اخترنا لكم

السيد ولد أباه: إعادة النظر في سؤال التقليد

بعد قرابة خمسين سنة من رحيل الفيلسوف الألماني الكبير مارتن هايدغر، نُشرت مؤخراً الرسائل التي تبادلها مع فيلسوف ألماني آخر هو هانس غورغ غدامير. ومع أن غدامير تلميذ لهايدغر وقد تأثر بفكره التأويلي، إلا أنهما اختلفا في مسألة جوهرية، هي الموقف من التقليد، بما انعكس في مراسلاتهما بعد صدور كتاب غدامير الأساسي «الحقيقة والمنهج» سنة 1960.

لقد اعتبر هايدغر أن سؤال التقليد لدى تلميذه قد حجب الإشكال الفلسفي المحوري الذي هو نسيان الوجود، في حين اعتبر غدامير أن التقليد ليس عبئاً أو فراغاً، بل هو أفق الفهم والمعنى والإطار الأوحد لممارسة التفكير الرصين الجاد. ومع أن كتاب «الحقيقة والمنهج» ترجم إلى اللغة العربية منذ سنوات عديدة، إلا أن محدداته المنهجية الثرية لم يتم توظيفها في مقاربات قراءة وتأويل التراث التي سادت في الفكر العربي المعاصر منذ سبعينيات القرن الماضي. لقد طغى على الفكر العربي في المسألة التراثية منهجان أساسيان: المنهج التاريخي الأيديولوجي الذي ينظر للنص في سياق التحولات المجتمعية والزمنية دون عناية بنظامه النظري المعرفي الخاص، والمنهج الابستمولوجي الذي ركز على مفاهيم القطيعة والانفصال دون اعتبار للسرديات الطويلة والزمنية الممتدة.

وبعد أن شاعت أفكار هايدغر وامتداداتها في تفكيكية جاك دريدا، ألغيت العلاقة التأويلية بالنص، لحساب تأويلية الوجود ولم يعد ينظر إلى الخطاب إلا من حيث هوامشه وفراغاته وآثاره المطمورة. في كل هذا المناحي يغيب التقليد إما كخطاب من الماضي لم يعد له موقع في دائرة الدلالة والمعنى، أو كغطاء حاجب لسؤال الوجود في علاقته بالإنسان التي هي منبع اللغة والتعبير، حسب أعمال هايدغر الأخيرة.

ما يؤكده غدامير هو أنه لا سبيل للخروج من نسق التقليد؛ لأن كل إمكانات التفكير تقتضي استئناف محادثة سابقة على المرء، هو بالضرورة طرف فيها، وإنْ كانت متقدمة عليه وباقية من بعده. فعلى عكس ما تتوهم أفكار الأنوار، لا سبيل للتحرر من التقليد ولا معنى لاختزاله في السلطة المعرفية المقيدة والمعيقة للإبداع والتجديد. التقليد ليس كتلة موروثة جامدة، بل يتسم بالطابع الحواري المتجدد من خلال عملية التأويل التي لا تنحصر في الفهم والتفسير، بل هل إعادة إنتاج للمعنى.

وهكذا يعيد غدامير الاعتبار للأحكام المسبقة من حيث هي موجهات للقراءة والتأويل، لا غنى عنها في استراتيجية التناص والحوار المعرفي، ومن دونها ينغلق الإنسان في أوهام الذاتية الفارغة. لا نلمس هذه الأفكار الرائدة في الكتابات العربية السائدة حول التراث الذي هو مصطلح يفترض مسبقاً علاقة القطيعة مع منابع المعنى والدلالة والانفصال عنها. التراث هو ما خلفه الأقدمون من تركة تحمل بصمات عصرهم واهتمامات زمنهم؛ ولذا فإن العلاقة معها لا تكون إلا على سبيل التملك الاستلابي في حال التقيد بها، أو القطيعة التجاوزية في حال التخلي عنها. لا يختلف في هذا المنهج من يدعو للتماهي مع النص الأصلي مع نبذ التقليد التأويلي، ومن يدعو إلى الانفصال من منطلقات حداثية تنويرية مع هذا التقليد، كلاهما في موقف عدمي من العالم المشترك الذي يشكل الأفق التاريخي للمعنى والفهم. في كتابه «ثقافة الالتباس» a culture of ambiguity، يبين توماس باور أن الإسلام الكلاسيكي كان شديد الانفتاح والتسامح نتيجة لغياب سلطة تأويلية تحتكر المعنى والدلالة، بينما كرست الأيديولوجيات الأصولية المتعصبة الراهنة فكرة حصرية الحقيقة من خلال تصورها الأحادي المغلق لمرامي النصوص.

ومن منطلق هذه الملاحظة، توصل باور في كتاب آخر إلى غياب «عصر وسيط» في الإسلام لكون هذا المفهوم لا يتناسب مع الحركية التاريخية الفعلية للمجتمعات المسلمة التي لم تشهد مشكل الانتقال من المركزية التأويلية إلى العلاقة المفتوحة الحرة مع النص.

كان المفكر الراحل محمد أركون يجمل الديناميكية التأويلية في التراث الإسلامي في ثلاثية ما لا يمكن التفكير فيه، وما تم التفكير فيه، وما أهمل التفكير فيه (بمعنى أنه خيار ممكن، لكنه لم يقع بالفعل)، بيد أن هذه الشبكة المنهجية افترضت خطأ الانفصال بين القارئ المعاصر والنص الذي يخضع لتأويله، في حين أنه يتعرض لأفق ينتمي إليه مهما أعلن الاغتراب عنه، كما توهمت هذه الشبكة انغلاق المعنى في سياق تشكله الأصلي، والحال أن المعنى لا ينفك يتشكل ويتجدد بفعل القراءة نفسها.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني.

15 يونيو 2025 23:45

في المثقف اليوم