أقلام حرة

مرتضى السلامي: ورشة العقل المنظم

يأتي الفكر أحيانًا كعاصفة. خليط من المشاعر والأفكار والذكريات التي تتلاطم في أذهاننا، فتتركنا في حالة من الفوضى والارتباك. في هذه اللحظات، نميل إلى الثقة بـ"عفويتنا" أو "حدسنا"، ونأمل أن يقودنا هذا التيار العشوائي إلى بر الأمان. نعتقد أن الحرية تكمن في ترك أفكارنا تجري بلا قيود، كحصان بري في سهل واسع.

لكن هذه العفوية غالبًا ما تكون وهمًا. فالحصان البري لا يجري بحرية مطلقة، بل يتبع مسارات حفرتها العادة والخوف والغريزة. وعقولنا التلقائية ليست صفحة بيضاء نقية، بل هي ورشة قديمة مليئة بغبار التحيزات الموروثة، وصدأ الأفكار المسبقة، وفوضى العادات الذهنية الكسولة. أن نثق بها ثقة عمياء هو أن نسمح لهذه الفوضى بأن تبني لنا حياتنا.

الثورة الحقيقية في الفكر تبدأ عندما نقرر أن نكون مهندسي عقولنا، لا مجرد سكان عشوائيين فيها. أن ندرك أن المنهج ليس قيدًا على الحرية، بل هو الأداة التي تصنع الحرية الحقيقية. إنه يشبه تنظيف الورشة وترتيبها قبل البدء في أي عمل فني عظيم. المنهج هو الذي يحررنا من طغيان أنفسنا الخفية.

تخيل بنّاءين كُلفا ببناء منزل. الأول، معتمدًا على عفويته، بدأ يضع الحجارة فوق بعضها بحماس، مسترشدًا بشعوره اللحظي. أما الثاني، فتوقف أولاً، ورسم مخططًا دقيقًا، وحدد الأساسات، وفكك المهمة إلى خطوات واضحة. في النهاية، كان منزل الأول جميلاً في بعض زواياه، لكنه كان مائلاً وغير آمن. أما منزل الثاني، فقد كان صلبًا ومتناغمًا وقادرًا على الصمود في وجه العواصف.

أن تفكر تفكيرًا حقيقيًا يعني أن تمتلك الشجاعة لتطبيق هذا الانضباط الهندسي على عالمك الداخلي. أن تحدد مشاكلك بدقة، وتفككها إلى عناصرها البسيطة، ثم تعيد بناء الحل خطوة بخطوة، دون القفز إلى النتائج. هذا ليس قتلًا للإبداع، بل هو خلق للظروف التي تسمح للإبداع الحقيقي بالظهور.

"لا تثق بعفويتك ثقة عمياء، بل كن مهندس منهجك. عقلك التلقائي ليس صفحة بيضاء، بل هو أرض مليئة بالتحيزات الخفية. لكي تفكر بحرية حقيقية، عليك أن تبني ورشة منهجية داخله. قبل أن تبدأ أي مشروع فكري، مارس 'هندسة التفكير': حدد المشكلة بدقة، فككها إلى أبسط أجزائها، أعد بناء الحل خطوة بخطوة. هذا الانضباط ليس قيدًا، بل هو الأداة التي تحررك من سجن أوهامك."

***

مرتضى السلامي

 

في المثقف اليوم