كتب واصدارات
صدور كتاب المقدّس والعنف في فكر محمد أركون
صدر عن دار الخلدونية للطباعة والنشر والتوزيع بالجزائر سنة 2024، للباحث عبد النور شرقي كتاب بعنوان:
المقدّس والعنف في فكر محمد أركون
عالج فيه إشكالية العلاقة بين المقدّس والعنف هذه الإشكالية التي تحتل أهمية كبيرة في الدراسات الأنثروبولوجية والفلسفية المعاصرة، مثلما كان الشأن في مراحل تاريخية سابقة، وقد تجلّى بشكل كبير مع الأديان التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وبما أن المقدّس ظاهرة أنثروبولوجية إنسانية شاملة وكونية، مرافقة للإنسان في كل زمان ومكان، فقد تمتّع بالتعالي والمحبّة والرهبة والتنزيه لدى الإنسان البدائي الأول، مثله مثل الإنسان المعاصر، فهو يشمل الأفراد والجماعات، الديانات التوحيدية والوضعية؛ إذ لا نجد مجتمعا بشريا على وجه الأرض دون دين أو مقدّس، كما لا يستطيع أن يعيش من دونه، فالإنسان بحاجة إلى مقدّس يلجأ إليه، يحتمي به ويستمد وجوده من تعاليه.
وإذا كان المقدّس قديم قدم الوجود الإنساني، فإن العنف كذلك مرتبط بالإنسان ويمثل ظاهرة أنثروبولوجية بالدرجة الأولى لا يخلو منها أي مجتمع بشري، وظاهرة كونية عامة، بل قد يساهم في قيام الدول وسقوطها، وقد يكون سبيل الأديان للتنافس فيما بينها حول سلطة امتلاك الحقيقة والدفاع عنها؛ فكل دين من الأديان يزعم أتباعه امتلاك الحقيقة المطلقة، حقيقة الوحي الإلهي، الأمر الذي قد يجعل المقدّس في علاقة مباشرة بالعنف، فالأول يمكن أن يستدعي الثاني لإثبات وجوده وفرض تعاليمه.
إن إشكالية العلاقة القائمة بين المقدّس والعنف كانت إحدى الإشكاليات الهامة التي استرعت انتباه المفكر الجزائري محمد أركون، وكانت واحدة من المسائل الملحّة التي أثّثت مشروعه الفكري في نقد العقل الإسلامي، فنجده يولي اهتماما كبيرا في الشق التطبيقي منه إلى مسألة تاريخية المقدّس ضمن معالجته للظاهرة الدينية؛ وبما أن المقدّس تمتّع في عهد النبوّة بقوة المعنى، متّجها في ذلك نحو إنتاج الدلالة، فقد اكتسى طابع الحوار والإقناع قبل أن يتحوّل بعد وفاة النبي محمد ﷺ إلى خطاب مدرسي، يؤمن بحقيقة واحدة ووحيدة مما ساهم في إنتاج ضروب من المواجهة العنيفة بين الفِرق والمذاهب الإسلامية، مثلما كان الشأن بعد ذلك مع الحروب الصليبية والصراعات المذهبية المسيحية (البروتستانت والكاثوليك).
يتجلّى المثلث الأنثروبولوجي (عنف، مقدّس، حقيقة) في العلاقة القائمة بين أضلاعه الثلاث، بعدما أضاف الحقيقة؛ فكل مجتمع لديه مقدّسه الخاص، وللدفاع عنه وحمايته يلجأ في كثير من الأحيان إلى استعمال العنف، مؤمنا في ذلك بأن دينه أو مقدّسه يمثل الحقيقة الوحيدة الصحيحة، باعتبار أن المقدّس كلّما تشكّل في معتقدات ساكنة ثابتة لا تتغير، فإنه سيؤدي إلى صياغة الحقيقة في خطاب ثابت غير قابل للتغيير أو النقد أو المناقشة، فالجماعة التي تؤمن بمقدّسها وتعتقد بواسطته أنها تمتلك الحقيقة تعمل على نشرها والدفاع عنها، في مقابل تسفيه مقدّسات الآخرين وتفنيدها.
وإن النقص في المعالجة الأنثروبولوجية للأديان دفع بمحمد أركون -ضمن مشروعه في نقد العقل الإسلامي-إلى توسيع الفضاء الأنثروبولوجي–الفلسفي، وبدلا من الانطلاق من الثنائية (عنف-مقدّس) كما فعل رينيه جيرار، عمل على توسيع دائرة العلاقة وأصبحت ثلاثية تتمحور حول: (عنف، مقدّس، حقيقة)، بعد إضافة مفهوم الحقيقة إلى العلاقة الثنائية، لأن مسلماتها ومضامينها ووظائفها لا يمكن فصلها عن المفهومين الآخرين.
واختار محمد أركون تحليل سورة التوبة للبرهنة على صحة نظريته حول اشتغال المثلث الأنثروبولوجي (عنف، مقدّس، حقيقة) ليس بالنسبة للإسلام وحده، بل بالنسبة لكل الأديان والفضاءات الحديثة، إضافة إلى النزعات الأيديولوجية العرقية والدينية والقومية الأخرى، وهذا ما يدفعنا الى التساؤل وطرح الإشكالية التالية:
كيف نظر محمد أركون إلى إشكالية العلاقة بين المقدّس والعنف في اشتغاله على النص الديني؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن مقدّس حامل لحقيقة وجب الدفاع عنها باستخدام العنف في مواجهة المعارضين لها؟
حاولت في هذا الكتاب وبالاستعانة بمصادر اركون ومراجع تحليلية لفكره أن أجيب عن هذه الإشكالية رغم صعوبتها وصعوبة استنتاج حلول لها، لكن رغم ذلك اجتهدت قدر المستطاع في توليد نتائج واصدار أحكام بالاستناد الى الحجة و المنطق الفلسفي، وأرجو أن تكون هذه الدراسة في المستوى الذي يطمح إليه القارئ المتخصص، وأتمنى أن تكون إضافة نوعية للمكتبة العربية.