أقلام حرة

علي الجنابي: تَأمُّلٌ مُسْتَقصٍ في مُشكِلٍ مُسْتَعص

لقد مَنَّ الجليلُ ﷻ على النَّاسِ كافَّة بتنزيلِ"كتابٍ مَسطُورٍ"، ليستَعينوا بهِ على قراءة آياتِ هذا الكونِ المَفتوحِ المَحضُور، وأمرَهم أن يَّقرأوا سُطورَ الكتابَ بعَينينِ اثنتينِ وبحبُور، فواحدةٍ تنظرُ على نصِّ حرفٍ مكتوبٍ؛ ﴿السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾، والأخرى تَبصرُ فتَستقرأَ وتفهمَ ﴿كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ف ي آفاق آياتِ قرآنٍ معمورٍ منشور.

ولقد نَأى نبيُّنا محمدُ بن عبدالله ﷺ وأبى حياةً تَعبدُ أصناماُ في فلاةٍ ذاتِ فجور، لمَّا رأى من آياتِ ربِّهِ ﷻ في آلاءِ ذا كونٍ مَفطور، والذي هو قُرۡءَانٌ ناطقٌ مَعمورٌ منشورٌ منثورٌ، فآمن بربِّهِ من قبلِ أن يَنزلَ الأمينُ جبريلُ عليه بكتابٍ مَسطور، وما ذلكَ إلّا لأنهُ ﷺ كانَ يقرأُ قرآنَ الحَياةِ بتفكرٍ دقيقٍ في الصُّدور، وما كانَ يقرأ بنيانَ الفلاةِ بتلقينٍ مَغرُور، مِن والدٍ مَغمورٍ أو من شقيق بسُرور.

ولئن رَعى المرءُ مِنَّا قراءةَ هذا القرآنِ النَّاطقِ المَنشور، مستَعيناً بهذا الكتَابِ المَسطُور، فلن ينعى سوءَ فهمٍ من حرفهِ الى صاحبٍ بالجنبِ هَصور. لا ولن يهرولَ اليهِ يسعى كي يَمدَّهُ بقَولٍ في العِلمِ مُسْتَقصٍ في مشكلٍ كأنَّهُ على الفَهمِ مُستَعصٍ عبرَ الدُّهور، وأعني هنا بمَا جاءَ في آيةِ سورة الحِجْرِ -1؛ ﴿الۤرۚ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ وَقُرۡءَانࣲ مُّبِینࣲ﴾، وآيةِ سورةِ النمل -1؛ ﴿طسۤ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابࣲ مُّبِینٍ﴾.

ثمَّ إنَّ قلمي ما حَرَّرَ هذي العَبَراتِ إلّا بعدَ أن أحسَّ بعدمِ ارتياحٍ وضيقِ في الشُّعور، فيما جاء في ذا مشكلٍ من تأويلٍ للأولين حَصور، وما كانَ الأمرُ قطُّ بمُشكلٍ حصور، بل لؤلؤٌ لامعٌ دامعٌ جامِعٌ لكنَّهُ منثور، ورُغمَ رحيبِ علِمِ الأولينَ وإتقانهم للصَّنعةِ فما فارقَني ضيقُ الشُّعور، فأسررتُ في نفسي بذرفٍ ضمور.

"إنَّ أيَّ أمرٍ في ذا وجودٍ لا يُحَلُّ بإتقانِ الصَّنعةِ من مُتقنٍ جسور، بمعزلٍ عن حكمةٍ مُبصِرةٍ تقودُ صاحبَها الجَسور، للنَّظرِ بِسُمُوٍّ  مِن عُلُوٍّ الى الأمرِ كلِّلِ بحُضور، ثمَّ يدورُ في الشَّأنِ ثمَّ يَثور. ولو كان الأمرُ يُحَلُّ بإتقانِ الصَّنعةِ من مُتقنٍ لها جسور، لكانَ"الوليدُ بن المغيرة" قد حَلَّ محلَّ "أبي بكر الصديق" الشَّهمِ الغيور، في قُربِهِ من نبيِّنا القَسيمِ الوَسيم سيدِ الأنامِ عبر العُصورﷺ، بل ورُبَما كانَ الوليدُ هو النَّبيُّ الخاتم للدُّهور". لذلكَ ومن نافلةِ التبيانِ لفهمِ الآيتينِ يمكنُ القول بلا ارتياب؛

