أوركسترا
عدنان حسين أحمد: "سماوتي".. سردية وثائقية

ترصد حرق مقرات الأحزاب والتيّارات السياسية
لا يختلف فيلم "سماوتي" للمخرج هادي ماهود كثيرًا عن فيلم "مراثي السماوة" الذي يتمحور على تفجير سيارتين مُلغّمتين في الكراج الموحّد حتى أن عددًا من الشخصيات يتكرر ظهورها في الفيلمين معًا مثل المحافظ فالح سكر، والناشط المدني باسم خشّان، والناشط المدني الدكتور عدنان عبّاس، والشاعر سعد سباهي ولكنّ ثيمة "سماوتي" تذهب أبعدَ من حدود التفجيرات الإرهابية لتتمحور هذه المرّة على إغلاق وحرق غالبية مقرات الأحزاب والتيارات السياسية التابعة لحزبيّ الدعوة والفضيلة، وتياريّ الحكمة والنصر. ولا يخرج الفيلم عن إطار التحريض والاحتجاج الذي لمسناه في الأفلام السابقة لهادي ماهود وهي في مجملها أفلام تنويرية تستفزّ ذهنية المتلقي وتحرّضه في الأقل على التظاهر والاحتجاج السلمي كخطوة أولى والاعتصام المدني الذي يمكن أن تتبعهُ خطوات تصعيدية أخرى كما حصل في عملية غلق مكاتب ومقرات الأحزاب والتيارات السياسية وحرقها أمام عدسات الكاميرات التلفازية من دون خوف أو وجل. وقد وصلت شجاعة المواطن السِماوي المُتظاهر إلى حدّ رفع الشعارات الصريحة الدامغة التي تقول بوضوح تام لا غُبار عليه: (تيار النصر ينتل، أي "يصعق"، وتيّار الحكمة يقتل). يحتضن هذا الفيلم الوثائقي الرصين شخصيات عديدة متنوعة تجمع بين المحافظ، وممثلة رئيس مجلس الوزراء، والناشطين المدنيين، والمحامين، والمثقفين، وشيوخ العشائر، إضافة إلى شخصيات عامة من الشباب والأطفال الذين لا تتفاداهم عدسة المُخرج وإنما تركّز عليهم وتضعهم في الصميم.
يعترف فالح سكر، محافظ المثنى، ويقرّ كشخصية حكومية بأنّ هناك ضعفًا في تقديم الخدمات للمواطنين ويعزو السبب إلى عدم وجود التخصيصات المالية لأبناء المحافظة، ومحروميتها، والبطالة التي أصبحت لا تُطاق. بينما نرى المُحتجين يرفعون شعارًا صريحًا يُطالبون فيه بـ "إغلاق جميع مكاتب الأحزاب والتيارات السياسية" ولكي لا يسقط المخرج في خانق الإسهاب يسمعنا الهتاف ذائع الصيت الذي يقول:"اسمع زين باكونا الحراميّة" وكأنهم يذكّرون مُحافظهم بأنّ سرقة المسؤولين هي السبب الأول في دمار العراق وخرابه ، فلا غرابة أن يقف أمام عدسة الكاميرا شاب منفعل يلعن الأحزاب الرئيسة في البلد ويشبِّهها بالوجه الآخر لحزب البعث المُنحلّ ثم يوجِّه سهام النقد إلى المالكي الذي استحوذ على السلطة لمدة ثماني سنوات لم يجنِ منها المواطن البسيط سوى القهر، وجريمة سبايكر، والميزانيات غير المحسومة على حد قول الشاب المنفعل الذي فارت دماءه في لحظة غضب وأخذ يتلفظ بكلمات نابية.
يسعى المحافظ إلى القول بأنّ التظاهرة التي خرج لاستقبالها كانت سلمية لكنها تحوّلت فجأة إلى تظاهرة مسلّحة حيث سمع صوت رمانة يدوية تنفجر، وقنابل مولوتوف تلاها إطلاق رصاص حيّ على مبنى المحافظة. لكنّ الشيخ مجهول عبد منصور يحثّهُ على مُشاهدة ما صوّرتهُ كاميرات المُراقبة المُثبتة على الشارع وسيعرف فيما إذا أُلقيت الرمّانة اليدوية من قِبل أفراد الشرطة أم من قِبل المتظاهرين الذين رشقوا مرصد الحراسة بالحجارة وكسروا واجهاته الزجاجية فقط. أمّا بقية الدوائر الرسمية فهم الذين أحرقوها.
