تقارير وتحقيقات
محمد نوحي: المؤتمر الدولي الأول حول الثورة الرقمية
التحولات المجتمعية، والمسارات المعرفية
نظمت المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية بأكادير بشراكة مع مختبر القيم والمجتمع والتنمية التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر المؤتمر الدولي الأول حول "الثورة الرقمية، التحولات المجتمعية، والمسارات المعرفية" عبر تقنية التناظر عن بعد وذلك أيام 25-26-27 مارس 2021. ولأهمية الموضوع وراهنيته، فقد لاقى تجاوبا كبيرا تمثل في مشاركة 92 متدخلا من 13 دولة من القارات الخمس هي المغرب، وأستراليا، وقطر، والسعودية، وسلطنة عمان، والبرتغال، والأردن، والجزائر، والولايات المتحدة الأمريكية، وتونس، والعراق، وفلسطين، وفرنسا.
وقد شكل المؤتمر مناسبة أكاديمية مميزة لتبادل المعارف وتلاقح الأفكار حول النماذج النظرية، والمنهجيات المبتكرة، والتطبيقات الجديدة للتحول الرقمي.كما كان منصة للتفاعل حول التطورات الهائلة في هذا المجال وتقديم مناقشات بناءة حول الفرص المتعددة لأبعاد الثورة الرقمية، وتحدياتها الآنية والمستقبلية، وانعكاسات تكنولوجيا المعلومات الرقمية على كل جانب من جوانب الحياة البشرية.فالثورة الرقمية شكلت طفرة علمية غير مسبوقة في تاريخ البشرية امتدت انعكاساتها بشكل سريع إلى كل مناحي الحياة المعاصرة. وكمظهر من مظاهر التطور التكنولوجي المطرد والتدفق المعلوماتي اللامتناهي، فإن هذه الثورة الرقمية قد فتحت في الآن ذاته إمكانيات غنية وواعدة، وفرضت إعادة تحديد معمقة لدلالات ومآلات الوجود الإنساني والكوني على حد سواء. وإذا كانت قاطرة التطور الرقمي قد رسمت آفاقا علمية متجددة، ونجحت في صياغة أنماط جديدة من الوجود الزمكاني، والهوياتي، والتكنولوجي المعقد، فإنها في الوقت ذاته قد هزت القناعات العميقة للأفراد ومسلماتهم المتجذرة حول المعرفة، والمجتمع، والسياسة، والاقتصاد، والاتصال، والصناعة، والتربية، والتعليم، والأسرة، والثقافة، والفنون، الخ... بطرق لم يكن من الممكن تصورها أو استيعابها من قبل. ونظرا لتداخل العلوم وتشابكها وتكاملها، كان لابد من تجاوز النظرة التقنية المحدودة، ومعالجة الموضوع من زوايا علمية مختلفة، ومقاربات أكاديمية شتى، ومشارب فكرية متعددة تشمل العلوم الإنسانية، والقانونية والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها من أجل شمولية الطرح ووضوح الرؤية حول بنيات وآليات التعامل مع الثورة الرقمية المعقدة. فبعد حفل الافتتاح الذي تميز بحضور رئيس جامعة ابن زهر والوفد المرافق له، ومدير المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية، وممثل مختبر القيم والمجتمع والتنمية، تم افتتاح المحور الأول المعنون ب"الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته" بمداخلة مميزة للمتحدث الرئيسي البروفيسور َArlindo Oliveira رئيس معهد هندسة النظم والحاسوب، والمتخصص في التعلم الآلي والمعلوماتية الحيوية، وتصميم الدوائر الرقمية، وعضو معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات IEEE تحت عنوان «Artificial Intelligence: Applications, Implications, Speculations» (الذكاء الصناعي، التطبيقات، التداعيات، والتكهنات) حيث ركز فيها على آخر كتاباته العقل الرقمي: كيف يعيد العلم تعريف الإنسانية (The Digital Mind: How Science Is Redefining Humanity)
