أقلام حرة
مزهر جبر الساعدي: التشكل الافتراضي لعالم الغد
قطبان متنافسان بقيادات متعددة
انتهى مؤتمر منظمة البريكس في 24 أغسطس الماضي، وقد شارك فيه أكثر من أربعين دولة، تمت دعوتها للحضور، من قبل جنوب افريقيا، الدولة المضيفة، ورفضت الصين حضور الرئيس الفرنسي، وطلبت إبداله بوفد فرنسي أقل مستوى. تأسست منظمة البريكس عام 2006 من قبل روسيا والصين والهند والبرازيل، لاحقا بعد عدة سنوات انضمت إليها جنوب افريقيا. لم تكن هذه المنظمة هي الوحيدة التي عملت كل من روسيا والصين على تأسيسها بدءا، بل عملتا على تأسيس اتحاد أوراسيا ومنظمة شنغهاي، لكن هذه المنظمة هي الأكثر وجودا وتأثيرا في الفضاءات الدولية، لجهة الاقتصاد والمال والتجارة والأعمال، وما إلى ذلك، لتقليص احتكار الغرب وأمريكا لها.
واللافت أن بين الدول المؤسسة لبريكس، خلافات أكثر مما بينها من التوافقات والاتفاقات؛ ولكن تجمعها مشتركات كثيرة في الوقت ذاته، ولكل منها على حدة؛ شراكاتها وعلاقاتها مع الدول المؤثرة الأخرى في المجال الدولي، (أمريكا والاتحاد الأوروبي)، أو في المجالات الإقليمية. وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، قال عنها عشية انعقاد مؤتمرها؛ إن الخلافات بينها أكثر من التوافقات، أما وزير خارجية روسيا؛ فقال بأن المنظمة ستقوم بقبول الدول التي تتمتع باقتصاد صاعد وواعد، واستقرار داخلي، وتأثير في الفضاءات الدولية. وفي نهاية المؤتمر تم الإعلان عن دعوة عدد من الدول للانضمام إلى المنظمة بداية من العام المقبل؛ وهي إيران والأرجنتين ومصر والسعودية والإمارات وإثيوبيا، فيما تم رفض طلب الجزائر ودول أخرى. وفي الخطاب المتلفز للرئيس الروسي بوتين للمؤتمرين؛ أشار بوضوح إلى أن إنهاء العمل بالدولار أمر لا رجعة عنه، ودعا إلى اعتماد عملة موحدة لدول المنظمة. إن ما يجمع دول البريكس هو الاقتصاد حصرا في المرحلة الحالية، وربما يتطور الوضع حتى يصل إلى الجانب السياسي في المستقبل. والخلافات لا تمنع التعاون المثمر بينها؛ للتخلص من هيمنة أمريكا والغرب على الاقتصاد العالمي، بإيجاد هيكل اقتصادي ومالي وتجاري بديل، كبداية ومرحلة أولية، لكن تضخيم دور هذه المنظمة في الاقتصاد العالمي أمر سابق لأوانه، لأن الطريق سيكون محفوفا بالمخاطر، التي ستسببها الولايات المتحدة، لكسرها وتفتيتها، ووضع الكثير من الحفر والمطبات في طريقها. إن سعي كل من الصين وروسيا والهند بدءا؛ في العمل على تأسيس هذه المنظمة؛ هو تأمين الموارد المعدنية، أو موارد الطاقة، إضافة الى فتح الأسواق في الدول المُنضمة إليها، أو التي ستنضم مستقبلا، بالإضافة إلى خطط الصين الطموحة في (الحزام والطريق). هذه المنظمة إذا ما كتب لها التوسع والنجاح ستشكل نقلة نوعية في النظام العالمي، وستكون الأساس في إيجاد عالم متعدد القيادات، بقطبين متنافسين، وتنقل ثقل التنمية والتطور إلى الجنوب وتنزع من الشمال بدرجة ما الهيمنة التي استمرت لأزمان مديدة، بل إن الشمال سيكون حينها القطب الآخر الموازي، لا المتراجع، كما يروق للبعض تصويره. هذا التطور وهو بكل تأكيد سيخدم دول العالم الثالث، بما فيها الدول ذات الاقتصادات الواعدة أو الناشئة، أو الدول ذات الاقتصادات الأقل نموا وتطورا، لكن هل يخلو التحول المرتقب من الصراع حتى بين الدول المنضوية تحت الراية الاقتصادية والتجارية والمالية للبريكس؛ بكل تأكيد أن هذا التحول سيؤدي إلى صراعات وتنافسات على صعد الاقتصاد والتجارة وغيرهما من قبيل المشاريع الاستثمارية، وغيرها الكثير. كما أن دول المنظمة لن تضع جميع بيضها في سلة البريكس، بل ستضع قدما هنا وقدما هناك. كما هو حال السعودية ومصر والإمارات، وكما هو وضع إيران التي تخوض منذ أكثر من سنة مفاوضات سرية مع أمريكا، وفي هذا الصدد نؤكد، كما تناقلت وسائل الإعلام الروسية والإيرانية؛ أن البعض من مسؤولي إيران؛ دعوا مؤخرا إلى بناء علاقة سليمة مع أمريكا؛ لأن هذه العلاقة؛ ستخدم وتفيد إيران. وكما هي علاقة الهند مع الصين.. فالصين هي العمود الفقري لهذه المنظمة، ولها طموحاتها البعيدة سواء في تأمين الحصول على الموارد من دول العالم الثالث أو الدول الأخرى