تقارير وتحقيقات
وسام عبد العظيم: مسائلة بلا انحياز مهرجان بغداد الدولي للمسرح

شهدت بغداد في الليالي السابقة 10-16/10/2025 حدثًا سنويًا يتلقى فيه المسرحيون العرب من بقاع مختلفة، فضلاً عن الحضور العالمي، لعديد من الفرق المسرحية المشاركة في المهرجان، ولا يزال المسرحيون العراقيون والعرب يترنّون أبصارهم بمحبة للمراحل التي يشهدها المهرجان في كل عام، والأمل بتطور ملحوظ عبر دورات أكثر احترافية تليق بالعراق ومسرحه، فضلاً عن الأصوات الحقيقية التي تسعى مخلصة لتعضيد كل فعل ثقافي يعزز من تفعيل الحركة الثقافية والمسرحية في البلد. وما يدفع إلى غض الطرف عن كثير من الإخفاقات التي تحدث مع كل دورة هو المبدأ القائل: "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام".
ولكن هذا يتساوق فعلاً مع الدورات الأولى للمهرجان والفترة الزمنية المتوترة سياسيًا واقتصاديًا التي كان يشهدها البلد آنذاك، على أن يتم تجاوزها في الدورات اللاحقة. ومع تجاوز العتبات الأولى من التأسيس والتطور الملحوظ في الوضع السياسي والاقتصادي للبلد، لتكن ثمة مواجهة حقيقية لترصين المهرجان عبر تشخيص مواطن القوة بعيدًا عن المدافعين بحماس عن المهرجان وإدارته بـ"أضراس الملكيين أكثر من الملك"، ومواطن الخلل بعيدًا عن المتربصين والمأزومين من الإدارة وفريقها.
ما يميز هذه الدورة أنها تحمل اسم الفنان الدكتور ميمون الخالدي، وهي بادرة طيبة على عكس ما اعتدنا عليه من أن تسمى الدورات بأسماء الرواد الراحلين. والفنان الدكتور الخالدي من الشخصيات التي لها حضور فاعل ومؤثر في الحركة المسرحية العراقية والعربية، وهو اختيار صائب.
على صعيد التسويق والترويج للمهرجان، جاءت هذه الدورة بنتائج طيبة عبر مشاركة المهرجان في منصات عديدة محلية وعربية، فضلاً عن التنسيق مع الدائرة الإعلامية في الهيئة العربية للمسرح عبر بث جميع فعاليات المهرجان بالبث المباشر عبر منصاتها، وهذا أمر محمود يوسع من رقعة المتابعين لفعاليات المهرجان في مناطق جغرافية متعددة.
كما تجلّت التماعات جمالية لافتة للمسرح الشرقي في مهرجان بغداد الدولي في دورته السادسة، من خلال عروضٍ نوعية أعادت سمت (المسرح في الشرق) بوصفه مصدراً أصيلاً للجمال والمعنى المسرحي بعيدًا عن سطوة النموذج الغربي. وقد مثّل العرض الإيراني "جسيمات الفوضى" أحد أبرز هذه التجارب، إذ قدّم رؤية جمالية مغايرة اتكأت على تعدد فضاءات العرض والأسطح المرنة، حيث تشكلت داخل الخشبة خشباتٌ فرعية متداخلة أتاحت مستويات متعددة للتمثيل، في حين انطلقت فكرة العرض من بيئة تراثية محلية لإحدى المدن الإيرانية التي لها امتدادات تاريخية، رسّخت أصالته وانتماءه الثقافي. ورغم اختلاف اللغة، إلا أنّ الصور البصرية عالية الدقة والإيحاء كانت كفيلة بنقل المعنى والتجربة إلى المتلقي دون وسيط لغوي.
أما العرض الهندي "رقصة النسيج"، فقد كان بدوره انعكاسًا حقيقيًا لهوية المسرح الهندي، إذ اعتمد لغة درامية بصرية مكثفة أغنت المتفرج عن النص اللغوي المباشر، وقدّمت نموذجًا متفردًا في تلاحم الحركة والإيقاع والرمز، وقدم تصورًا بانوراميًا لافتًا عن النموذج المسرحي في الهند.
إنّ مثل هذه العروض تُبرز بجلاء ملامح (المسرح في الشرق) بوصفه ظاهرة جمالية وفكرية قلّما نجد لها حضورًا في المهرجانات العربية، التي لا تزال تخضع في الغالب لهيمنة النموذج الغربي. وقد أشار الناقد عبد الرحمن بن زيدون إلى تكريس النموذج الغربي وتأثيره الكبير في المسرح العربي، بقوله: "لقد سيطرت عليهم فكرة رئيسة واحدة، وهي أن الفن الذي ينقلونه إلى بلادهم العربية هو النموذج المسرحي الوحيد الذي عرفته البشرية". وهي رؤية اختزالية حدّت من انفتاح المسرح العربي على نماذج الشرق الغنية. ولعلّ مهرجان بغداد الدولي، في دورته السادسة، استطاع أن يكسر هذا القيد من خلال انتقائه لعدد من العروض الشرقية عميقة الجذور في تقاليدها وأعرافها وميثولوجياتها، ومشبعة بعناصر الأداء الراقص والأزياء المحلية، لتعيد التأكيد على أنّ المسرح في الشرق قادر على أن يقدم أفقًا جمالياً مغايرًا يُثري المشهد المسرحي العربي ويعيد وصل الجمال بالهوية.
