اخترنا لكم

إبراهيم بورشاشن: عن المواطنة الإجرائية

يتمخّض التّاريخ الفلسفي، المحمّل بالسّيرورات القانونية والوقائع الاجتماعية والأحداث السياسية، في كل مرة، عن مفاهيم أساسية، يقوم بنحتها عقل نقدي ذو شقين، شق نظري ينوء بأعباء العقل النظري في معالجته للمفارقات والإشكالات، التي ما يفتأ النظر يثيرها للكشف عن خبايا المجهولات النظرية، وشق عملي يحمل أعباء العقل العملي في مكابدته للواقع السّياسي والأخلاقي وهو يُنَزِّلُ مخرجات العقل النظري ليكشف بها خبايا الواقع العملي في تعقيداته وتشابكاته السّياسية والقيمية. ومن هذا المفاهيم التي يصدق عليها هذا القول مفهوم المواطنة.

إن مفهوم المواطنة، مثل غيره من المفاهيم السياسية الحديثة، خرج، من رحم هذا المخاض الطويل في القرن الثامن عشر، ليؤسس لذات حقوقية مستقلة يتمتع بها الأفراد داخل الوطن، الذي ارتضوه سُكنى لهم، وارتضوا أن يخضعوا لقوانينه في إطار من التّعاقد الواضح بين الحاكم والمحكومين. وبهذه الدّلالات التي تشبّع بها هذا المفهوم تميّز تميزاً واضحاً عن كل الدّلالات العتيقة، التي كان يحملها، والتي كانت تجعل منه مفهوماً هلامياً لا يستقر له حال من أساس نظري وعملي متين.

لقد تميّز تصور الإنسان القديم للمواطنة بكثير من القصور لعدم إيمانه بالمساواة الحقيقية بين الناس، فكانت المواطنة عنده لا تتعدّى «الإنسان الحر»، بل حتّى النّساء استُبْعِدن عنها، فضلاً عن العبيد والأطفال والأجانب، ورغم أن اليونان كانوا سبّاقين إلى الاهتمام بالمجال السياسي، أي بمشاركه الفرد في الحوار والقرار السياسي، فإن الاستبعاد والاقصاء كان جزءاً من تفكيرهم السياسي، بل إن ما سمي بـ«المواطنة المستقلة» في إيطاليا لم تكن سوى مواطنة ضيقة جداً يمنحها الإقطاعي للتّجار لحركتهم الاقتصادية والاجتماعية، لكنها، مع ذلك، أثَّثَتْ لفضاء حر كان له أثر اقتصادي كبير وحركة تنويرية بارزة في المجتمع. إلا أن القرن الثّامن عشر كان العصر الذهبي للمواطنة، خاصة مع تشكّل نظرية العقد الاجتماعي، وتشكل الدولة القومية، رغم أن هذا المفهوم لم يُنصف المرأة في حينها. لكن مفهوم المواطنة أصبح أداة نظرية وعملية قوية في يد «المواطن الإيجابي»، يناهض بها العبودية في أشكالها المختلفة.

وقد أسهم ارتباط مفهوم «المواطنة» بمفهوم «الحق» في تسريع نضج مفهوم المواطنة واتساع دلالاته النظرية والعملية، وأصبح حاضناً للاختلاف، باعتبار أن الاختلاف بين الناس، بمختلف جنسياتهم وأعراقهم وقيمهم وعاداتهم، يجب أن يكون اختلاف تنوع وليس اختلاف شقاق وتضاد، كما أصبح حاضناً للمساواة، ومُحرِّضاً على تحمل المسؤولية الاجتماعية والقانونية الكاملة للفرد داخل البقعة الجغرافية، وتحت ظل السلطة السياسية التي ارتضى العيش تحت ظلالها.

لا يزال مفهوم المواطنة، مثل غيره من المفاهيم، يحمل في داخله الكثير من المفارقات، ففضلاً عن مفارقاته المحمّلة بأثقال التاريخ النظري والعملي، ظهرت مفارقات جديدة خاصة مع تعدد صور المواطنة المختلفة واتساع أفقها مع «المواطنة الرقمية» و«المواطنة العالمية»، وخاصة أيضاً مع ما تعانيه مجتمعاتنا من ضيق في فهم هوياتها، إذ إن فهم الهوية في أبعادها المتعددة وانفتاحها على الأفاق الممكنة، التي يفتحها العصر لها لا يزال يحتاج إلى جهد تربوي كبير.

إن مفهوم المواطنة اليوم، بفضل حيويته الكبرى والإجماع المنعقد عليه، أصبح يتمتع بسلطة مركزية كبرى تؤهله لتحقيق الأمن والتعايش الاجتماعي وتلاقي الهويات المختلفة يداً واحدة في بناء أوطانها وإعمارها. وإن الذي يشجع على هذا القول أن مفهوم المواطنة هو بناء نظري وعملي، وإن بناء نظرياً قوياً لمفهوم «المواطنة الإجرائية» أنفع لمصالح الدول في تبيئة مفهوم يُلْحمُ أعضاء المجتمع على اختلاف مشاربهم، ويسدّد الولاء للحق والقانون والعُرف، ويحفظ للمجتمع تماسكه واستقراره الاجتماعي وأمنه السياسي والاقتصادي.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 ابريل 2025 23:45

 

في المثقف اليوم