"بإسم الدين باگونا الحراميّة"
يُثبت الناشط المدني باسم خشّان بأنّ الذين قاموا بحرق بعض مقرات الأحزاب في محافظة المثنى هم من غير المتظاهرين. فقد استهدف الحريقُ "القلم السرّي" وهي غرفة تحتوي على ملفات يمكن أن تُثبت فساد المُحافظ وآخرين. أمّا المتظاهرون فهم لا يعرفون القلم السري وما يحتوي عليه من أدلّة. يتردد الهتاف الأكثر شهرة في العراق غير مرة على مدار الفيلم "بإسم الدين باگونا الحراميّة" فثمة تواطؤ معروف بين السلطة السياسية والسلطة الدينية ويمكن أن نراه مع أحد رجال الدين الذين رصدتهم كاميرا هادي ماهود الاستقصائية التي كشفت المستور، وعرّت الخطاب الملتبس الذي يتبناه رجل الدين المستفيد من السلطة الفاسدة التي تحقق له بعض المطالب الأرضية الدنيئة مقابل مؤازرته للباطل وتكريسه لظلم الناس البسطاء الذين يقعون ضحايا النصب والاحتيال والأباطيل الخرافية المشوّهة.
لا يجد المحافظ فالح سكر حرجًا في القول بأنّ لديه أسماء أكثر من 50 شخصًا مُعتقلًا وأكثر من 50 دعوى قضائية سوف تُقام في المحاكم على وفق القانون الذين يتمّ بموجبه ملاحقة المُسبِّبين والمُحرِّضين والمموِّلين لهذه التظاهرة وهو يشير من طرف غير خفي إلى وجود منْ يُحرّض على هذه التظاهرات الاحتجاجية ويموّلها سواء من أطراف محلية أو أجنبية.
يندر أن تجد في بلد متطور أو يقف على حافة التمدن والحداثة أن تتجاوز فيه أجهزة الأمن والاستخبارات والشرطة المحلية على المحامين وهذا ما حدث بالضبط للمحامي مقداد العامري الذي اقتادوه من المرآب المخصص لموظفيّ المحكمة ومحاميها واعتقلوه في دائرة الاستخبارات حيث تعرّض إلى ضرب مبرّح لا يتحمّله بشر على حد قوله بعد أن اتهموه بقيادة التظاهرة المُطالِبة بحقوقهم المشروعة.
لم تتأخر نقابة المحامين في المثنى بالردّ على هذا الإجراء التعسفي المُخالف للدستور العراقي حيث تظاهر أكثر من 80 محاميًا أمام دائرة الاستخبارات احتجاجًا على تعنيف المحامي مقداد العامري والاعتداء السافر عليه الأمر الذي دفع مدير مكتب التحقيقات الوطنية إلى تقديم الاعتذار الرسمي من المحامي المذكور وإدعّى بأنّ هناك حالة إخفاق في تحديد هُوية المُعتدي الذي ارتكب هذه المخالفة القانونية أمام الملأ! السؤال المنطقي هنا: إذا كانت دائرة الاستخبارات نفسها تفشّل بالتوصل إلى معرفة الجاني وهُوية المنتسِب إليها فكيف ستتعرف على هُوية الجُناة من الدوائر الأخرى التي تقع خارج اختصاصها المهني؟
يتحدّث الناشط المدني الدكتور عدنان عبّاس بحرقة عن الطبقة السياسية الجديدة التي جاءت لتنهب المال العام وتغادر الوطن. وينتقد في معرض حديثه أحد السياسيين الذي صرّح في لقاء تلفازي بأنه لا يستطيع أن يجلب أبنائه إلى العراق بحجة أنّ أبنائه لا يفهمون "اللغة السوقية" لعامة الناس ولا يستطيعون الانسجام معها لأنهم إعتادوا الحياة اللندنية الراقية المُرفّهة. أنّ هذا التعالي مردود عليه وأنّ رفاهية أولاد هذا السياسي الأرعن هي من أموال الشعب العراقي المنهوبة في وضح النهار. يتهم الدكتور عبّاس الأحزاب السياسية بقتل المتظاهرين الشرفاء الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل عراق حر وديمقراطي يضمن الحرية والعدالة الاجتماعية للجميع. ويُلقي باللائمة على مدير الشرطة، ورئيس جهاز الاستخبارات، وقائد قوات الرافدين الذين كانوا سببًا في ضرب المتظاهرين، واغتيال المعتصمين، ويطالب بإقالتهم جميعًا. هتاف جماعي آخر شديد الدلالة يقول: "عارٌ عليكم أيها الجُناة / تقتلون شعبًا في المظاهرات".
