اخترنا لكم
السيد ولد أباه: السياسة والحقيقة.. أضواء فلسفية جديدة
ليست إشكالية السياسة والحقيقة بالإشكالية الجديدة في الفكر الفلسفي، بل نجدها حاضرةً بقوة في كتابات أفلاطون، أهم فلاسفة العصور القديمة.
بيد أن السنوات الأخيرة شهدت عودةً لهذه المسألة المعقدة في إطار الجدل الذي خلّفته الثورة الاتصالية الراهنة، بتأثيراتها البارزة على نمط انتقال المعلومة في المجال العمومي، من خلال شبكات المواقع الاجتماعية وطبيعة الخطاب السياسي الموجه للقاعدة الشعبية العريضة.
ومن الأعمال التي صدرت مؤخراً في الموضوع كتاب الفيلسوفة الإيطالية غلوريا أوريغي، «الفلسفة مسألة سياسية»، وفيه تتساءل: هل تشكل الحقيقةُ موضوعاً سياسياً على غرار مفاهيم محورية أخرى مثل العدالة والمساواة والحرية؟
ومعلوم أن الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة أرندت قد عالجت هذا الإشكال في مقالة بعنوان «الحقيقة والسياسة» (1967)، خلصت فيها إلى أن الحقيقة مقولة خارج الحقل السياسي، وإن كانت شرطاً في بناء عالم مشترك صلب ومتماسك.
عندما تتحول الحقائق الطبيعية والعقلية إلى رهان سياسي، تفقد الديمقراطية بصفتها مساراً حوارياً احتمالياً دلالاتَها، ولقد شكلت اليقينياتُ القطعية على الدوام أداةً مِن أدوات الاستبداد السياسي.ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن فكرة الحقيقة الموضوعية المستمدة من المعاينة التجريبية، والتي هي الخلفية الإبستمولوجية للعلوم الوضعية الراهنة، قد تزامنت مع الممارسة الديمقراطية الحرة بمقوماتها المرجعية المؤسسة على التداولية التعددية، أي غياب حقيقة مطلقة مهيمنة مسبقة.
ومع فلسفات الشك المعاصرة، وبصفة خاصة نقدية نيتشه، تعرّضت فكرة الحقيقة لنقد جذري، إلى حد القول بأن الحقائق كلّها تقويمات وتأويلات وليست مواقف وصفية للوقائع. إلا أن ما يجري حالياً هو أبعد من هذه الاعتبارات الفلسفية المجردة، بل يتعلق بالخروج من أفق الحقيقة نفسه، وذلك بالحديث عن «ما بعد الحقيقة» أو «الحقائق البديلة» بلغة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. لكن ما معنى الديمقراطية إذا انهارت فكرة الحقيقة وانتهت القسمة الوجودية بين الوقائع الوصفية والتأويلات النظرية؟
ألا ينفتح المجال رحباً أمام الصور الخطابية التي تستخدم الأهواءَ والمشاعر النفسية أداةً للإقناع والإجماع على غرار شخصية السوفسطائي التي حاربَها سقراط في المحاورات الافلاطونية؟
في عالمنا العربي، اتسم الخطاب السياسي لدى قطاع واسع من الفاعلين في المجال العمومي، مِن قادة رأي وصناع قرار، بالخطابية الأيديولوجية التي لا تقيم شأناً للحقائق الموضوعية ولا المعرفة التقنية الدقيقة.
وكان ميشال عفلق، مؤسس التيار البعثي وتلميذ الفيلسوف الفرنسي برجسون، يدافع عن «الحقيقة الوجدانية» في مقابل الحقيقة الوضعية، ويرى أن مشروع التغيير منوط بتوجيه الوعي عبر أساليب التعبئة الشعورية.
وسلك دعاة الأيديولوجيا القومية ثم الإسلام السياسي في عمومهم هذا المسلك، الذي أفضى إلى تحويل السياسة إلى فن للتعبئة والتحفيز، بدلاً من استخدامها في معاييرها القانونية والفنية الحديثة التي تكرس نمطاً من مرجعية الحقيقة.
ومن المعروف أن هوبز وسبينوزا اللذَين أدركا دورَ الأهواء والنوازع في العمل السياسي الجماعي، وبصفة خاصة ما يتعلق بمتطلبات الخضوع والإذعان للسلطة (الخوف والرغبة على الأخص)، أخرجَا السياسةَ مِن منطق التحكم الفردي إلى منطق التسيير التقني لمؤسسات الدولة والتدبير القانوني للميدان العمومي. وهكذا ندرك دورَ الخبير المتنامي في الفعل السياسي، من حيث كونه يتأسس على نمط من الحقيقة التقنية الوضعية التي تُقيِّد إلى حد بعيد ديناميكيةَ التداول والنقاش الجماعي التي هي أرضية الممارسة الديمقراطية في دلالتها الواسعة.
إلا أن ما يفرق بين الأنظمة الكليانية التسلطية والأنظمة الليبرالية المفتوحة هو أن الحكومات الاستبدادية تحكم باسم الحقائق اليقينية الملزِمة المفروضة على وعي الناس، كما هو شأن الأيديولوجيا الماركسية التي تدّعي الاستنادَ إلى علم موضوعي بقوانين التاريخ البشري. أما في الأنظمة الليبرالية، فتظل الحقيقة أفقاً احتمالياً مفتوحاً، بما يضمن التخلص من الوثوقيات الهشة والأوهام الشائعة.
في أعماله الأخيرة حول حفريات الذات، يبين ميشال فوكو أن الديمقراطية قامت تاريخياً على أساس ثلاثة مفاهيم ترجع للقاموس اليوناني: الإيزنوميا (أي المساواة أمام القانون)، والأيزوغريا (أي المساواة في حق الكلام العمومي مهما كانت طبيعة الاختلاف الطبقي بين الأفراد)، والباريزيا (أي شجاعة قول الحقيقة مهما كلف هذا الخيار ومهما كانت تبعاته الاجتماعية).
ومن دون الباريزيا، تتحول الديمقراطية إلى إجماع نخبوي تسيطر عليه النوازع والأهواء والمعتقدات الوثوقية، في نمط من إجماع التواطؤ الذي هو النقيض الفعلي للتوافق الحر في مجتمع ليبرالي مفتوح. وخلاصة الأمر أن التحدي النوعي المطروح على المجتمعات الديمقراطية الحالية هو الحفاظ على معيار الحقيقة البرهانية في مواجهة الفردية النرجسية المغلقة على نفسها والأهواء المتقاسَمة التي تتخذ شكل إجماع وهمي زائف.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 23 يونيو 2024 23:45