كتابات
ماجد الغرباوي: الموقف الأخلاقي من التراث
مقدمة: إن التباس الإلهي بالبشري أحد مواطن هشاشة الوعي الديني ونقاط ضعفه. مثاله الواضح، امتثال الحكم الفقهي بصفته حكماً إلهياً، تترتب عليه آثار أخروية، أسوة بأحكام الشريعة المنصوص عليها قرآنياً، وهو ليس كذلك، بل هو حكم اجتهادي بشري، قد يُصيب وقد يُخطئ. ولا ريب في تداعياته الأخلاقية، وما ينعكس على الفرد من آثار سلبية، قد تصادر حريته وتشل إرادته. وهذا استدراج مخيف، يفضي لعبودية الفرد من حيث لا يشعر، لجهله بحقيقة الأمور. إن الإلتباس مع عدم البيان عمل لا أخلاقي، ومخالفة صريحة للقيم الإنسانية والدينية. لذا فتفكيك الخطاب الفقهي، وفرز الإلهي عن البشري، ضرورة، لتحري حدود الإلزام ضمن شروط فعليته. والنظر بإمكانية الأخذ بالأحكام الفقهية باعتبارها وجهات نظر اجتهادية بشرية. امتثالها يقتضي الحذر عندما تتستر بقداسة النص الشرعي تحت عنوان شمول الشريعة، فتأخذ صفة القداسة ويلتبس الأمر على المكلّف، على حساب حريته، عندما يعيش حالة ترقب خشية الخطأ في امتثالها. ولي تجارب مرة في هذا المجال، لكن الوعي كان أقرب لي، فلم أمكث طويلا حتى فقت لعقلي ووعي عندما راحت الأسئلة تطرح نفسها بقوة، وتدعو لمراجعة جميع بداهاتي وثوابتي. الاستنارة نعمة، تحتاج إلى جرأة تطرق مواطن الخوف لتكتشف الحقيقة.
عندما قلت: إن فرز الإلهي عن البشري ضرورة تنويرية أعني بها تحري الحقيقة لاستعادة الوعي المستباح فقهياً، وتعزيز الثقة بالعقل باعتباره مصدراً موازياً للنص في تشريع الأنظمة والقوانين، وفق مقتضيات الحكمة وضرورات الواقع ومبادئ التشريع والقيم الأخلاقية التي تمثل جذر الأحكام الشرعية، كما تقدم تفصيله. فمهمتنا مع الفقه مهمة صعبة، تستدعي وعياً جديدا، يتخطى المعنى الدوغمائي للقداسة ويفهم النص الديني فهماً موضوعياً وفق معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، كي يكون فهماً مُنتجاً، يساهم في نهضة المجتمع حضارياً، فليس ثمة ما يبرر قداسة الماضي، والتمسك به في كل شاردة وواردة، سوى رهاب القداسة.
كما أنها مهمة صعبة لتجذر التراث بشكل عام، والفقه ضمن العلوم الدينية هو روح التراث وقوامه، يغطي المساحة الأعظم منه. كما أن العقل العربي مازال مرتهناً للتراث، يعتبره مرجعية أساساً في شؤون الدين والدنيا، وعلى هذا الأساس لا يتجاوز الفقيه وأحكامه في كل مسائله الحياتية. ثمة حقيقة أن الفقه تولى المرجعية الدينية والفكرية للمسلمين منذ وفاة الرسول ومازال فاعلاً، وما من قانون أو دستور إلا وراعى أحكام الشريعة، إما باتخاذ الشريعة مصدراً وحيداً للتشريع أو أحد مصادره. وأنا متفهم لكل هذه الإشكاليات، وكل شيء عندي له حسابه، ضمن منهج يتطلع لتحرير العقل، وقد سردت أدلة كافية لصحة ما ذهبت إليه حول الجذر الأخلاقي للأحكام الشرعية، ودور العقل في تشريع الأنظمة والقوانين لملء الفراغ التشريعي والقانوني، بعد نزع قدسية الأحكام الفقهية وكشف حقيقتها وبشريتها. ليس ثمة فوضى في نقد التراث أو نقد التراث الفقهي، مادام هناك منهج علمي ومبادئ صحيحة.