أعمال عنف، واعتقالات عشوائية، وعدالة غائبة
يُقدّم عقيل الموسوي، رئيس مفوضية حقوق الإنسان في المثنى سردًا مطولًا بالشكاوى التي قُدمت للمفوضية تتعلق بأعمال العنف، والاعتقالات العشوائية، وغياب أوامر القبض، وتأخّر حسم الدعاوى، وعدم الإطلاع على الأوراق التحقيقية وما سواها من انتهاكات. ووعد بإجراء التحقيقات الأولية في الشكاوى المٌقدَّمة لها وإحالتها إلى الجهات المعنيّة التي تدرسها وتبتُّ في أمرها.
يعتقد باسم خشّان بأنّ محافظة المثنى قد تركت وراءها المطالب غير الموضوعية، وتبنّت مَطلبًا واحدًا، وتوجهت نحو سبب المشكلة وليس إلى نتائجها. فنقص الخدمات، وشحة الماء والكهرباء، وسوء التعليم، وانهيار النظام الصحي، وتفشي الرشوة والمحسوبية كلها نتائج للفساد. فإذا حاربنا الفساد واستطعنا أن نقضي على السبب الرئيس، ونُلزم القضاء بتطبيق القانون تطبيقًا صحيحًا، ونحقق المساواة بين المواطن والمسؤول أمام القانون، ونحاسب المقصّرين بجرائم الفساد المالي، ونستعيد الأموال المسروقة بواسطة معالجة السبب الرئيس وليس العودة إلى النتائج الفرعية المتشظّية عن الفساد. ينبّه أحد المراسلين التلفزيونيين بأنّ السلطة تحاول دائمًا أن تمتصّ غضب الشارع ونقمته من خلال إطلاق الوعود الكاذبة لكنّ هذه الوسائل الملتوية لم تعد تنطلي على أحد، فلقد أدرك المواطنون هذه الألاعيب والحيَل التي يلتجئ إليها الساسة الفاسدون من صنّاع القرار.
يرى الشاعر سعد سباهي بأنّ جماهير السماوة لم يخرجوا تحت عنوان مُحدّد، وإنما خرج الكل بهُويته؛ هُوية وطن يحترق، وأصوات صغاره وكباره لكي يضعوا حدًا للمأساة التي يعيشها أمام حكومة ظالمة، وأحزاب فاسدة لا تعرف إلّا كيف تسرق وتوقظ الفتنة الطائفية النائمة. أمّا الناشط أحمد العامري فلا يجد حرجًا في القول بأنّ المتظاهرين فقدوا الثقة بالسلطتين التنفيذية والتشريعية ولم يبقَ لديهم سوى السلطة القضائية وطلبوا منها محاسبة الفاسدين واسترداد الأموال العامة المنهوبة. تحوّلت هذه التظاهرة إلى ما يشبه الاعتصام المدني الذي استمر ثمانية أيام حتى أن أحدهم طالب رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي بضرورة التوجه إلى محافظة المثنى لحل المشكلات العويصة التي تواجههم. وبدلًا من أن يذهب العبادي بنفسه كلّف ممثلتهُ "بشرى شعير" التي التقت بعيّنة من المتظاهرين بينهم الناشط باسم خشّان وتسلّمت مطالبهم المشروعة ووعدت بتسليمها إلى خلية الخدمات والإعمار لكي تجد طريقها إلى الحل والتنفيذ.
