتى أنه أصدر ديونًا شعريًا كاملًا بعنوان "حزن للبيع" نختار منه هذا المقطع اللافت للانتباه:" حزن عندي أدوّر له على شرّاي / أظل طول العمر ممنون له بهاي / حزن مو أي حزن ما يصح تلگاه / ربّيته على جرحي وضيم دنياي". تشتمل القصيدة الخامسة على مجموعة من الاستذكارات التي تتعلق بالنهر والشاطئ والمدينة نقتبس منها الأبيات الآتية:" على شاطي الخضر يا ليل أحلى سنين عشناها / غِنا واصبع يطگ وهيل وصوت عبيد غنّاها / غِنا واصبع يطگ وكيف راحن يا ألف ياحيف / گلي بروح أبوك شلون أحلى أيام أنساها". لا تعرض القصيدة السادسة حزنها للبيع لأن اختصاص البائع هنا هو بيع الأقمشة رخيصة الثمن إلى الناس الفقراء المُبعَدين عن الحياة المخملية التي تقع أصلًا خارج دائرة اهتمامهم.

تتناول القصيدة السابعة ثيمة الكرم، وحسن الوفادة، وطيبة أهالي المدن الصغيرة النائية وربما يكون حجي جبيّر هو أنموذج للكرم والطيبة والوفاء حيث نقرأ:" حجي جبير يا وجه الأيام الخيّر / يا ديوان الچلمة الحلوة / التجبر خاطر كل مسيّر / كل الناس الحلوة الطيبة حجي جبيّر / ما يتكرر وما ظن مثله هناك اثنين".

يتألق الشاعر في قصيدته الثامنة التي يؤنسن فيها البيت القديم الذي تهدّم وخوى على عروشه حيث يدخل الشاعر في حوار إنساني مؤثر مع هذا المنزل المتداعي الذي يقف على قدميه بالكاد. نقتبس منها الأبيات الآتية:" سيّرت طير على بالچ جابته أشواگ السنين، ردت أشوف آنا على بالچ / لو صدگ ضاع الحنين / شفت كل طابوگه تبچي / ومن خراب البيت تشچي / صحت يا غربة زماني / وين دربك يا الغريب".

الشخصيات المتواضعة وبراءة التعبير

ينتبه المخرج هادي ماهود، ليس في هذا الفيلم فقط، وإنما في غالبية أفلامه الأخرى إلى الشخصيات البسيطة المتواضعة ويعطيها مساحة، قد تكون واسعة أحيانًا، للمشاركة في أفلامه الوثائقية على وجه التحديد. وفي هذا الفيلم، وهنا نرى ونسمع العامل سعد ستار ونّاس الذي ارتأى أن يسمّي محل عمله بـ "محطة الشاعر خالد العامري الخضري لغسيل كافة أنواع السيارات" لأنه يعتز بهذا الاسم ويعتبره رمزًا من رموز مدينة الخضر. وعندما التقاه أول مرة حينما جاء إلى مدينة الخضر بعد غياب طويل وجد فيه إنسانًا بسيطًا ومحبوبًا لذلك سمّى المحطة باسمه، وهذا كل ما يستطيع أن يفعلهُ، وفي المرة القادمة سوف يسجّل هذه المحطة باسمه.

يحظى الشاعر والإعلامي عبدالحميد الصائح باهتمام كبير من قِبل المخرج هادي ماهود فهو صديقه الحميم، ورفيقه في العمل السياسي المعارض، وشريكه في الاهتمامات الثقافية والفنية التي تمتد لعقود طويلة من الزمن. كما أنه صديق الشاعر خالد العامري وزميله في العمل المعارض ذاته. ولهذا السبب فإنّ شهادته مهمة جدًا في هذا المضمار حيث يقول الصائح:"كنتُ حريصًا على أن تخرج تجربة خالد للناس فجمعت له قصائد مجموعة "قطار الـ يا ريت". ويضيف من موقع العارف بهذه الشخصية المُقرّبة إلى نفسه والتي يعرف تفاصيلها من كثب:"بأنّ الهجرة لم تُغيّر من طباع خالد العامري الذي عاش في دولة الإمارات العربية المتحدة التي لا تُعتبر دولة خليجية حسب، وإنما هي حاضرة ثقافية ومدنية واسعة تكاد تكون ملتقى لثقافات العالم". يسجّل الصائح ملحوظة مهمة حينما يقول:"أنّ خالدًا قد حفظ مدينة الخضر وطباعها وحينما تأتي إلى خالد الذي عاش في المهجر كثيرًا تجده وكأنه قد جاء من الخضر توًا ولم يخرج من العراق قبل أربعين سنة". وأكثر من ذلك "فإن خالدًا لا يستطيع أن يعيش في مدينة مثل مانشستر؛ مدينة ساكنة بلا حركة وبلا روح لأنّ حنينه للخضر والسماوة وللعراق هو حنين غير طبيعي، وأنا أول مرة في حياتي أشاهد شخصًا مريضًا بالحنين إلى الوطن بهذه الدرجة". ومع أنّ الشاعر عبدالحميد الصائح هو أقدر الناس في الحديث عن تجربة خالد العامري الشعري إلّا أنه اكتفى بالقول:( إنّ شعره حلو فجمعتُ له هذه القصائد وطبعناها في ديوان "حزن للبيع") لكنه لم يبيّن لنا مكامن الجمال سواء في الأشكال الشعرية أو المضامين التي تدور حولها قصائده المميزة التي يحبها السامع العراقي على وجه التحديد. ويضيف الصائح قائلًا:"أنا عشتُ مع خالد مدة طويلة من الزمن حيث اشتغلنا في إذاعة كانت مُوجهة ضدّ نظام صدّام، والحقيقة أنّ صوت خالد هو الصوت الذي حارَ بِه العراقيون لمدة طويلة من الزمن لأنه كان يقلّد صوت صدام بالضبط".