منهج نقد التراث
تتطلب دراسة التراث عدة معرفية وخبرة بمناهجه ومصادره وموضوعاته، أو يغدو فوضى خارج الضوابط العلمية. فثمة وجهات نظر تزهد بقيمته المعرفية، تصفه بالتخلف وترميه بالجهل والانحطاط، وتحمّله مسؤولية تراجع الدور الحضاري للعرب والمسلمين. في مقابل قدسية مبالغ فيها يتبناها السلفيون، ومن يتبعهم. وتبقى الموضوعية: قراءة التراث ضمن سياقه التاريخي، فهناك منجزات علمية على صعيد الفلسفة وعلم الكلام والفقه وعلوم القرآن والحديث والدراية، تجاوز بعضه الزمن، ومازال بعضها الآخر يفرض حضوره العلمي والمعرفي. دراسته ضمن سياقه التاريخي تسمح بنقده وتعريته والكشف عن القيمة المعرفية لمبادئة ومقولاته الأولية، فمهما بالغوا بقدسية التراث يبقى منجزاً بشرياً في إطار ظرفه الزماني والمكاني، يحتفظ بتاريخيته، وعدم تعاليه على النقد. ويبقى مرتهناً في إطلاقه وتأثيره لمتانة مبانيه ومبادئه وأسسه، بما في ذلك الفقه الإسلامي الذي يشتغل على نصوص الكتاب والسنة. رغم أن الفقه وفتاوى الفقهاء غدت سلطة مقدسة، تترتب على مخالفتها عقوبات دنيوية فضلاً عن العقوبات الأخروية. وهي قدسية مريبة لا أساس لها سوى فهم خاطئ لدور الدين في الحياة، ودور الإنسان فيها، ورغبة الفقيه في تحصين سلطته بالمقدّس، وتوظيف الفتوى لصالح مكانته الاجتماعية والسياسية، وتلبية لطموحاته المذهبية والطائفية. يؤكد ذلك موقف كل فقيه من الآخر المختلف مذهبياً، رغم وحدة مصادر التشريع، واتفاق فقهاء المسلمين على أكثر من 90 بالمئة من أحكام الشريعة1.
ويُقصد بالتراث: (ما أنجزه السلف من دراسات وبحوث، فكرية وعقدية وثقافية وفقهية ما زالت تفرض نفسها مرجعيات تؤثر في وعينا وتفكيرنا وفهمنا، وتحتفظ بقدر كبير من الاحترام والقداسة، خاصة في الأوساط الدينية والتراثية المحافظة)2.
يمكن الإشارة لبعض ضوابط دراسة ونقد التراث في ضوء المبادئ الأخلاقية، وما يحقق نهضتنا التي طال انتظارها:
- يشترط تحري الموضوعية ونزع الأحكام المسبقة في قراءة التراث.
- أنسنة التراث عبر دراسته تاريخياً تمهيدا لنقده، بوصفه تراكماً بشرياً، مهما كان مصدره، ومهما كانت قيمته المعرفية.
- تقديم العقل على النص.
- التأكيد على القطيعة التامة مع البنية الأسطورية للتراث، وتركيز النقد على أدلته وبراهينه.
اعتماد التأويل في قراءة النص المقدّس للتخلص من التفسير الدوغمائي.
- استبعاد كل نص يقوم على ثنائية تهدر الحقوق العادلة للأنسان. خاصة حريته وإرادته.
- تفكيك النصوص التي تكرّس ثقافة تمجيد الموت، وهجاء الحياة، والتحريض على العنف، وتكريس منطق الكراهية، والاستعلاء.
- إضاءة النصوص الأخلاقية والإنسانية.
التراث والنهضة
التراث يمثل الآن عقبة، فما فتئ الوعي العربي والإسلامي مرتهناً للتراث وقيمه الأخلاقية والعلمية. يستفز نقده العقل التراثي. من هنا تأتي صعوبة تفكيك مقولاته وثوابته ما لم يتسلح المرء بالعلم والجرأة التي تتطلبها النهضة الحضارية.