فقد أكد في مداخلته على أن التطورات المتسارعة في العلوم والتكنولوجيا وخصوصا في مجال الذكاء الاصطناعي قد تقود حتما إلى ظهور عقول رقمية بحتة -آلات ذكية تساوي أو تفوق قوة العقل البشري. فالتطورات التكنولوجية والعلمية سهلت عملية اكتشاف القوانين التي تتحكم في سلوك المجالات الكهرومغناطيسية إلى تطوير أجهزة الكمبيوتر وفق الانتقاء الطبيعي للخوارزمية النهائية، وتطور علم الوراثة والجهاز العصبي المركزي، ويصف الدور الذي لعبه التصوير الحاسوبي في فهم وصياغة الدماغ لصياغة سؤال مركزي لا مفر منه: هل الدماغ البشري هو النظام الوحيد الذي يمكنه استضافة العقل؟ وإذا ظهرت العقول الرقمية – وهي في طور الظهور-فما هي الآثار الاجتماعية والقانونية والأخلاقية المترتبة عن ذلك؟ هل ستكون العقول الرقمية شريكة للبشر أم منافسة لهم؟
بعد ذلك، وارتباطا بنفس المحور الأول حول "الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، انطلقت الفقرة الثانية بمشاركة أزيد من 17 مداخلة بالإنجليزية، والفرنسية، والعربية ركزت على مواضيع البيانات الضخمة (Big Data) وأنترنيت الأشياء (Internet of Things) والتصوير الرقمي في المجال الطبي والفلاحي، والخوارزمية الاحترافية وتحليل البيانات (Data Mining) والبلوك تشين (Block Chain) والأنظمة المندمجة (Embedded Systems) وعلاقتها بالتنمية المستدامة والتحديات التي تطرحها. وبعد ذلك، كانت هناك مداخلة حوارية مميزة مع المتحدث الرئيسي الثاني من كاليفورنيا بالولايات المتحدة الامريكية الاكاديمي والصحفي والمقاول البارز Andrew Keen تحت عنوان: «Epistemological Trajectories of the Digital Revolution» (المسارات المعرفية للثورة الرقمية) كانت عبارة عن رحلة علمية شيقة عبر كتاباته المتعددة منها عبادة الهواة (Cult of the Amateur) ،الأنترنيت ليست هي الحل(The Internet is not the Answer) والدوار الرقمي (Digital Vertigo) وكيفية إصلاح المستقبل (How to Fix the Future) حيث شدد على ضرورة انتقاد التبشير الجديد والحماسة المفرطة للسيطرة الرقمية معتبرا أن ثورة وسائل التواصل الاجتماعي تشكل أكبر تحول ثقافي مؤلم للبشرية منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، و مؤكدا على ضرورة الوعي والتمكن من التقنيات الرقمية لكيلا تبقى البشرية على هامش التطور التقني المتسارع يوما بعد يوم.
وفي اليوم الثاني من فعاليات المؤتمر، تم التركيز على مداخلة البروفسور والأكاديمي والفيلسوف الأسترالي نيكولاس أغار Nicholas Agarالمعنونة ب "من أجل إيجاد أماكن للبشر في الاقتصاد الرقمي" (Finding Places for Humans in the Digital Economy) أكد من خلالها بأن التطورات في الذكاء الاصطناعي مكّنت أجهزة الكمبيوتر من تولي ليس فقط المهام الروتينية ولكن أيضًا نوع "العمل الذهني" الذي اعتمد سابقًا على الذكاء البشري، مما يشكل تهديدا للقدرات البشرية. والحل في نظره يكمن في اقتصاد اجتماعي رقمي هجين (hybrid social-digital economy)يعتمد على مبدئي الكفاءة والإنسانية، حيث يقوم الناس بالوظائف التي تهم المشاعر وتتولى الآلات العمل المكثف الخاص بالبيانات. لكن سيتعين على البشر الإصرار على إثبات أهميتهم في العصر الرقمي.
