أقلام حرة
نماذج معاصرة على تغييب الحكّام لآثار خصومهم
عندما نشرت مقالتي القصيرة التي تناولتُ فيها موقف الدكتور خزعل الماجدي من قضية حقيقة وجود النبي موسى بالاستناد الى توفر ادلة اثرية تشير الى وجوده ضمن الآثار المصرية المكتشفة.
كان سبب اعتراضي على طروحات الدكتور الماجدي هو ان الحكام عادة يحاولون اخفاء خصومهم ومحوهم من الذاكرة المجتمعية. اليوم احاول استعراض بعض الامثلة الحديثة على عمليات الغاء ومحو تاريخ الخصوم.
ستالين مثلاً توجد له صور يظهر فيها مع مجموعة من الساسة السوفييت الذين كانوا يعملون معه. نفس الصور تظهر لاحقاً وقد اختفى منها احد اولئك السياسيين لان ستالين غضب عليه وابعده او اعدمه. تقوم الاجهزة المختصة وبأمر من ستالين بمحو ذلك الشخص من الصورة باساليب فنية خاصة لكي لاتخلد ذكراه.
حادثة أخرى حصلت امام احد الاصدقاء المحترمين، يقول ذلك الصديق ذهبت لزيارة احد اقاربي وكان ضابط استخبارات في احدى الدوائر العسكرية. عندما سمحوا لي بالدخول عليه وجدته منهمكاً ويدخن بشراهة وبيده مقص وامامه حزم من الصحف جاء بها من مكتبة او ارشيف الدائرة ويقوم بتقليبها واحدة بعد الاخرى.
سألته: ماذا تفعل؟
اجابني: ساقول لك شيء سري ارجو عدم اباحته لأحد لانها مسؤولية.
لقد تم اعفاء الرفيق منيف الرزاز من منصبه كعضو قيادة قومية ويقال انه معتقل، وقد صدرت الاوامر بازالة اي خبر يتعلق به من الصحف الصادرة في الفترة الماضية عن طريق قص ذلك الخبر بهذا المقص !!!
لقم تم محوه !! كما تعتقد السلطات.
ونظراً لشيوع ظاهرة الإخفاء والتلاعب بالاحداث على مدى التاريخ، فقد اوردها الكاتب الكبير جورج ارويل في روايته المعروفة ، المعنونة : ١٩٨٤ .
حيث يتحدث عن أحد ابطال روايته الذي كان يعمل في ارشيف الدولة وكانت مهمته اعادة صياغة الاخبار القديمة لاسيما تصريحات وتوقعات الاخ الاكبر، لكي تتطابق مع ماحصل فعلاً ويظهر فيها الاخ الاكبر باعتباره لايخطيء في توقعاته وتقديراته. حيث كان يقص الاخبار القديمة التي ثبت عدم صحتها ودقتها واعادة صياغتها ولصق الاخبار المعدلة محلها.
يقول ارويل ساخراً:
كانت وظيفته استبدال قطعة هراء بقطعة هراء أخرى!!!
اقول لبعض الاساتذة الذين كانت لهم وجهة نظر مختلفة،
ان الموضوع كان محصوراً بحقيقة وجود النبي موسى او عدم وجوده اولاً، وكذلك بمحاولة اثبات ذلك عن طريق الآثار المصرية اي التنقيب عن آثار الفراعنة، ثانياً..
لم يكن الموضوع يتعلق بالبحث في التاريخ المدوّن او المروي ، بل بالبحث في الآثار المادية المكتشفة فقط والتي كانت تخلو من اي اشارة الى وجود موسى!!
وهنا حصلت المفارقة التي هي خلق تداخل غير واقعي بين علم اللاهوت والغيبيات وبين العلوم المادية الصرفة والتي تقوم على الاستدلال المنطقي.
الايمان بالغيب لايستند بالضرورة على المنطق العلمي.
محاولة اثبات صحة ماجاء في كتاب سماوي عن طريق الاكتشافات الأثرية حصراً أمر غير ممكن وغير معقول.
القرآن لم يقدم موسى باعتباره قائداً عظيماً او ملكاً ذو امكانيات حتى يتم تخليده ، بل قدمه كرجل فقير صاحب رسالة تحدى الفرعون فطارده الأخير وحاول قتله ومثّل باتباعه ونكّل بهم.
فلماذا ننتظر ان يقوم الفرعون بتسليط الضوء عليه وهو الذي اعتبره كذاب وساحر؟
المشكلة ليست في التشكيك بوجود موسى لانها ليست قضية جديدة لأن الكثيرين يشككون بكل الغيب ويعلنون إلحادهم وايمانهم بالعدمية، المشكلة هي فقط بهذا الربط بين صحة وجوده وبين الاشارة اليه في الآثار الفرعونية المكتشفة. لماذا يجب ان يُذكر كما يعتقد الدكتور الماجدي؟
المشكلة ستكون اخطر لو انتقلنا الى فكرة الله نفسه، هل نبحث عن آثار من نوع ما في مكان ما، لكي نثبت للمؤمنين ان الله موجود؟
هنالك الكثير من الناس العاديين او المثقفين والكتّاب يشككون في صحة الكتب السماوية كلها ويشككون بالغيب، وهذا شأنهم ، لكنهم لم يبنوا تشكيكهم على علم الآثار ابداً.
***
د. صلاح حزام