ولتأكيد هذا الشبه الكبير في تقليد الأصوات يقول الكاتب عودة وهيّب الذي كان يعمل في الإذاعة المعارِضة نفسها:"قال صدام حسين للقوات المسلحة العراقية إذا سمعتم أمرًا بالانسحاب بصوتي لا تصدقوا ذلك لأنّ هناك شخصًا يقلّدني". وأضاف بأنّ شعر أبو سيف "خالد العامري" قد أوجعني في المدة الأخيرة وكأنه كان ينعي نفسه فكنت أتألم جدًا حينما أقرأ له".1546 mahod

نرجسية القادة العراقيين

لعل الإذاعة المعارِضة قد انتبهت إلى مسألة مهمة جدًا وهي نرجسية العديد من القادة الذين تناوبوا على حكم العراق وعاثوا فيه فسادًا حيث نسمع الكورَس المسرحي وهم يقولون بصوت جماعي:"في كل عشرين سنة يأتي إلينا نرجسي عاشق لذاته ليدّعي بأنه المهدي والمُنقذ والنقيُّ والتقيُّ والقويّ (ثم يأتي صوت خالد العامري مُقلدًا صدام) .. والواحدُ والخالدُ والحكيمُ والعليمُ والقدّيسُ والإمام. (ثم يُكمل الكورَس) واليوم يأتي بيننا صدّام ... (الصوت المُقلّد ثانية) .. وتوكلتُ على الله وقررتُ أن أركب الشعب العراقي من الآن إلى يوم القيامة".

تُعد المذيعة اللبنانية هدى المهتدي الريّس أحد الشخصيات المشاركة في هذا الفيلم وإن اقتصر حضورها على جملة واحدة تقول فيها بنبرة احترافية واضحة:" نواصل رحلتنا معكم في برامج إذاعة الجمهورية العراقية من بغداد صوت الشعب العراقي". وكنت أتمنى أن تسلّط هدى المهتدي بعض الضوء على شخصية خالد العامري الشعرية والحياتية ويبدو أنّ الجانب المادي قد وقف حائلًا دون تحقيق هذا اللقاء الذي كان سيخدم مضمون الفيلم كثيرًا ويُخرجه من إطاره الوطني المحدود إلى فضاء عربي آخر يمتد إلى لبنان (من خلال هدى المهتدي) والإمارات والمملكة العربية السعودية التي عمل فيهما العامري لمدة طويلة من الزمن.

يُطل علينا الشاعر خالد العامري خمس إطلالات إضافة إلى قراءته لقصائده العشر التي أشرنا إلى ثمانية منها حتى الآن حيث يقول:"عشتُ في الإمارات لمدة عشرين عامًا كان فيها النشاط الثقافي كبيرًا جدًا حيث تعرّفتُ إلى العديد من الشعراء والكُتاب الإماراتيين مثل الشاعر عارف الخاجة وغيرهم من الأسماء. وكانت مرحلة النشر في الصحف الإماراتية جيدة مثل صحف "الخليج" و "البيان" و"الاتحاد". كما عملتُ مدة طويلة في مجلة "الظفرة".

العيش على حافّة الغربة

يكشف العامري في حديثه عن أشياء كثيرة مهمة من بينها الإحساس بالغربة المُضاعفة حيث يقول:"عندما جئت إلى مانشستر أحسست بغربة أشدّ لأنه انتقلت إلى مجتمع مختلف تمامًا حيث تفاعل الأولاد وذابوا في المجتمع البريطاني لكنني بقيت أعاني من غربة مضاعفة. ورغم التفاعل والاشتراك ببعض الأنشطة الثقافية إلّا أنك لا تستطيع أن تنتمي إلّا إلى وطنك مهما كلّف الأمر. وأتذكر هنا ما قاله الماغوط ذات مرة:"لو وضعوني في الجنة لقلت آه يا وطني"! ويضيف العامري:"أنا أعيش الآن على ذكرياتي أسترجعها وأعيش فيها. وليس لدي غير الذكريات. وحينما أحاول أن أكتب شيئًا خارج الغربة أو بعيدًا عن الحزن أكتشف أنّ الغربة والحزن والوجع والألم تأخذني من النص الجديد الذي أحاول أن أضمّنه شيئًا من الفرح".