ومن جانب آخر، لا تزال ثمة مناطق هشة لم تقترب من الاحتراف رغم توفر المقومات اللازمة لصلابتها، ابتداءً من الاختلاط المستمر لرئيس المهرجان في جميع المهرجانات العربية والإقليمية، إلا أنها لم تكن جلية في مهرجان بغداد المسرحي في دورته السادسة. وتجنبًا للحديث عن تكرار الضيوف في كل دورة، فهذه قضية زئبقية، وللمهرجان وإدارته فلسفة خاصة بهم ولهم الحق فيما يرون. كما لا افضل الحديث هنا عن الحضور الفعلي للشباب في حلقات المهرجان وجلساته حتى لا تفسر بتفسيرات شخصية، ولكن يمكن أن نتساءل: ما هي الغاية من دعوة مئات الضيوف دون أي مهام تُذكر؟ ان ورد هذا السؤال هنا، فهو لا يقلل من أهمية الضيوف وأسمائهم، كلهم محترمون ومؤثرون وفاعلون، ولكن ما الغاية من دعوة ثلثي ضيوف المهرجان دون أي مهمة؟ ألم يثقل ذلك من كاهل المهرجان؟ كون المهرجان ملزم بتوفير سمات الدخول و الطيران والإقامة والإعاشة والنقل الداخلي.
هل عجزت إدارة المهرجان حقًا عن إيجاد محاور معرفية أو فكرية يمكن من خلالها استثمار هذا الحضور العراقي والعربي الواسع للضيوف؟ أليس من الأجدى تحويل هذا التجمّع الكبير إلى مساحة حوارية مفتوحة تُنتج معرفة نقدية حول التجربة المسرحية العراقية عبر الندوات، والحوارات الفكرية، والقراءات النقدية، والبحوث التي تتناول العرض العراقي من زوايا عربية متعددة؟ إنّ غياب هذا النوع من التفعيل لا يشير إلى نقص في الموارد، بل إلى غياب في الرؤية، إذ يتحول الحضور إلى شكل بلا مضمون، والضيافة إلى فعل احتفالي لا يتصل بالوظيفة المعرفية التي يفترض أن ينهض بها المهرجان.
وإذا كانت هذه الظاهرة مألوفة في بعض المهرجانات العربية، فإنّ المقارنة مع مهرجانات مهمة مثل القاهرة التجريبي، وقرطاج، والهيئة العربية للمسرح، تكشف عن فارق في إدارة الحضور. اذ لا يُستدعى الضيف لمجرد التمثيل الرمزي أو الحضور البروتوكولي (وإن كان ذلك موجودًا فهو لا يتعدى عدد أصابع اليد)، بل يُستثمر وجوده بوصفه فاعلًا معرفيًا يشارك في صناعة المعنى. فكل مدعو يحمل مهمة محددة: إلقاء ورقة فكرية، أو تقديم قراءة نقدية، أو التعقيب على عرض مسرحي، أو الإسهام في ورشة أو ندوة أو مائدة مستديرة.
من هنا يتضح أن الدعوة في تلك المهرجانات ليست إجراءً شكليًا، بل تجسيدًا لفعل المشاركة، حيث يتحول الحضور إلى شكل من أشكال التبادل الثقافي والمعرفي. أما في مهرجان بغداد الدولي للمسرح، فإن تضخّم عدد المدعوين دون تحديد مهامهم يضع المهرجان أمام مفارقة دلالية، فكلما ازداد عدد الضيوف، تناقصت فاعلية وجودهم، وتحوّل الكثرة إلى عبء على الموازنة بدل أن تكون رافدًا للتجربة.
وهكذا، لا تكمن المشكلة في استضافة الضيوف بحد ذاتها، بل في غياب استراتيجية تحويل الضيافة إلى فعل إنتاجي. فالمهرجان، بوصفه مؤسسة ثقافية، مطالب بأن يخلق من الحضور معنى، ومن التنوع معرفة، ومن اللقاء مساحة لإعادة التفكير في التجربة المسرحية العراقية من منظور الآخر. دون ذلك، ستظل الضيافة فعل كرمٍ ثقافيٍ نبيلٍ، لكنها بلا أثر بنيوي في الجسد المسرحي نفسه.
***
د. وسام عبد العظيم عباس