أقلام حرة
صالح الطائي: شيء لم نألفه في دوائرنا الرسمية

فضلا عن تخلف أساليب العمل في دوائرنا الرسمية والبيروقراطية الكريهة، التي يمارسها أغلب الموظفين ضد المواطنين المراجعين، أنا لا أطيق مراجعة أي منها لأي سبب، وأفضِّل انجاز معاملاتي الرسمية بأي طريقة ممكنة، باستثناء المراجعة الشخصية، فأنا مصاب حقا برهاب مراجعة الدوائر الرسمية، حتى أني إذا ما أجبرتني الظروف القاهرة على مراجعة إحداها مهما كانت المعاملة بسيطة، أتسلح عادة فضلا عن الوثائق الأربع المبشرات بالجنة بعلبة البندول 1000 ملغم وقنينة الماء، والكثير من اليأس.
وهذا ليس جديدا عليَّ، وإنما هي حالة رافقتني منذ سنين طوال، وعجزت عن التخلص منها، لأني لم أجد فرقا واضحا في تعاملهم بين ما كان عليه في (الأمس الشمولي)، وما هو عليه في (اليوم الديمقراطي)، فالموظف هو الموظف ذو الوجه المتجهم والسلطة العليا الآمرة الناهية، والمراجع هو المستضعف والمتهم والمستهدف.
وقد أجبرتني صروف الليالي يوم أمس الخميس 31/7/2025 على مراجعة إحداها وهي (مديرية الأحوال المدنية والجوازات والإقامة في واسط/ قسم التسجيل المركزي) للحصول على صورة قيد مترجمة لأغراض السفر.
منذ الصباح الباركر، وضعت عشري على رأسي، وولجت باب الدائرة؛ وأنا أشعر بضيق يكاد يخنقني ويحبس أنفاسي، وبعد اجتياز الاستعلامات، واجهتني لافتة مكتوب فيها: (مديرية الأحوال المدنية والجوازات والإقامة في محافظة واسط ترحب بالضيوف الكرام، حللتم أهلا، ونزلتم سهلا) ظننت بداية ـ وبعض الظن إثم ـ أنهم وضعوها في انتظار زيارات المسؤولين الرسميين تزلفا لهم مثلما هو معمول به منذ عشرات السنين، فشعرت وكأن صورة دوائر الأمس الشمولي برزت أمام تستفزني.
وقبل الدخول إلى ما أسميه عادة (وكر الرعب) خرج شاب أنيق، جميل المظهر، حسن الوجه ما إن رآني حتى بادر ليسألني: ـ أبغدادي أنت؟
أجبته: نعم أنا بغدادي، ولكني مقيم في الكوت منذ عشرين عاما.
ـ وما سبب الزيارة؟
الحصول على صورة قيد.
ـ ممكن أن تنتظرني قليلا، فأنا خرجت لغسل يدي وسأعود لك في الحال.
أنتظرك ولم لا.!
لحظات وعاد إليَّ مبتسما، وقال: أعَّرفك بنفسي؛ أنا عباس سلام حسين الزركوشي، تفضل لأساعدك في انجاز معاملتك. حينها شعرت بنوع من الاضطراب بفعل تشوش الرؤية بين ما هو مرسوم في يقيني عن الدوائر وما أراه امامي، فكلمة (تفضل لأساعدك) ليست مألوفة في دوائر الدولة. دخلنا الدائرة فوجدت الهدوء مسيطرا على أجوائها الباردة الندية فارتحت قليلا.
المهم أني خلال تنقلي بين الموظفين والأقسام، كنت أرى ابتسامة عباس سلام التي استقبلني بها مرسومة على وجوههم جميعا: محمد ومحمد واحمد وحسين وعباس، سواء كانوا موظفين مدنيين أم عسكريين. كانوا يستقبلوني بابتسامة صادقة وينجزون طلبي بأقصى سرعة ليحيلوني إلى مرحلة أخرى.
في هذه الجولة الطويلة التي تسبب بها خلل في صفحة نفوسي الشخصية وليس بتقصير منهم، كنت أرى مدير القسم العميد المهندس محمد محمد رضا حسين؛ والذي ترك باب غرفته مفتوحا على مصراعيه، كان يقوم بجولات مستمرة في القسم وبين الموظفين. وأقسم أنه أخذ معاملتي من يدي عدة مرات، وأجرى عليها المطلوب بشخصه لأن الموظف المختص كان مشغولا بمعاملة أخرى.
والأكثر من ذلك أنه كلما رآني نادى على موظفيه لينجزوا معاملتي بسرعة ويسألهم عن سبب التأخير غير المبرر. ثم لما عرف سبب التأخير وأنه يعود لي شخصيا وليس للموظفين تدخل بنفسه وجلس معهم على نفس الطاولة لحل الإشكال. وحينما أنجزت المعاملة بعثوني إلى قسم الترجمة عند شاب جميل وخلوق هو الرائد أحمد الذي استقبلني هو الآخر بابتسامة عريضة، وأخذ المعاملة من يدي، وقام بتدقيقها، فوجدها تحتاج إلى معلومات إضافية، فأعادني إلى قسم التسجيل الذي استمر بالعمل بجد وجهد وصبر جميل وأخلاق لا يعلى عليها إلى انتهاء وقت الدوام الرسمي، وحينما تهيأتُ للخروج فوجئت بأن رائد أحمد أرسل من يخبرني أنه كان المفروض به أن يغادر الدائرة لظرف طارئ، ولكنه لا زال ينتظرني لينجز معاملتي لكي لا يتسبب في تأخيري.!
إن هذه التجربة أشعرتني بسعادة لا توصف أحببت مشاركتها معكم، فقد نجحتْ في تخليصي من رهاب مراجعة الدوائر الرسمية، وبعثت في نفسي أمل أن يعيش أولادي واحفادي رفاهية مراجعة المؤسسات الرسمية بعيدا عن العناء الذي أصابنا من قبل، ومنحتني يقينا أن هناك بوادر خير بأن العراق بمثل هؤلاء الرجال وإخلاصهم وتفانيهم في العمل سيتقدم ويتقدم، فالشعوب تتقدم بالمخلصين من رجالها وابطالها، لا بالسياسيين الفاسدين، ولا بالإرهابيين الدمويين.
ولا أخفيكم أني بعد هذه التجربة اللذيذة، أصبحت من عشاق مراجعة الدوائر، بفضل رجال هذه الدائرة الرائعة (مديرا وموظفين).
وفي العودة إلى موضوع اللافتة فقد عرفت من خلال الحديث معهم أنهم وضعوها في مدخل القسم للترحيب بـ(المراجعين) من المواطنين، لا تزلفا لزيارة (المسؤولين)، وهذه واحدة من أعظم خطوات التقدم في العلاقة بين الموظف والمواطن في هذا الزمن المأزوم الصعب.
تحية إكبار وإجلال إلى جميع المنتسبين لهذه الدائرة الرائعة ولاسيما مديرها العميد المهندس محمد محمد ضياء والأستاذ عباس سلام حسين، والرائد أحمد، وجميع منتسبيها بلا استثناء، ليس لأنهم أنجزوا معاملتي البسيطة فحسب، وإنما لأنهم زرعوا الأمل في نفوسنا أن الشعار الذي رفعه محافظ واسط المستقيل الدكتور محمد جميل المياحي (القادم أفضل) قد وضع موضع التطبيق فعلا، وأن الأفضل ينتظر العراقيين إن شاء الله.
***
الدكتور صالح الطائي