اخترنا لكم
محمد البشاري: الهوية وسرديات الانتماء

الهوية ليست كياناً صلباً يسكن أعماقَ الفرد أو الجماعة، بل خطاب يُعاد إنتاجه باستمرار وفق شروط المجتمع والسياق. هكذا أراد جان فرنسوا بايار أن يفكك أوهامَها في كتابه «أوهام الهوية». غير أن النقاش حول الهوية لا ينبغي أن يبقى حبيس النصوص الأكاديمية أو مساجلات الفلاسفة، بل هو سؤال حيّ يطرق أبواب واقعنا اليومي، ويعيد صياغةَ علاقتنا بذواتنا وبالعالم.
الهوية ليست معطى طبيعياً يُورَّث كما تورَّث الجينات، بل هي مشروع تاريخي وثقافي، يُبنى ويتحوّل، ينهار ويُعاد تركيبه. ما نعتقد أنه «أصل» ليس سوى سردية منتقاة، وما نتصوره «حقيقة دفينة» ليس إلا رواية تُخاطب حاجاتنا الراهنة، لتمنحنا وهم الثبات وسط سيولة الواقع. حين تتأزم المجتمعات، تتصاعد الأصوات المطالبة بالعودة إلى «الهوية الحقيقية»، في محاولة لتعويض القلق الجماعي عبر شعارات الانتماء. كلما ازداد الخوف من ضياع المكانة أو المعنى، زادت الحاجة إلى روايات تمنح اليقينَ، حتى ولو كانت وهميةً.
وهنا تكتسب مقولة بايار قوتَها: الهوية تُستدعى حين تكون مهددة، ويُحتفى بها حين تضعف.. إنها ملاذ نفسي بقدر ما هي أداة اجتماعية، ويمكن أن تتحول من رابطة وجدانية إلى وسيلة إقصاء وتمييز، من وعد بالانتماء إلى سلاح للفصل. المؤسسات، بدورها، تلعب دوراً محورياً في ترسيخ الشعور بالانتماء وتعزيز التصورات الجماعية عن الذات. فالمدرسة، مثلاً، تُدرّس سرديات وطنية مشتركة، ووسائل الإعلام تكرس صوراً عن «النحن» و«الآخر»، والقوانين تنظّم صفة المواطنة والانتماء. هنا لا يكون الأمر نقداً بقدر ما هو توصيف لوظيفة ضرورية، تجعل الهوية إطاراً جامعاً وحاملاً لمعنى العيش المشترك، بُغية ضمان استمرارية الجماعة الوطنية.
في زمن العولمة، كان يمكن أن نتوقع تراجعَ الحاجة إلى الهوية، بما أن الحدود الاقتصادية والثقافية تتلاشى، لكن الذي حدث هو العكس. كلما اتسع العالم بالاتصال والانفتاح، ضاقت المخيلة بالانغلاق على الهويات. وكأن العولمة، بما تثيره من قلق وضياع، تدفع الأفرادَ والجماعات إلى التمسك بما يبدو «أصيلاً»، ولو كان مجرد وهم. لذلك فإن الخطابات القومية والدينية والإثنية عادت بقوة، لا رغم العولمة، بل بسببها. وكأننا أمام مفارقة وجودية: كلما انفتحت الجغرافيا، اشتدت الحاجة إلى حدود رمزية تعيد للأفراد شعورَ السيطرة والمعنى.
وهنا تكمن خطورة ما يسميه بايار «وهم الهوية». فالهوية حين تتحول إلى سلعة أو شعار سياسي، تفقد تعدديتها، وتُختزل في رموز جاهزة تُباع في السوق وتُستعمل في الدعاية. الخطر ليس في الانتماء ذاته، بل في تحويله إلى شعار مغلق، يمنع التفكير في التعقيد، ويعطل إمكان التعايش. ما يدعو إليه بايار ليس نفي الهوية، بل تحريرها من وهم الأصالة المطلقة، وردّها إلى طبيعتها: عملية مفتوحة، مجال تفاوض دائم، فضاء للعيش المشترك لا جدار للعزلة. هذا التفكيك الفلسفي يقودنا إلى تساؤل أعمق: لماذا نحتاج إلى أوهام الهوية أصلاً؟
لعل الإجابة أن الإنسان لا يحتمل الفراغ، وأنه يسعى دوماً إلى يقين يمنحه الطمأنينة، حتى لو كان يقيناً مصنوعاً. لكن الطمأنينة التي تُبنى على الوهم لا تُعمر طويلاً، سرعان ما تنهار أمام صدمات الواقع. لذا فالتحدي ليس في الدفاع عن هوية بعينها، بل في الدفاع عن القدرة على التفكير في الهوية كمسار، كاحتمال، كقابلية للتجدد، بدلاً من تحويلها إلى وثن جديد.
إن ما يطرحه بايار يضعنا أمام مسؤولية مضاعفة في عالمنا العربي، حيث كثيراً ما يتم استدعاء الهوية لتبرير الانقسام، أو لإقصاء المختلف، أو لتثبيت سردية أحادية. المطلوب ليس التخلي عن الانتماء، بل استعادته في أفق مفتوح، حيث تُصبح الهوية جسراً للحوار، لا خندقاً للحروب الرمزية.
التفكيك الفلسفي لوهم الهوية ليس ترفاً نظرياً، بل ضرورة وجودية لمجتمعات تبحث عن معنى خارج ثنائيات قاتلة بين «الأصيل» و«الدخيل»، بين «النحن» و«الآخر». بهذا المعنى، فإن ما يقدمه بايار ليس وصفة جاهزة، بل دعوة للتفكير النقدي في ما نظنه يقيناً. أن نتعلم كيف نرى الهويةَ لا كقدر محتوم، بل كفضاء للحرية، حيث يمكننا أن نعيد تعريف أنفسنا بلا خوف من الضياع، وبلا حاجة إلى التمسك بأوهام النقاء. فالهويات لا تحمينا بقدر ما تكشف هشاشتَنا، ولا تمنحنا اليقين بقدر ما تفضح قلقَنا. لكن ربما في هذه الهشاشة يكمن سر إنسانيتنا، وفي هذا القلق ينفتح أفقُنا نحو الآخر، ونحو ذات أكثر رحابة وانفتاحاً.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 2 سبتمبر 2025 23:45