اخترنا لكم

عبد الله فيصل: الاستخفاف بالعلوم الإنسانية

أسترجع اليوم مسامرة شتوية في أحد مساءات ميشيغان عام 2009... دار حوار مع الصديق العزيز رائد الدحيلب، الذي كان وقتها مُبْتَعَثاً من «أرامكو» لإكمال درجة الماجستير في الهندسة الكهربائية، وكان تركيزه البحثي على تقنية النانو. في تلك المسامرة، سألني صديقي: «لماذا تُحصَر أحاديث المثقفين في مجالاتكم (أي السياسة والاجتماع والأدب والتاريخ)، وتُغفَل المعارف الأخرى ذات الطابع العلمي التطبيقي كالرياضات والهندسة والطب؟».

أتذكر تعليقي الذي قلتُ فيه: تخيّل معي يا صديقي أنك في مجلس عامر، وصادفتَ شخصاً لا يفرق بين الإلكترون والنيترون يفتي في تقنية النانو بجهل فاقع، ولكن بلغة فصيحة؛ وعندما تحاول أن تبين المعلومة العلمية الصحيحة، فإن المجلس يَحْتَوِشُكَ مؤيداً لجهله على علمك؟

جاء الرد: «سأشعر بالغبن، وسأحار في الحضور: كيف يقدّمون كلام العامي على المختص في شأن لا يعرفون عنه الكثير؟».

هنا قلت: هذا بالضبط ما يحدث للمختصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية كل يوم، فاحمد الله أنكم معاشر المختصين في العلوم الطبيعية لا تواجهون ما نواجه.

أسترجع هذه القصة كلما رأيت شخصاً يبدي تقليلاً من أهمية دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية ويصفها بأنه معلومات عامة يمكن لأي شخص أن يستوعبها دون أن ينفق سنوات من عمره في دراستها أكاديمياً. وغالباً ما تكون الحجة أن تلك الإنسانيات والاجتماعيات تتعامل مع مفاهيم مجردة، مثل الثقافة والسلوك الإنساني والعدالة الاجتماعية، يصعب تحديدها بشكل دقيق؛ مما يجعلها - في نظرهم - أقل علمية من «الطبيعية» التي تعتمد على التجارب المخبرية والأرقام. ويضيف أصحاب تلك النظرة أن هذه الحقول المعرفية تقوم على التحليل والتفسير، وتختلف النتائج باختلاف الباحثين؛ مما يجعلها تبدو أقل موضوعية مقارنة بالعلوم الطبيعية التي تعطي نتائج ثابتة يصعب تأويلها.

تلك الحجج تعكس ضعف إلمام أصحابها بحقيقة البحث العلمي. فالباحث يتعامل مع موضوعات وعيّنات بحثه بما يتناسب معها، ولا توجد قاعدة واحدة للتعامل مع جميع العيّنات. ومع تسليمنا بارتفاع مستوى دقة البحث والنتائج في مجال العلوم الطبيعية، فإننا يجب ألا نُغفل السبب وأنه يتعامل مع عيّنات غير مدرِكة أنها خاضعة للدراسة، فالجمادات والكائنات الحية غير البشرية لا تدرِك أنها موضع دراسة، وبالتالي لا تغيّر سلوكها أو حالتها عندما تشاهد الباحث يجري بحثه عليها. في المقابل، فإن البشر - حتى الأطفال الصغار - يدركون أنهم تحت الملاحظة، فيحاولون تعديل سلوكهم ليظهروا بمظهر أفضل.

تلك واحدة فقط من المشكلات التي تواجه الباحث في المجالات الاجتماعية، والتي تحتم عليه أن يستعمل مناهج بحثية قابلة للقياس، وتأخذ في الحسبان ارتفاع «هامش الخطأ» في النتائج، مقارنة بالعلوم الطبيعية. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الأبحاث الإنسانية والاجتماعية تقوم على تحليل النصوص المكتوبة للتوصل إلى نتائج تجيب عن الأسئلة البحثية. وكما نعلم، فالتعامل مع المنتج البشري يحتاج إلى أداة تحليل تتعلق بالـ«كيف» قبل الـ«كَمّ». ورغم ذلك، فإن العلوم الاجتماعية تتعامل مع الإحصاءات وتحاول تفسيرها للخروج بنتائج تخدم صنّاع القرار.

على مستوى الأحاديث اليومية، يعتقد البعض أنهم لا يحتاجون إلى دراسة السلوك البشري، والتاريخ، والسياسة، والدين، واللغة؛ لأنها معارف بديهية، والتعمّق في دراستها ترفٌ لا يقدم ولا يؤخر في المحصّلة النهائية. وهذه المغالطة أشد من سابقتها، فالموضوع (الدين، أو السياسة، أو المشكلات الاجتماعية) متاح للجميع للحديث فيه؛ بسبب إدراك الناس علاقتَهم المباشرة بتلك الموضوعات، على عكس مستوى إدراكهم علاقتَهم بعمليات التمثيل الضوئي النباتي، أو حركة الإلكترونات في الذرة، أو حتى عملية نقل الصورة في كاميرات هواتفهم.

وإتاحة الموضوع لا تعني أن المتحدث خبير ليعطي نتائج وآراء حاسمة بكفاءة المختص. ولنستذكر فترة جائحة «كورونا» عندما أصبح كثيرون خبراء في التعامل مع الأعراض الصحية التي عصفت بالعالم، وكيف أدلوا بدلائهم في أمور لا يفقهون فيها.

خلاصة القول: إن الشأن العام - المتعلق بالعلوم الطبيعية أو الاجتماعية - متاح للجميع، ولكن الرأي العلمي الموثوق يؤخذ ممن تمرّسوا في المجال وأثبتوا جدارتهم. وإذا كان من حقنا أن نساوي بين شخص متابعٍ نشرات الأخبار عقوداً، وأكاديمي مختص في العلوم السياسية، بداعي أن الأحداث مُشاهَدة من الجميع، فإننا يجب ألا نستكثر على مَن عاش زمناً وجرب أدوية عدة للصداع أن يفتي لنا في أورام المخ.

***

د. عبد الله فيصل آل ربح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأربعاء - 11 ربيع الأول 1447 هـ - 3 سبتمبر 2025 م

 

في المثقف اليوم