بعد ذلك، تم الانتقال إلى المحور الثاني للمؤتمر والمعنون ب " العلوم الإنسانية الرقمية والتعليم عن بعد" حيث تناول المتدخلون الأربعة والعشرون في صلب هذا المحور الإشكاليات المرتبطة بتلقي الأدب في العصر الرقمي، والثورة الرقمية وسؤال الأخلاق، وإشكالية الحداثة، وكفايات التعليم الرقمي، واليقظة الرقمية وانعكاساتها على الممارسات التربوية، ومعيقات التعليم عن بعد، والتجديد الرقمي التربوي في التعليم العالي، وتطبيقات تكنولوجيات الإعلام والاتصال في الممارسات البيداغوجية، وفوضى الفتاوى المجهولة المرجعيات في العالم الافتراضي، وغيرها. وقد تخللت هذا اليوم وفي نفس المحور مداخلة فريدة من الأكاديمية الأمريكية البروفيسورة روبيكا ريزامRoopika Risam تحت عنوان “Building New Digital Worlds: The Stakes of Postcolonial Digital Humanities” (بناء عوالم رقمية جديدة: رهانات العلوم الإنسانية الرقمية لما بعد الاستعمار). ففي مداخلتها القيمة، أكدت ريزام على أن العلوم الإنسانية الرقمية لدراسات ما بعد الاستعمار تشكل حقولا جديدة تتدخل في إنتاج المعرفة في العصر الرقمي قد تساعد في تطوير المحفوظات الرقمية وإمكانيات الأرشيف الرقمي لما بعد الاستعمار.
أما اليوم الأخير من المؤتمر، فقد شهد تناول المحور الثالث "الاقتصاد الرقمي والمدن الذكية"(Digital Economy and Smart Cities) بالتزامن مع المحور الرابع "وسائل الإعلام، المجتمعات الافتراضية، السياسة، والأمن السيبيراني" (Mass Media, Virtual Communities, Politics, and CyberSecurity) . فالأول ركزت مداخلاته السبعة والعشرون حول الثورة الرقمية وأهميتها في الخصخصة والاقتصاد، والمقاولة الرقمية، وأثر الإفصاح الإلكتروني على موثوقية المعلومات المحاسبية في القوائم المالية، وميكانيزمات التخطيط العمراني في الانتقال للمدن الرقمية الذكية، وإمكانيات تحول المتاحف إلى العالم الافتراضي، والتكنولوجيات الجديدة للتسويق الرقمي والتجارة الدولية، ومشاريع رقمنة الشركات، واقتصاديات المعلومات المترابطة، الخ...، أما المحور الأخير، فقد تناولت مداخلاته العشرون مواضيع مهمة مثل دور الإعلام في التحول الرقمي، وسوسيولوجية الخطاب الصحفي، وتغيرات وسائل الإعلام في العصر الرقمي، والدبلوماسية الرقمية، والمواطنة الرقمية، وشبكات التواصل الاجتماعي، والقانون وتحديات تكنولوجيا المعلومات، وواقع ممارسة الخصوصية الرقمية، والجريمة الالكترونية، والأمن المعلوماتي العربي، وغيرها من المواضيع.
وإذ شكل المؤتمر الدولي حول "الثورة الرقمية، التحولات المجتمعية، والمسارات المعرفية" فرصة علمية للأكاديميين، والمختصين، والباحثين، والمهنيين لتدارس إمكانات، وتداعيات، وانعكاسات الثورة الرقمية على مختلف الصعد، فإن الجلسة الختامية كانت محطة رئيسية للمشاركين قدموا من خلالها توصيات مهمة للمستقبل بعد النجاح الباهر الذي عرفه المؤتمر سواء من الناحية التنظيمية، أو التقنية، أو اللوجستيكية، أو من الناحية النوعية للمقاربات والمقامات الوازنة للمشاركين.يشار إلى أن المؤتمر كان مقررا أن ينظم حضوريا، إلا أن الظروف الصحية التي فرضتها جائحة كورونا حالت دون ذلك.
د. محمد نوحي
رئيس المؤتمر