لا مراء حول قيمة الجهود المكرّسة لنقد مرجعيات التفكير الديني، وإشكاليات العقل التراثي. سواء اتفقنا أم اختلفنا معها. فهي جهود مهمة، اتسمت بثرائها الفكري والفلسفي. واستأثرت باهتمام الباحثين والدارسين. وتكمن أهميتها بحيوية مناهجها، وقدرتها على طرح الأسئلة، واختراق الممنوع واللامفكر فيه. فجميعها تراكم معرفي لمقاربة الحقيقة، وترشيد الوعي، ضمن مشاريع حضارية هادفه وفاعلة. وهذا لا يعني عدم وجود ملاحظات وتحفّظات أساسية حول مرتكزاتها التي انقلبت بدورها إلى بديهيات فرضت نفسها على الباحث3.
طالما أكدت: ليست مرجعيات التفكير الديني سوى مصفوفة نصوص تتولى عملية التفكير وإنتاج المعرفة، فنحن بحاجة لمنهج فهم النص ضمن سياقه التاريخي، دون أولوية له على العقل، من أجل فهم واقعي، ينأى عن التبرير ورهاب القداسة. فالكلام عن منهج التفكير بين من يتولى النص عملية التفكير نيابة عنه وبين من يجعل النص احد مصادر المعرفة. بين من يكتفي بنافذة ويغلق جميع نوافذ المعرفة الاخرى بين من يفكر داخل النص أو خارجه الاول تكون محكوما لقبلياته والثاني يكون موضوعا للتفكير.
لا نضيف جديدا أن النص الديني، يتمتع إضافة لقدسيته، بهيمنة روحية لا تسمح بمقاربته نقدياً، رغم أنها هيمنة مشروطة، كما في مفتتح سورة البقرة: (الم، ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْوَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)4. وهو إيمان صادق، يعيشه الإنسان مشاعر روحية متوهجة، وممارسات طقوسية مخلصة، ليست كافية ما لم يصحبها وعي يتفادى التسليم الأعمى: (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)5. فثمة شرط يتكرر بالكتاب الكريم يؤكد على الوعي وأهميته ودوره: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)6، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)7 في فهم القرآن وبالتالي فهم الدين وغاياته ومقاصده. مما يعني وجود مضمرات تتراءى للقراءة الواعية، يؤدي أهمالها لدوغمائية تُفقد الدين قدرته على مواكبة الواقع، وحاجات الإنسان. وهذه إحدى المؤاخذات على الاتجاه السلفي وأهل الحديث في جميع المذاهب الإسلامية، ممن يرفض التأمل والتأويل، ويجمد على ظاهر النص، فانتهى بهم الأمر إلى التجسم عندما جعلوا لله جسدا، ويداً وعرشاً: بناء على ظاهر بعض الآيات: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)8، (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)9. وهو مذهب المجسمة والحشوية10. لا ريب أن ظهور اللفظ في معناه، كما هو مقرر لدى الأصوليين حجة11. والكلام ليس عن الصريح والمجمل من اللفظ، فكلاهما واضح، الثاني يهمل لتكافؤ المعاني المشتركة بالنسبة للفظ. وليس للأول سوى معنى واحد في نظام اللغة فيحمل عليه اللفظ. وإنما الكلام عن القسم الثالث، عندما يكون للفظ أكثر من معنى، وأحدهما أقرب للفظ من سائر معانيه12. فهنا يكون ظهور اللفظ في أقرب معانيه حجة، وأن ما يريده واضعه / الله يقصده. وتارة تدل القرآنية المتصلة أو المنفصلة على إرادة معنى دون غيره فيؤخذ بالقرينة، ويقدم على ذي القرينة، وفقاً للقاعدة الأصولية: (إن ظهور القرينة مقدم على ظهور ذي القرينة، سواء كانت القرينة متصلة أو منفصلة)13. وهذا ينطبق على آية: يد الله فوق أيديهم. فإن معنى اليد هي اليد الضاربة، لكن هناك قرائن مفصلة تصرف اللفظ عن معناه الظاهر، كقوله: "ليس كمثله شيء". فيكون المراد باليد القوة والمنعة والسلطة.
