اخترنا لكم
محمد البشاري: الثقافة.. جسر بين المعنى والوجود

الثقافة ليست وعاءً محايداً تتكدّس فيه المعارف، ولا إطاراً شكلياً يزيّن واجهة المجتمعات، بل هي النسيج العميق الذي تتداخل فيه المعاني والقيم والرموز، ليشكّل الوعي الجمعي ويمنح الوجود الإنساني معناه. إنها الجسر الذي يصل بين المعنى والوجود، بين الذات والآخر، بين الذاكرة والمستقبل. في منظور عالم الاجتماع والفيلسوف دنيس كوش، كما بسطه في كتابه «مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية»، الثقافة ليست شيئاً نملكه، بل هي تملكنا، توجه سلوكنا، وتؤطر رؤيتنا للعالم، وتحدّد موقعنا فيه.
ويُظهر كوش أنّ الكلمة في أصلها الأوروبي كانت تحيل إلى فعل الزراعة والرعاية (culture)، ثم انتقلت في القرن الثامن عشر إلى المجال الرمزي، حيث ارتبطت بالتهذيب والرقي، لتغدو في القرن التاسع عشر محوراً للفكر الأنثروبولوجي. وفي تعريف إدوارد تايلور الشهير، أن الثقافة هي «كلٌّ معقد» يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات.. وهو تعريف رسّخ شمولية المفهوم، لكنه حمل في ثناياه نزعة تطورية قسّمت الشعوب إلى متقدمة وبدائية، وجعلت من الثقافة أداة ضمنية لترتيب البشر في سُلّم حضاري.
وفي النقاش الكلاسيكي، مثّلت ثنائية «الثقافة والطبيعة» أحد المداخل الكبرى لفهم الإنسان: الطبيعة كإرث بيولوجي فطري، والثقافة كمعطى مكتسب يصوغ السلوك والمعنى. وقد أعلت العلوم الاجتماعية الحديثة، انطلاقاً من دوركايم وصولاً إلى فيبر، من شأن البعد الثقافي؛ فرأى دوركايم الثقافة منظومةً من «الوقائع الاجتماعية» الملزمة، بينما اعتبرها فيبر شبكة معانٍ تمنح الأفعال الإنسانية قابليتها للفهم.
لكن التحولات الفكرية في القرن العشرين كسرت الصورة الجوهرانية للثقافة، وانتقلت إلى النظر إليها كبناء اجتماعي متغير، يتأثر بالسلطة والاقتصاد والتاريخ، ويتشكل عبر التفاعل المستمر. المدارس النقدية، من فرانكفورت إلى ما بعد البنيوية، حذّرت من أن يُستعمل المفهوم لتبرير الهيمنة أو تغليف الصراع بخطاب «الصدمة الحضارية».
وعلى الصعيد الأممي، بلور «إعلان مكسيكو للثقافة»، الصادر عن اليونسكو عام 1982، رؤيةً شموليةً اعتبرت الثقافةَ مجموعَ السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً أو فئة، وتشمل الفنون والقيم وطرائق الحياة، وهي ما يمنح الإنسانَ القدرةَ على التفكير النقدي والإبداعي. أما الألكسو والإيسيسكو فقد تبنَّتا التصورَ نفسَه، مؤكدتَين أن الثقافة مجال فكري وقيمي متكامل يرتبط بكل أوجه النشاط الاجتماعي.
هذه المقاربات تكشف أن الثقافة ليست كياناً جامداً، بل مساراً ديناميكياً، مشروعاً مفتوحاً للتأويل وإعادة البناء. هي ميراث مشترك للإنسانية، وجسر للتواصل بين الشعوب، لكنها قد تنقلب أداة للإقصاء إذا تحوّلت إلى هوية منغلقة. ولهذا يؤكد كوش أن على العلوم الاجتماعية أن تتجاوز التوصيف إلى المساءلة المستمرة للمفهوم، بما يحرره من الاستعمالات الأيديولوجية.
في عالم اليوم، حيث تتكاثر فضاءات التفاعل الإنساني وتتداخل الحقول المعرفية، تصبح الثقافة ميداناً لصراع التأويلات ومختبراً لإنتاج المعنى. لا يكفي أن نحافظ على «موروث» ثقافي بمعناه الساكن، بل علينا أن نَصونه بقدر ما نعيد تشكيله، وفق قيم تضمن للإنسان وعيَه بذاته وانفتاحه على الآخر. الثقافة التي تحتفظ بذاكرتها من دون أن تنغلق، وتتجددمن دون أن تفقد روحها، هي وحدها القادرة على أن تكون أفقاً للعيش المشترك، وحاضنة للابتكار، ومجالاً لإعادة تعريف إنسانيتنا.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 أكتوبر 2025 23:45