لا يمكن للمُشاهد أن يتلمّس في وجه الحاج جبيّر غير الطيبة والمحبة والحنان وهو يستمع إلى القصيدة التي كتبها عنه الشاعر المغترب خالد العامري واصفًا إيّاه بـ "الوجه الخيّر" ودامغًا أهل الخضر بـ "الناس الطيبين" فتارة يُقبّل العامريُّ يده وتارة أخرى يحتضن أهل الخضر بمحبة غامرة لا تخفى على المُشاهد الحصيف. يروي الحاج جبيّر ما علُق في ذهنه من ذكريات مُحبّبة عن جد خالد العامري الذي كان يقرأ كتاب "ضياء الصالحين" في الزورق الذي يصطاد فيه السمك. كما أشار إلى جدته "طويرة" التي دخلت إلى تاريخ الأغنية العراقية من خلال أغنية "ذبحني الشوگ يا طويرة" التي لحّنها وغنّاها الفنان رياض منصور. يُدِل الحاج جبيّر الشاعر خالد العامري إلى منزل جدته "طويره" لأنه لم يتعرّف عليه بسبب التغييرات العمرانية التي طرأت على المدينة بعد غياب دام خمسة عقود تقريبًا. ولعل اللحظات التي وقف فيها العامري أمام المنزل المتداعي هي من أكثر لحظات الفيلم تأثيرًا على المتلقي الذي يتفاعل مع هذا المَشهد تحديدًا ويبكي مع المغترب الذي بدا أكثرًا غربة واغترابًا من ذي قبل. فلا غرابة أن يكتب عن "دار الحبايب" التي أشرنا إليها سلفًا في متن القصيدة الثامنة.

تتحدث القصيدة التاسعة عن زائر الموت "مفرّق الجماعات وهادم اللذّات" التي يقول فيها:" الليلة رايدكم تجوني الليلة / الموت وازاني وعليّ شدّ حيله / الليلة رايد شوفكم يحبابي / گبل لا يطوي الزمان كتابي / واندفن وحدي غريب / آه من هذا النصيب".1543 mahod

الوداع الأخير

يجيب الشاعر خالد العامري عن سؤال الموت بأريحية كبيرة وكأنّ شيئًا لم يكن حيث يقول عن حياته الماضية هي رحلة وانتهت ويشكر فيها ربّ العالمين. فحينما يشاهد المتلقي هذا الفيلم أو يستمع للشاعر خالد العامري وهو يقرأ قصائده الحزينة والقليل النادر من القصائد التي يطرّزها الفرح يكتشف أنه لم يخشَ الموت ولا يخاف من هذا المرض اللعين وإنما هو يبحث له عن قبر يأويه في خاتمة المطاف ويذكر ببساطة عجيبة بأنّ ثمة مقبرة قريبة منه ولا تبعد أكثر من ربع ساعة لكي يودِّع الأهل والأحبة والخلّان.

أمّا القصيدة الأخيرة التي أسمّيها قصيدة "الوداع" التي يصوّر فيها الحزن الذي دهمهُ وهو جنين في رحم أمه فيقول فيها:" أذّنت دنياي حيّ على الممات / وأمّت بروحي صلاة الميتين/ هي رحلة وانتهت هاي الحياة / والحمد لله رب العالمين".

على الرغم من النهاية المأسوية للفيلم، أو الإيحاء بها في الأقل، وهي نهاية متوقعة لكل البشر الفانين إلّا أنّ الفيلم ظل متوازنًا في رصد ثنائية الحياة والموت، فمثلما هناك حياة قد تكون سعيدة أو تعيسة، هناك موت أيضًا لا بدّ من مواجهته أو القبول بفكرته شئنا أم أبينا. ولكي نجعل الحياة أقل وطأة مما هي عليه علينا أن نقبل بهذه الثنائية وأن يواجه كل منا مصيره بطريقته الخاصة.

تضمّن الفيلم ثلاث أغنيات كلماتها جميعًا للشاعر خالد العامري وهي "دگ هاونك" التي غنّاها الفنان ياس خضر، و "ذبحني الشوگ يا طويره" التي غنّاها الفنان رياض منصور، وأغنية "يالتنشد" التي غناها الفنان طاهر وبركات الذي وضع الموسيقى التصويرية للفيلم. لا بد من الإشارة إلى أنّ هادي ماهود قد حقّق رؤيته الإخراجية التي تنطوي على نبرات متعددة تنويرية واحتجاجية وجمالية، وهذا ما يسعى إليه منذ خمسة عقود تقريبًا.

***

عدنان حسين أحمد - لندن

في المثقف اليوم