اخترنا لكم
ما الفيلسوف؟
بقلم: أ / سايمون كريتشلي
ترجمة: عبدالله المطيري
مراجعة: محمد العمودي
***
?What Is a Philosopher
Simon Critchley
للفلسفة تعريفات بعدد الفلاسفة وربما أكثر. فبعد ثلاثة آلاف سنة من النشاط والاختلاف الفلسفي فإنه من غير المحتمل أن نصل إلى إجماع حول تعريف الفلسفة وليس لدي الرغبة في إضافة المزيد من الهواء الحار للسحابة البركانية الناتجة عن عدم المعرفة المحيطة بتعريف الفلسفة. ما أود أن أقوم به في هذه المقالة الافتتاحية في هذا المشروع الجديد، ذا ستون، هو أن أفتتح النقاش بطرح سؤالٍ مختلفٍ قليلا: ما الفيلسوف؟
وكما قال ألفرد نورث وايتهد من قبل فإن الفلسفة هي سلسلة من الهوامش على أفلاطون ولعلّي أن أغامر بإضافة هامشٍ جديدٍ من خلال إلقاء نظرة على تعريف أفلاطون للفيلسوف الذي ظهر في منتصف محاورته ثياتيتوس Theaetetus في فقرة يعدّها بعضُ الباحثين “استطرادًا” ولكن، وبعيدًا عن كونها مجرد هامش على استطراد أعتقد أن هذه اللحظة عند أفلاطون تخبرنا عن أمر مهم جدًا عن ما لفيلسوف وعما تفعله الفلسفة.
يحكي سقراط حكاية عن طاليس الذي يعدّ في بعض المنظورات الفيلسوف الأول. كان طاليس منغمسًا في النظر إلى النجوم في السماء مما أدى به إلى الوقوع في بئرٍ لم ينتبه لها وهو ما دفع بإحدى العاملات الظريفات إلى السخرية منه على اعتبار أنه كان شديد الحرص على معرفة ما يجري في السماء دون علمه بما يجري أمامه وتحت قدميه. يضيف سقراط بحسب ترجمة سيث بينارديتي Seth Benardete “أن ذات السخرية تنطبق على كل من يشتغلون بالفلسفة.”
ما الفيلسوف إذن؟ الإجابة واضحة: أضحوكة، مهرّج شارد الذهن، موضعُ عددٍ لا يحصى من النكت من مسرحية أرستوفينيس Aristophanes السحب إلى كتاب ميل بروكس Mel Brooks تاريخ العالم الجزء الأول. حين يضطر الفيلسوف إلى الحديث عما حول قدميه فإنه سيصبح محلّ سخرية الجميع وليس فقط تلك الفتاة من ثراسيا. جهل الفيلسوف بالشؤون اليومية يجعله يبدو غبيا وربما “يعطي الانطباع بسخافته الخالصة”. وبهذا نبقى مع تعريف مسرحية مونتي فايثونيسك Monty Pythonesque للفيلسوف بأنه الأبله.
ولكن، وكما هو الحال عادة مع أفلاطون، فليست بالضرورة أن تبدو الأمور على ما هي عليه من الوهلة الأولى ولا ننسى أن سقراط هو أعظم الساخرين. كما يجب أولا أن نتذكّر أولًا أن طاليس اعتقد بأن الماء هو الجوهر الكوني الذي تتكون منه كل الأشياء وأنه يمثل “حجر الفلاسفة” إن صحت العبارة. وبالتالي فإن سقوطه في البئر قد أكّد بدون قصد أطروحته الفلسفية الأساسية.