العقل التراثي راهناً يُعد تحدياً كبيراً أمام التنوير، يصّر على تقليد السلف، ويمنح الفقيه وصايا تارة تكون مطلقة كما بالنسبة لولاية الفقيه المطلقة، على حساب حرية الفرد وكرامته. ويرفض كل مبادرة من شأنها تحديث مناهج وأدوات قراءة النص من أجل فهمٍ أكثر قدرة على مواكبة الواقع. فهمٌ يؤكد على مركزية الإنسان، ويقيم مصالحة بين الدين والعصر، لتفادي طاقته الروحية، التي يرتهن لها الاستقرار النفسي والسلوكي والاجتماعي، ويُعد طاقة إيجابية تبعث على الخير والأمن والسلامة والتآخي. وليس أمامنا لتجاوز محنة الاتجاه الدوغمائي سوى مواصلة التنوير، وبث الوعي، مع تفكيك مستمر للخطاب السلفي. والكشف عن كل ما يرتبط به من دواعٍ سياسية وسلطوية.
الفقه والنص
يستمد النص الديني سلطته وشرعيته من قدسيته لا من أدلته وبراهينه ومدى مطابقته للواقع، فيُقدم على العقل، ويتعالى على النقد والمراجعة، لتقتصر مهمة المتلقي على شرح وبيان معانيه، وتبرير تناقضاته الأخلاقية، وتعارضه مع القوانين الكونية أحياناً. كل ذلك بفعل الفهم الدوغمائي لمعنى القداسة، الذي مازال العقل التراثي والعقل الأشعري يتعهده، ويتبناه قاعدة في فهم النصوص الدينية. والأحكام الشرعية، هي الأخرى ترتهن شرعيتها لقدسيتها لا لملاكاتها، فتمهّد لتوظيفها أيديولوجياً وسياسياً. وهنا تكمن رثاثة العقل الدوغمائي، حينما يتجمد على ظواهر النصوص، ويتوقف عن سبر أغوارها والبحث عن مضمراتها في سياق الرؤية الكلية للدين وأهدافه ومقاصده، التي تكتظ بها المرجعية الأولى للدين، فثمة نصوص كثيرة تؤكد المقاصد الأخلاقية للدين، وتمنح الإنسان ومصالحه أولوية. غير أن تكوين الوعي التراثي للدين يستمد وجوده من مقولات كلامية تم تأسيسها في ضوء صراع السلطة، وتنافس محموم لاحتكار رأس المال الرمزي للإسلام، على أساس حديث الفرقة الناجية.
بينما يرتهن الاتجاه الأخلاقي فعلية وسلطة الحكم لفعلية موضوعه وشروطه وقيوده من جهة، ولملاكاته ومبادئه من جهة ثانية، فيمنع تكريسه خارج سياقاته مهما كانت قدرة الفقيه على الإلتفاف على الروايات. ونضيف ثالثاً، وفق الفهم الأخلاقي للأحكام، ارتهان شرعية الحكم لعدم تعارضه مع القيم الأخلاقية لحاكميتها كما تقدم على الأدلة الأولية، فتكون شرطاً في فعلية الحكم. مادامت مأخوذة في ملاكات الحكم، ومع تعارضه معها تنتفي فعليته وشرعيته.
بهذا يتضح حجم الاختلاف بين الاتجاهين وما يترتب عليهما على الصعيدين الديني والأخلاقي. الأول يعتقد أن النص معطى نهائي له وجود ميتافيزيقي مسبق تفرضه قداسته، لا دليل عليه سوى هاجس القداسة والحاجة لفقه تقليدي يلبي حاجات سياسية وطائفية وأيديولوجية. بينما ينتزع الثاني القداسة بالمعنى الدوغمائي عن النص. ويفرض شروطاً على إطلاقه وحجته، بهذا الشكل لا يتعالى النص على تاريخيته، ويمكن أن يفقد فعليته مع عدم فعلية شروطه أو بعضها. وقد تم الاستدلال على الجذر الأخلاقي عقلاً وقرآناً.
