أقلام حرة

محمد الزموري: لماذا نحبّ ميكانيكا الكمّ إلى هذا الحدّ؟

يعيش الإنسان محمولاً على كتفيه ثقل الحاضر، مثقلاً بأخبارٍ تتشابك كالأشواك، ومكدوداً بأحوالٍ تتغيّر أسرع مما يتغيّر مزاج الطقس. ومع ذلك يبقى للجمال، ذاك المسافر الخفيف، قدرة عجيبة على أن يشقّ نفقاً في الجدار، وأن يفرض حضوره مهما ضاقت المسالك. إننا - شئنا أم أبينا - لسنا سوى قنوات تعبر من خلالها شرارات الجمال، تتنقّل فينا كما يتنقّل التيار في الأسلاك الخاملة.

وحين تصبح الحياة ضيّقة مثل صندوقٍ خشبي، قليلة القابلية للنشر والبهرجة - فلا سفرٌ كثير، ولا صالات رياضية، ولا مطاعم رائجة أو منْسية - يبدأ المرء في تخصيص وقتٍ لصيد الجمال كما لو كان يصطاد «بوكيمونات» متخيّلة. وكلما خرجت شخصيا من المدن، أدركتُ أن هذا الصيد لا يحتاج إلى شبكاتٍ واسعة؛ يكفي أن تتفتح جهنميةٌ على السور، أو يصدح هديل يمامةٍ عند الفجر حتى يتوهّج العالم. وأرى الجمال أيضاً في حياة الآخرين؛ أراقبه من دون حسد، كمن يعترف بأن ما يملكه الآخرون سيكون - بطريقةٍ ما، وفي زمنٍ ما - له أيضاً. وأجده في الكتب، أو بالأحرى عبرها، كأنها نوافذ تطل على حدائق الآخرين.

قرأتُ أن فان غوخ قال - وهو الذي كان يحوّل الألم إلى ذهبٍ لغوي -: «كما نأخذ القطار للانتقال إلى تَراسكون أو روان، نأخذ الموت للسفر إلى نجم». ووجدتُ هذه العبارة في آخر مقالات أنطونيو خ. مالدونادو في كتابه «حواس الزمن»، وهو كتاب بطعم الشاي المغربي: حزنٌ فيه نزعة حيوية، وطبقاتٌ تتوالى، وأثرٌ يبقى كعلامةٍ دافئة في الحلق، ويخلّف رغبة صغيرة في الابتسام؛ تلك الابتسامة التي لا تأتي من البهجة بل من إدراكك المفاجئ أنك إنسان، صغيرٌ جداً وكبيرٌ جداً في اللحظة نفسها. فالعظمة الحقيقية للإنسان تكمن في معرفته الحقيقية بصِغَره.

كتب مالدونادو مقالاً لا غاية له ولا أطروحة له، وهذا ما جعله يعاني في إنهائه. كانت مهمته الوحيدة أن يندهش معنا وأن يتركنا نتمتم بدهشةٍ تشبه ضحكةً مكبوتة. يعجبني تيهه «الوالسيري»، ذلك التيه الذي يقترب من الهذيان الجميل، لأنه يتكلّم كثيراً عن الفيزياء الكمّية.

نحن نحبّ الفيزياء الكمّية تماماً كما نحبّ النسبية، وحتى النيوتنية! كأنّ كلّ فرعٍ من فروع الفيزياء يفتح فينا نافذة صغيرة على هشاشتنا. «عظمة الإنسان تكمن في فهمه لصِغَره»… ونفهم هذا الصغر جيداً حين نواجه عالماً يعمل بقوانين لا تنصاع للحدس، لكنها - بطريقةٍ ما - تشبه الشعر.

بدأ شغفي بهذه المواضيع منذ سنوات قليلة، بدافع الدهشة ولأجلها ومن خلالها. شاهدت محاضرات معهد الفيزياء النظرية بنهم، وقرأت بعض الكتب، وتأمّلت بمراهقة فكرية لا تخجل من سذاجتها. ووجدت لذّة غير متوقعة في مفاهيم تبدو كأنها التقطت من متحف بورخيس أو من أفلام الغرب الأمريكي المتأخر أو من أناشيد المريدين:

أفق الحدث، التشابك الكمّي - ذلك «الفعل الشبحي عن بُعد» الذي أذهل آينشتاين -، اللامحلية، مبدأ عدم اليقين… كلها كلماتٌ فقيرة رياضياً لكنها غنية شعرياً. كأن الفيزياء منحت للأدبيين الذين تركوا الأرقام إلى غير رجعة فرصةً ثانية للاندهاش دون أن يُطلب منهم اعتذارٌ عن جهلهم بالجبر.

ومع مرور السنوات، وصلنا - نحن «أهل الأدب» كما كان يسمّينا أصدقاء المسار العلمي - إلى الفيزياء عبر استعاراتها قبل قوانينها: آينشتاين يجري بسرعة الضوء، مفارقة التوأمين، شرودنغر وقُطّته التي ماتت وعاشت في اللحظة نفسها، فندق هيلبرت اللامتناهي.. كلها صورٌ تتطلب خيالاً أكثر مما تتطلب برهاناً.

لم يختلف اهتمامنا عمّا فعله أجدادنا حين وقفوا ليلاً تحت سماء مرصّعة بالنجوم، تلك التي رسمها فان غوخ بذبذباتٍ تكاد تكون كمّية.

وقد شهدتُ في الآونة الأخيرة أن كثيرين استسلموا لهذا السحر؛ يكفي النظر إلى ظاهرة فيلم «أوبنهايمر» أو النجاح الصاروخي لكتب بنخامين لاباتوت، ومن خلفهما ظهر تجار أكثر إثارة للالتباس: مدربو «التنمية الذاتية الكمّية» وبائعو الأوهام الذين يخلطون بين العلم والتهويم كما يُخلط الماء بالزيت.

نعم، نحن نحبّ ميكانيكا الكمّ.

نحبّها لأنها تقول لنا إن العالم لم يُقلِ كلمته الأخيرة بعد؛ إننا ما زلنا في مرحلة «التمتمة الكونية»، وإن خلف هذا الروتين الرمادي الذي يزداد قتامة يوماً بعد يوم، يوجد شيء مبهج، شيء يتوهّج.

ونحبها لأنها أعادت الفيزياء إلى أحضان الفلسفة والشعر في عصرٍ جاف، فصرنا نعود معها إلى البدايات الأولى للدهشة، إلى لحظة الإغريق حين وُلد السؤال قبل أن يولد الجواب، وحين كان العالم - كل العالم - تفسيراً مجازياً واحداً كبيراً.

***

محمد إبراهيم الزموري

في المثقف اليوم