ولكن هناك طبقة أعمق وأكثر إشكالية من السخرية أود أن أنزعها هنا ببطء. افتتح سقراط “الاستطراد” الذي تحدثنا عنه أعلاه بالتفريق بين الفيلسوف والمحامي أو ما اعتبره بينارديتي “محامي القضايا التافهة”. يضطر المحامي لعرض قضيته في المحكمة، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الوقت جوهري هنا ففي الإجراءات القانونية الإغريقية هناك وقت محدد متاح لعرض القضايا يتم قياسه بساعة مائية أو celpsydra تسرق الوقت حرفيا كما في المعجم اليوناني، السارق أو المختلس. إن محامي القضايا التافهة وهيئة المحلّفين وبالتالي المجتمع كله يعيش داخل ضغط زمنيّ مستمر بينما ينهمر ماء الزمن بشكل مستمر مهددًا بإغراقهم.
وعلى الضد من ذلك يمكننا القول بأن الفيلسوف هو الذي يملك الزمن أو أنه ذلك الذي لا يكون على عجلة من أمره. وقد قدّم ثيدورس Theodorus ، مُحاور سقراط، “الاستطراد” بهذه الكلمات “ألسنا في وقت استرخاء يا سقراط؟” وقد علّق سقراط بقوله المثير للاهتمام: “يظهر لي أننا فعلا كذلك.” وكما هو معلوم في الفلسفة فإن المظاهر قد تكون مخادعة ولكن التضاد الأساسي هنا هو بين المحامي المستعجل الذي لا يملك وقتا أو من يمثّل الوقت بالنسبة له مالًا time is money وبين الفيلسوف الذي يأخذ وقته دون عجلة. تكمن حرية الفيلسوف إما في الانتقال بحريّة من موضوع إلى آخر أو ببساطة في إمضاء سنين من العودة إلى نفس الموضوع بسبب الحيرة أو الافتتان أو الفضول.
وإذا دفعنا أكثر باتجاه هذا التفكير فإنه يمكن القول بأن التفلسف يعني أن تأخذ وقتك الكافي حتى حين لا تملك وقتًا وحتى حين يضغط عليك الوقت بشكل متزايد. يمكن القول إن قرّاء النيويورك تايمز المشغولين سيتفّهمون بالتأكيد هذه النزعة وأملنا أن يمنح بعضهم من وقته لقراءة ذا ستون وكما قال فتقنشتاين “بهذا الشكل يجب أن يُحيّي الفلاسفة بعضهم: خذ وقتك.” بالفعل، قد تدرك شيئًا عن طبيعة الحوار الفلسفي لو اعترفت أن اهتمامي قد انصبّ مؤخرًا على هذه الفقرة من محاورة ثياتيتوس Theaetetus في حوار كان للمتعة مع أحد طلاب الدكتوراه في جامعة نيو سكول New School، تشارلز سنايدر Charles Snyder.
يقول سقراط عن أولئك الذين يعملون في أجواء ضغط عمل مستمر مثل المحامين والمشرّعين وسماسرة الرهن العقاري ومدراء صناديق الاحتياط أنهم يصبحون “محدّبين ومحدودي النموّ ومجبرين على القيام بـأعمال ملتوية.” محامي القضايا التافهة ناجح بالتأكيد فهو ثري ومعسول اللسان بشكل استثنائي ولكنه كما يضيف سقراط “صغير في روحه وداهية ومخادع.” في المقابل فإن الفيلسوف حرّ بفعل انشغاله بعالم آخر غير العالم المباشر وبقدرته على السقوط في البئر والظهور بمظهر السخيف.
يضيف سقراط بأن الفيلسوف لا يرى ولا يسمع ما يُسمى بالقوانين غير المكتوبة للمدينة أي التقاليد والأعراف التي تحكم الحياة العامة. كما لا يعترف الفيلسوف بالتراتبية والامتيازات المتوارثة وهو في ذات الآن غير واعٍ بأي أصلٍ راقي أو متدني للناس كما أنه لا يخطر على بال الفيلسوف الانضمام لأي حزب سياسي أو جماعة خاصّة. ويضيف سقراط بأن جسد الفيلسوف وحده هو ما يسكن ضمن أسوار المدينة. أما فكره فهو في كل مكان.