إذاً، الأخلاق شرط تتوقف عليه فعلية الحكم الشرعي، ومعيار لمدى شرعيته. وهي صمام أمان يحول دون تكريس الحكم الشرعية لمصالح طائفية أو سياسية أو أيدولوجية. ويقصد بها هنا خصوص الأخلاق الأصيلة، التي هي مشاعر إنسانية كونية، يمكن الاحتكام لها في تبرير الفعل السلوكي. وهي من معطيات العقل العملي، دون الأخلاق النسبية المكتسبة التي تستمد وجودها من توافقات عقلائية تتغير من وقت إلى آخر تبعاً لمصالحهم. الأخلاق الأصيلة ثابتة لا تتغير، رغم إمكانية الالتفاف عليها. كحُسن العدل وقُبح الظلم. ومرت أدلة كافية تؤكد هذا الكلام.
وبالتالي نريد بشرط الأخلاق ضبط المدونة الفقهية، وتفادي توظيفها خلافاً لمقاصد الشريعة. وليمارس الدين دور الهداية والتسديد: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)14، (هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)15، ويأخذ العقل دوره في فهم الواقع وضروراته والمشاركة في ملء الفراغ التشريعي والقانوني، بحكم قدراته على ذلك. فثمة أحكام شرعية انتفت فعليتها بانتفاء فعلية أحكامها، وهناك منطقة فراغ تشريعي تتسع مع ايقاع الواقع، تستدعي أحكاما تلائمه، وتحقق العدالة والمساواة.
من جهة ثانية فإن شرط الأخلاق في فعلية الحكم الشرعي يشجع على التحقق من فعلية كل حكم ضمن أحكام الشريعة، خاصة الموقف من الآخر وكيفية التعامل معه، التي صدرت ضمن ظروف حرب وتراشق مستمر، وتحد شرس، فكانت ثنائية الإيمان والكفر، تقصي الآخر، من رحمة الله وتحرمه النجاة يوم الحساب.
يمكن الالتفاف على الضمير الديني بفتوى فقهية. والشواهد كثيرة، حينما يستبيح الفقيه ثروات البلاد بعنوان "مجهول المالك". أو يسوّغ العمالة بعنوان الولاية الشرعية ووجوب طاعة ولي الأمر. بينما لا يتخلى الضمير الأخلاقي عن قيمه ومبادئه، مهما كان حجم الإغراءات المادية أو الدينية. الضمير الديني يقبل الترويض. الضمير الأخلاقي يأبى التسويف.
وبالتالي، ليس للتراث سلطة تعيق الحداثة بدءا بتعدد القراءت والمناهج وزوايا النظر واختلاف الفهم. فيبقى نسبياً مرتهناً لقيمته العلمية ومدى قدرته على تحدي الإشكالات.
نخلص: أن الموقف الأخلاقي من التراث ينطلق من قيم ومبادئ إنسانية كونية شاملة، محايدة، ترفض القيم الأخلاقية النسبية التي تُمليها نصوص تراثية وفقاً لقبلياتها الطائفية، فتهدر بذلك كرامة الإنسان، الذي هو قيمة عظمى وفقاً لمنظومة ذات القيم الأخلاقية الأصيلة. وهل يصدق هذا المعيار على النصوص المقدسة، شديدة الفرز على أساس ثنائية الإيمان والكفر أم لا؟ تبقى علامات استفهام شائكة مرَّ الكلام حولها16.
***
ماجد الغرباوي – باحث بالفكر الديني
15 – 4 2023م.
.....................
1- الغرباوي، ماجد، الهوية والفعل الحضاري، مؤسسة المثقف – أستراليا، وأمل الجديدة، سوريا، ط 2019م، ص 174.
2- المصدر نفسه.
3- الغرباوي، ماجد، النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني، مؤسسة المثقف – أستراليا، وأمل الجديدة، سوريا، ط 2018م، ص 8.
4- سورة البقرة: الآيات 1-4.
5- سورة الفرقان: الآية 73 .
6- سورة الحاقة: الآية: 12.
7- سورة محمد: الآية 24.
8- سورة الفتح: الآية 10.
9- سورة الفجر: الآية 22.
10- الشهرستاني، الملل والنحِل، منشورات الشريف الرضي، ص 95.
11- الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول، طبعة المؤتمر 2012م، ج2، ص107.
12- المصدر نفسه.
13- المصدر نفسه، ص110.
14- سورة البقرة: الآية 2.
15- سورة الأعراف: الآية 203.
16-
www.almothaqaf.com/c1d-2/968516