أقلام حرة
سعيد الشيخ: عن ضحايا العصر
ونحن نشهد حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وعلى ذات الأهداف يمضي يومياً الجيش الإسرائيلي داخل مدن وقرى الضفة الغربية في عملياته العسكرية في ملاحقة السكان وإعدام بعضهم في الشوارع بدماء باردة، بينما آلياته تقوم بأعمال تجريف الشوارع ومجموعات أخرى تقوم بتفجير المنازل والعبث بمحتوياتها، ولا تنتهي هذه العمليات إلا بحصيلة كبيرة من معتقلين بينهم نساء وأطفال، يُزجّون في سجون لفترة زمنية طويلة دون أية محاكمة.
نستخلص من هذه المقتلة الدائرة فصولها في غزة والضفة، أنّ الجيش الإسرائيلي يتابع تنفيذ ما بدأته الحركة الصهيونية على الأرض باغتصاب فلسطين عام 1948. إسرائيل التي قامت في ظلام غياب القانون الدولي وطغيان العقل الاستعماري الغربي تعيد رسم مشهد النكبة.
وللأسف، أنّ العالم الغربي الذي ما زال مأخوذا بالتعاطف مع اليهود نتيجة محارق الهولوكوست، وضميره ما زال منوّماً عند تلك العقدة، يجعله بالمقابل أن يقيم جداراً حديدياً من سوء الفهم ومن الكراهية الخالصة تجاه القضية الفلسطينية، وهو غير مستعد للوعي بالنكبة التي يكمن في تفاصيلها فظائع ضد الإنسانية تفوق محارق النازية.
إسرائيل كيان لا حدود له، وهي كما حددها بن غوريون أول رئيس حكومة لها: "حدود إسرائيل حيث يصل حذاء الجندي الإسرائيلي الأخير". قانونها الإرهاب، وبالإرهاب تفرض وجودها. ولها من يرعاها في الدول الكبرى. وهنا تكمن مشكلة الحضارة الحديثة.
ولدت دولة إسرائيل من الخطيئة، والخطيئة الأكبر هي إمعان الدول الكبرى في الاستمرار على رعايتها، حتى تضخم هذا المنتوج وصار كائناً وحشياً يتفوق حتى على رعاته وأباءه الروحيين. وحتى صارت الحيوانات في البرية تصرخ ببراءتها من هكذا ممارسات ترتكبها هذه المخلوقات الهجينة التي ما زال القانون الدولي ينظر إليها بعين العطف وعلى أنها تضم سلالة من المساكين تمتد صلتهم إلى ضحايا الهولوكوست.
لمحو الخطيئة على المجتمع الدولي أن يصحو متحرراً من عقدة وكابوس الهولوكوست، ويرى المشهد الدموي الذي يجري في غزة وكل فلسطين بملء عينيه وبمشاعر إنسانية حقيقية ما يفعله هؤلاء الضحايا "المساكين" بالفلسطينيين من خلال الترسانة العسكرية التي يمتلكوها بمساعدة الحكومات الأميركية والأوروبية. لينظروا كيف قد تفوق المساكين على قاتلهم النازي. تجوقلوا وسقطت عنهم الإنسانية، وها هم يقصفون أحياء بأكملها بقنبلة واحدة لتنهار على رؤوس ساكنيها. من غير هؤلاء يستهدف الأطفال والنساء (70%) من مجموع الضحايا الذين اقترب عددهم حتى كتابة هذه السطور إلى 20000 ومثل نصفهم اعتبروا مفقودين بين الأنقاض، من يفجر المستشفيات والمدارس وبيوت الله. من يضع في عين أهدافه الطواقم الطبية ورجال الدفاع المدني. من يفرض التجويع والتهجير، من يعجن بالبلدوزر لحم الضحايا بالتراب. من يقضي على الحياة كل الحياة لعشرات من الرضّع والخدّج ويرسلهم إلى الفناء؟ من يرسل المعتقلين المدنيين إلى الإخفاء القسري في معسكرات أقيمت في صحراء النقب ليتم تصفيتهم؟ من يقتل رجال الإعلام ليقتل معهم الحقيقة. "إسرائيل" في النهاية ومن خلال هذا التوحش تريد محو الشعب الفلسطيني من الوجود، لتضمن وجودها الدائم في الوطن الفلسطيني التاريخي. وفي سبيل ذلك تستهدف كل مكوناته التراثية والثقافية، إما بالمحو أو بالسطو عليه ونسبه إليها. وهنا نذكر أنّ سلطات الاحتلال قد دمرت وأزالت 536 قرية فلسطينية وبعضها استبدل اسمها ليصبح بالعبرية، وأقامت فوقها مستوطنات لليهود جاؤوا بهم من أنحاء العالم.
أنها جرائم إبادة جماعية غير مسبوقة ليس لها مثيل في التاريخ، لا ترتكبها دولة إسرائيل وحدها دون دعم الولايات المتحدة ودول غربية، وهكذا تظل دولة الخطيئة خارج القفص بلا محاكمة وبلا عقاب وتتلقى السلاح الغربي وكلّ أشكال الدعم!
كيف إنسان هذا العصر يتقبل هذا الظلم وهذا التوحش الصهيوني؟
العقل الذي صنع حضارة هذا القرن عليه أنْ يكمل معمار هذه الحضارة ويتحرر من ربقة الوحشية الصهيونية التي تفتك ببهاء الكوكب.
لا يجوز أن يكون للبشرية كلّ هذا التطور وهذه التكنولوجيا، وأنْ تظل محكومة لعصابة من المجانين يقولون عن أنفسهم بتفاخر بأنهم صهاينة، ماذا أنجزت هذه الصهيونية على مرّ السنين سوى إراقة الدماء وإشاعة الإرهاب والقتل وبناء أنظمة من التمييز العنصري.
لكي تتقدم الحضارة ونكسب مجتمعاتنا الإنسانية يجب أولاً القضاء على الهمجية. هذه قاعدة صالحة لكل زمان ومكان. وبلا مواربة يجب بكل صراحة ووضوح أنْ يتبنى المجتمع الدولي الروح الفلسطينية البريئة وإسقاط روح الشر المتوغلة في الجسد الصهيوني الذي فاقت تصرفاته كل منطق عقلاني ومخالفاً لكل الشرائع والقوانين الدولية.
إذا الغرب كان حقا يؤمن بالحداثة والتطور الحضاري، عليه أنْ يكفّ عن اعتبار اليهود كضحية.. أنّ اليهود الإسرائيليين اليوم هم الأوائل في صنع الضحايا من الفلسطينيين والعرب وفي كل الشرق الأوسط.
***
سعيد الشيخ- كاتب فلسطيني