كروسيا مثلا، وعلى فتح الأسواق لمصانعها. هنا يكون العالم متعدد القيادات في المستقبل.. إنما ليس متعدد الأقطاب، بل الصحيح هو أن العالم في المستقبل، سينقسم الى قطبين متوازيين ومتنافسين بقوة وشراسة من دون صراع عسكري وما إليه، باستثناء حروب الوكلاء؛ هما القطب الأمريكي والقطب الصيني؛ على قاعدة تأمين الحصول على الموارد.. وفتح الأسواق. من الطبيعي أن ما يفرضه هذا التنافس بين القطبين؛ أن تكون هناك مساحة نفوذ وشراكات وحلفاء لناحية السياسة الأمريكية لا الصينية، فالصين ليس في وارد سياستها صناعة الحلفاء، بل إقامة الشراكات، ومشاريع استثمارية واسعة في العالم، شماله وجنوبه، والجنوب سيأخذ في توجهات الصين المساحة الأكبر. بمعنى أكثر دقة وتوصيفا لواقع الحال؛ قطب شمال الكرة الأرضية، القطب الأمريكي الذي ستكون له عدة قيادات تحت عباءة القطب الأمريكي؛ فرنسية وألمانية ويابانية واسترالية وكندية، وربما غيرها، تبحث عن مصالحها حتى إن تقاطعت جزئيا مع الاتجاه الأمريكي، لكنها تظل داخل هذا القطب؛ لمصالحها الجيوسياسية، التي تؤمّن لها مساحات لحركتها الاقتصادية والتجارية والمشاريع الاستثمارية والأسواق والموارد. أما القطب الصيني، الذي سيمثل جنوب الكرة الأرضية؛ فستكون تحت مظلته؛ عدة قيادات دولية ذات ثقل كبير، لكن ليس بثقل وقوة نسيج الخيمة الصينية، أي بمستوى مشاريع الاستثمار الصيني في مختلف الصعد، الفرق بين اقتصادات هذه القيادات الدولية، واقتصاد الصين؛ كبيرا جدا، وبأرقام فلكية، وهذا هو الذي يجبرها على الانضواء تحت الفضاءات الاقتصادية الصينية، حتى إن كان هذا لا يناسب طموحاتها، وأقصد تحديدا روسيا والهند. أمريكا تتراجع بالفعل، ولكن ليس إلى الدرجة أو المستوى الذي يجعلها تفقد مساحات نفوذها بصورة كلية في المستقبل. كما أن دول الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى أمريكا، ليس فقط لضمان الأمن والدفاع عنها في وجه طموحات روسيا بوتين، بل إن اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي؛ متداخلة ومتشابكة مع الاقتصاد الأمريكي بطريقة من الصعوبة تفكيكها، كما يقول خبراء الاقتصاد. كما أن دول الاتحاد الأوروبي؛ بحاجة إلى أمريكا في المجال الجيوبوليتكي. أمريكا بسياستها وقوة اقتصادها وحتى ماكنتها العسكرية وتحالفاتها وشراكاتها في المحيطين الهادئ والهندي ودول المنطقة العربية، وغيرها من بقاع العالم؛ تتفوق كثيرا جدا على قوة الاقتصاد الأوروبي، وعلى ماكنة دول الاتحاد الأوروبي العسكرية؛ ستساعد بطريقة أو بأخرى حلفاءها على تأمين المساحات الضرورية؛ لإدامة تحركاتها الاقتصادية والتجارية والاستثمارية في دول الجنوب والشمال على حد سواء؛ لأن الاتجاه الأمريكي حينها، ضروري وأمر لا بد منه؛ لاستمرار الحلف بين هذه الدول وأمريكا؛ في تخادم مصلحي متبادل؛ في الصراع التنافسي مع القطب الصيني جنوبا. إن جميع دول البريكس؛ اقتصادها اقل كثيرا جدا من الاقتصاد الصيني، بما في ذلك روسيا والهند والبرازيل وجنوب افريقيا، بالإضافة الى الدول الأخرى من دول البريكس، لذا لن تشكل قطبا موازيا ومتنافسا مع القطب الأمريكي من دون الغطاء الصيني، وستكون قيادات في القطب الصيني، أي يكون لها موقف ورأي في صناعة القرارات داخل أروقة البريكس. الصين كما يصفها خبراء الاقتصاد؛ مصنع العالم الذي يصنع السلع الرخيصة، التي تحوز تقنيات الجيل الخامس، كما أنها ستقدم لدول العالم، ومنها بل أولها دول البريكس؛ مشاريع استثمارية قليلة التكلفة بلا شروط سياسية. هذه القوة في الاقتصاد والمال والتقنيات الحديثة؛ وجودها في دول البريكس مثل روسيا والهند والبرازيل قليلة جدا، بما لا يقاس مع القوة والقدرة الصينية، ما يجعل الصين القطب المنافس للقطب الأمريكي. عليه فإن الصراع التنافسي سيكون مستقبلا بين القطبين الصيني والأمريكي، مع إعادة هيكلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي؛ بإضافة أعضاء جدد للأخير. سوف لن يكون للأيديولوجيا تأثير ووجود، إنما التأثير الوجودي الفعال والعميق؛ سيكون للثورة المعلوماتية، وقوة الاقتصاد والمال وتكنولوجيا المعلومات فائقة الذكاء..
***
مزهر جبر الساعدي