يبدو كل هذا الكلام حالما لكنه في حقيقته ليس كذلك إذ يجب على الفلسفة أن ترافق تحذير الصحة المكتوب على علب السجائر الأوروبية: الفلسفة قاتلة، هنا نقترب من السخرية العميقة في كلمات أفلاطون. كُتبت حوارات أفلاطون بعد موت سقراط، وقد أُتهم سقراط فيها بعدم احترام آلهة المدينة وإفساد شباب أثينا وكان عليه الحديث في المحكمة للرد على تلك التهم والحديث ضد الساعة المائيّة السارقة للوقت، غير أن الوقت سرقه فعانى من النتائج بعد أن حُكم عليه بالموت وتجرّع السمّ بنفسه.
بعد عدة أجيال وخلال الانتفاضات ضد الحكم المقدوني التي تلت وفاة الاسكندر الأكبر سنة ٣٢٣ قبل الميلاد، هرب معلّم الاسكندر السابق أرسطو من أثينا قائلا “لن أسمح للأثينيين بارتكاب الخطيئة مرتين في حق الفلسفة.” ومن الأغريق القدماء إلى برونو واسبينوزا وهيوم وصولا إلى القضية المخزية المرفوعة ضد برتراند راسل لمنعه من التدريس في سيتي كولج في نيويورك سنة ١٩٤٠ بتهم الإلحاد والفساد الجنسي فإن الفلسفة ارتبطت بشكل متكرر ومستمر بالتجديف ضد الآلهة أيًا كانت تلك الآلهة. ليس هناك ما هو أكثر تكرارا في التاريخ الفلسفي من اتهام الفلسفة بالعقوق، وبسبب واقعهم الساخر وعدم التزامهم بالتقاليد والتراتبية والامتيازات الاجتماعية يرفض الفلاسفة إجلال المعتقدات القديمة وهذا ما يجعلهم مريبين وخطرين. هل لا تزال هذه الأحداث الكئيبة تقع في عصرنا المتنوّر السعيد هذا؟ إن الجواب على هذا السؤال سيكون مرتبطًا بسؤال آخر؛ أين يتوجه المرء بعينيه وبأي قدر من التركيز ينظر؟
ربما ستكون تلك الضحكة الأخيرة مع الفيلسوف رغم أن الفيلسوف سيبدو دائما ساذجا في أعين محامي القضايا التافهة وأولئك الحريصين على المحافظة على الوضع الراهن، إلا أنّ العكس يحدث حين يضطر غير الفيلسوف إلى تعريف العدالة في ذاتها أو السعادة أو المأساة بشكل عام. بعيدا عن الفصاحة والانطلاق فإن محامي الشؤون التافهة سيكون “مشوّشا ومتلعثما” كما يصرّ سقراط على إيضاح ذلك باستمرار.
بالتأكيد يمكن للمرء أن يعترض بأن السخرية من تلعثم أحدهم ليست بالأمر المقبول. يوضح سيث بينارديتي أن سقراط قد نسب كل الفضائل للفيلسوف ما عدى التوسّط. هناك أمر مخيف وغير تقليدي في الفلاسفة تم تغذيته بالحرية والتريّث، أمر متوحّش أو يقارب الآلهة أو الاثنين معا. لهذا السبب لا يزال كثير من العقلاء يعتقدون أن لدى الأثينيين وجهة نظر في الحكم على سقراط بالموت. سأترك القرار لكم فليس بإمكاني الحكم.
***
.....................
* الكاتب: سايمون كريتشلي Simon Critchley رئيس الفلسفة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك، وبرفسور بعمل جزئي في جامعة تيلبيرغ Tilburg في هولندا. مؤلف لعدة كتب من ضمنها كتاب الفلاسفة الموتى The Book of Dead Philosophers، وهو المنسّق لمقالات هذا المنتدى.
** المترجم: عبدالله المطيري أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
*** المُراجع: باحث متخصص في العلوم الإنسانية، مهتم بالفلسفة والتاريخ.
- تم نشر هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
- نقلا عن موقع جميعة الفلسفة السعودية