* إنَّ على المرءِ أن يَعلمَ أنَّ جذرَ"ك ت ب" واشتقاقاتهِ مُقَيَّدٌ بسَطرٍ مكتوبٍ في قرطاسٍ أو سجلٍ أو كتاب، بيدَ أنَّهُ ما كانَ لهُ أن يَحجرَ واسعاً فيظنُّ أنَّ جذرَ "ق ر أ" واشتقاقاتِهِ مُقَيَّدٌ بقراءةِ سطرٍ في كتاب، بل لهُ أن يَقرأ سطرَ الخِطاب، ولهُ أن يستقرأَ آفاقَ الأمورِ، ليعلمَ الآلاءَ كافَّة باستِحباب، سواءٌ أكانت في حَضرٍ وشِعابِ، أم في صحارى وغاب. ومثلما أنَّ هناكَ امرؤٌ عقيمٌ يقرأُ السَّطرَ من وراء رمشِ عينِهِ باضطِراب، ثمَّ سرعانَ ما ينساهُ ثمَّ يكون ما قرأ  كأنَّهُ خبرٌ سمعيٌّ معهودٌ وغابر في الأحقاب، فإنَّ هنالكَ رجلٌ حكيمٌ يقرأُ ذاتِ السطرِ بحضورِ قلبِهِ، ثمَّ يترسَّخُ في فكرهِ ثمَّ يكون ما قرأهُ  كأنَّه نبأٌ مرئيٌّ مشهودٌ وباهر للأعرَاب والأغرَاب.

* إنَّ كلمةَ"الآيات"لا يُقَيَّدُ مفهومُها بمعنى"كلماتٍ" في سورٍ قرآنيةٍ كريمة رضاب، لأنَّها كذلك تعني؛ بَيِّنَاتٍ وعلاماتٍ وبَراهين وحُجَج ودلائِل وشواهد على آلاءِ اللهِ في ذا وجودٍ رحيب آسرٍ خلّاب.

إذاً، واستناداً إلى مَعلومِ أنَّ عبارةَ؛"ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِ"في سورة الحِجْر تعني"كلماتِ الكتابِ"، والى مَفهومِ أنَّ عبارةَ؛ "ءَایَـٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ" في سورةِ النَّملِ تعني"بيِّناتِ كون"، سيكونَ مَعنى آيةِ الحجرِ؛ تلكَ كلماتُ الكتابِ (بينَ دَفَّتينِ)، وكونٌ مَفطورٌ مَعمورٌ منشورٌ مقروءٌ مُبين. ويكونَ معنى آيةِ النمل؛ تلكَ بيناتٌ في الكونِ المنشورِ وكلماتُ كتابٍ مبينٍ (بينَ دفتينِ).

ثمَّ تَدَبَّرْ ياذا عزٍّ كيف جاءت ﴿ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ﴾ ردفَ آيةِ الحجرِ، وإذ وصفَ الحقُّ ﷻ الذينَ يقرأونَ كلماتُ "ٱلۡكِتَـٰبِ" لكنهم يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ولا يتبصرون بآفاقِ البيِّناتِ في قُرۡءَانࣲ مُّبِینࣲ أحاطَ بهم، بأنهم أنعامٌ راتعونَ ولا يرفعون رؤوسهم عن العُشبِ. ثمَّ تَفَكَّرْ بسياقَ السُّورةِ وكيفَ جاءَ ليُبرهنَ على أنَّ ﴿سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ هو كِتَابٌ هادٍ مبِینٍ الى كونٍ منظور، و﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ﴾.

ثمَّ تَدَبَّرْ كيفَ جاءَت ﴿هُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ ردفَ آية النَّمل، وكيفَ بَيَّنَ الحقُّﷻ الذين يستقرأونَ بيِّناتِ "ٱلۡقُرۡءَانِ"مستعينين بكلمات "كِتَابࣲ مبِینٍ" أنَّ لهمُ البشرى. ثمَّ تَفَكَّرْ بسياقَ السُّورةِ وكيفَ جاءَ ليَحظَّ على التَفكُّرِ في آفاقِ آلاءِ "قُرۡءَانࣲ مُّبِینࣲ".

ثمَّ تَذَكَّرْ مفردةَ "ٱلۡقُرۡءَانِ"وكيفَ تأخَّرَت عن أختِها"كِتَاب"في سورةِ النَّمل وتقدَّمَت عليها في الحِجْر، وكذا التَّذَكُّرُ يسري في تَعريفِ وتنكيرِ (قرآن) و(كتاب) في الآيتين المباركتين كلتيهما، وكلُّ ألوانِ ذلكَ البيانِ داعِمةُ لما أورَدتُ من مذهبٍ قد ذهبتُ فيه. وثَمَّ مسكُ الختام.

﴿وقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ﴾، ولم يُنزِلْهُ دُفْعَةً واحِدَةً كي نعلمَ أنَّ علينا أن نقرأهُ بعينينِ، فواحدةٍ تنظرُ على حروفِ ذا كتابٍ مسطورٍ عجيبٍ وبتَؤَدَةٍ وعَلى مَهل، وواحدةٍ تَقرأ آياتِ ذا قرآنٍ مَعمُورٍ رحيبٍ وبسُؤْدةٍ وبصَهل. ومعنى السُؤْدة في لسان العرب يا سادة؛ بقيةٌ من الشَّباب.

هذا، وإن كانَ القلمُ صائباً فيما أطَّ فخَطَّ فللهِ الحمدُ على مَنِّهِ وتوفيقه، وإن كان القلمُ خائباً ونَطَّ فاشتطَّ فمردُّهُ عليَّ واستغفرُ اللهَ عن ذا قلمٍ مُتَهورٍ مَثبور.

***

علي الجنابي

 

في المثقف اليوم