فنان يتضامن المتظاهرين ويحلم بتحقيق وطنه المنشود
لا بدّ أن يحضر رجل الدين في بعض أفلام هادي ماهود، وهو حضور مشكوك فيه. ففي الجلسة الدينية التي عقدها السيد علي الطالقاني في ساحة الاعتصامات على شكل "قراءة حسينية" لم تقنع المثقفين والمتعلمين وحملة الشهادات ويكفي للمتلقي أن ينظر إلى وجه باسم خشّان والدكتور عدنان عباس وشخصيات مثقفة أخرى حتى يلمس عدم قناعتهم بطروحات السيد علي الطالقاني حتى أن الدكتور عدنان عبّاس وصف حديثه بتخدير للناس، ووضعه إلى جانب المتأسلمين والناس الذين سرقوا أموال الشعب العراقي. فيما رأى شخص متنوّر آخر بأنه بدلًا من أن يشدّ من عزم المعتصمين ويشجّعهم على البقاء والاستمرار في التظاهر فإنه يُثبط هممهم ويقلل من شأن الاعتصام وكأنه مكلّف بتهدئة الأمور. بينما اعتبر خالد علي الجياشي وهو ناشط آخر بأنّ هذه القراءة الدينية هي واحدة من الفتن التي يعوّلون عليها. أمّا الفنان ضرغام حميد السماوي الذي يجاري المتظاهرين في مطالبهم المشروعة ويسايرها لكن مطلبه الرئيس هو تحقيق الوطن المنشود لأن ما يعيش فيه ليس وطنًا بالمعنى الحقيقي للكلمة. وفي السياق ذاته يرى الشيخ كاظم عبد برشاوي بأنّ هذه الحكومة لا تمثلهم، وأننا في العراق لا نمتلك دولة وأول شيء فعلوه ضد المتظاهرين أنهم قطعوا عنهم الماء نهارًا كاملًا، كما أن نقطة التفتيش في "الرميثة" حجزت السيارة التي تحتوي على أدوات وقدور الطبخ وهذا أمر غير مقبول من وجهة نظره كشيخ عشيرة.
واحتجاجًا على قطع الماء والكهرباء يهتف أحد الرجال الذين يرتدون زيًا عربيًا ويقول دابكًا:"البايك حقي وحقك / ذاك النايم ع التبريد".
وعلى الرغم من قسوة وفظاعة ما عملهُ صدام حسين بالشعب العراقي فإن أحد المتظاهرين ينتقد أسلوب النظام الحالي في التعامل مع المحتجين لأنّ هناك سبعة أو ثمانية شرطة يضربون متظاهرًا وأحدهم يسحق رأسه بالبسطال مُقارنًا هذه الحالة بما يحدث للفسطينيين في ظل الاحتلال الإسرائيلي ويتحدث لهم عن ناقلة مدرّعة تفرّق المتظاهرين بوحشية وتحاول دهسهم من دون رحمة أو شعور بالخزي والعار من هذه الفعلة النكراء.
قصور باذخة وجزر ساحرة في عُرض المحيطات
يمارس الدكتور عدنان عبّاس دورًا تحريضيًا صريحًا حيث يحمل مكبرّة صوت يتحدث بواسطتها إلى مواطني السماوة الذين يتواجدون في السوق المسقّف ويدعوهم إلى عدم القبول بإتيان محافظ جديد عليه شبهة فساد. فمضيف المحافظ الذي يقدّم لمرتاديه الشاي والقهوة فقط رُصد له مليار و 350 مليون دينار عراقي تكفي لبناء العديد من المدارس والبيوت للفقراء. أمّا المسؤولون في الدولة والبرلمان فلديهم جوازات تمكّنهم من السفر إلى كل بلدان العالم، ويورد أمثلة على برلمانيين اشتروا قصورًا وجزرًا في شرم الشيخ ولبنان والمحيط الهادئ.
نخلص إلى القول بأنّ فيلم "سماوتي" يندرج أيضًا ضمن أفلام التحريض والاحتجاج التي دأب عليها المخرج هادي ماهود في أفلامه الوثائقية على وجه التحديد وكشف من خلالها فساد المسؤولين والبرلمانيين الذين ينتمون للطبقة السياسية التي جاءت إلى سدة الحكم بعد عام 2003م ومارست قمعًا لا يقل بشاعة عن القمع الذي شهدناه في ظل النظام الدكتاتوري المقبور، وعدسة الكاميرا الوثائقية هي الآلة الوحيدة التي تنقل بأمانة ما يجري على أرض الواقع من دون فبركة أو تزوير وتركَ أمر الحُكم عليه إلى المتلقّين الذين يقولون، في خاتمة المطاف، كلمة الحق والعدل والإنصاف التي تهتزّ لها الجبال قبل أن ترتعش لها ضمائر المسؤولين الذين قدّموا مصالحهم الشخصية والحزبية على مصلحة الوطن الجريح.
***
عدنان حسين أحمد - لندن