أقلام فكرية
أسعد الامارة: من التحليل النفسي نتعلم ومن "جاك لاكان" نتعلم عمق اللغة في التحليل النفسي!!
اهداء إلى المحلل النفسي عبد الهادي الفقير مترجم أعمال لاكان
***
يعلمنا التحليل النفسي على لسان مؤسسه "سيجموند فرويد" أن كل شيء نفسي هو في المقام الأول لاشعوري – لاواعي، أما الخاصية الشعورية – الواعية فقد تظهر وقد لا تظهر " فرويد، حياتي والتحليل النفسي، ص 37" وهو بهذا استطاع أن يختلف مع الفلاسفة الذين كانوا لا يفرقون بين ما هو " شعوري – واعي" وما هو " نفسي" كما يقول فرويد. إذن التحليل النفسي أوجد هذا المفهوم وَعدهُ حجر الأساس في مفاهيم وأفكار التحليل النفسي وهو من أكتشافاته الأولى. يعلمنا التحليل النفسي أيضا كما يقول بول ريكور في العام 1949 ثمة في الفرويدية بالنسبة إلى الوجدانات الضعيفة، شيء ساحر يُعبر عنه نجاحها العالمي خير تعبير، فلسفة الإرادة، مستعرضًا على هذه الحتميات الداخلية التي تحكم في الأغلب سلوكنا "بيير داكو"، من هنا عرف بأن التحليل النفسي هو علم نفس الأعماق.
درس التحليل النفسي الرغبات بأنواعها وبدأها في الرغبة بالعودة إلى رحم الأم، على نحو يسير شكلًا يتصف بأنه في منتهى الوضوح لدى بعض المرضى، وهذا الوضوح يقود من تَعمق في النفس البشرية بأساليب التحليل النفسي وهو أسلوب التداعي الحر – الطليق، وهي الوسيلة القادرة للنزول إلى عالم اللاشعور – اللاوعي، ويتفق معنا من عرف التحليل النفسي وزاول هذه المهنة الإنسانية والتي تعد مهنة من أكثر المهن صعوبة، وأكثرها إنسانية وروعة في نقل الشخص طالب التحليل إلى عالم السوية والتخلص من أدران بقايا التفكير وترسباته التي سببت له الأزمة النفسية، وكما عرفنا عبر هذه السنوات في دراسة التحليل النفسي بأن التحليل النفسي لا يهدف إلى الشفاء فحسب، بقدر ما يهدف إلى أن تمتد لابعاد الشخصية واعادة ترميمها عند الفرد نفسه بعد أو وضعه المُحلل " القائم بالعملية التحليلية " على الطريق في معرفة مواجهة ما سبب معاناته، وينزل به إلى أعماق النفس، إلى الجذور الأولى في تكوين ونشأة الصراع الذي أدى إلى العصاب، أو إلى الذهان.
تصدق المقولة التالية: إن المُحَللّ " طالب التحليل" يصارع دون وعي منه، لأنه تأثر بحكاية رويت له عندما كان صغيرًا " نص منقول" وهو التثبيت بعينه، ويرى العلامة " مصطفى زيور " أن التثبيت يضع علامة وقوف للنكوص، وهو يضعف القسم المتطور من الشخصية " زيور، في النفس، ص 141"
مما لاشك فيه أن المحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان " يعد من المحللين الذين أدخلوا التجديد في الفكر الفرويدي ونظرياته العميقة عن النفس التي عدت بأنها معركة اكتشاف الإنسان نفسه، وربما زادته عمقًا حينما سبر "لاكان" أغوار ما استطاع "سيجموند فرويد" وضع أسسه وترك الباب مفتوحًا لمن بعده في التعمق لذا كانت رؤية "لاكان" وما أحتوت من مداخل متنوعة ومختلفة عن معاصريه من علماء النفس في بداية القرن العشرين، ورغم أن البعض من المحللين النفسيين رفضوا هذا التجديد وما أدخله " لاكان "، وتستمر رؤية " لاكان " في إحداث هذا التجديد مستندًا في ذلك على استخدام اللغة كمؤثر في الجلسة العلاجية، فضلا عن إدخالها في كل رؤى التحليل النفسي عن معرفة عمق النفس، فقوله: وظيفة الكلمة، أو بتعبير أدق، هي وظيفة الدال أو وظيفة ذلك الجزء من السلسلة الصوتية الذي ننطق بها أو نسمعها، لذا فالإنسان نتاج للغة، ومع ذلك لا يمكننا أن نفهم كل هذا فهمًا صحيحًا ما لم نسلم بــ " وجود " رباط اساس بين الرغبة واللغة، وما لم تعرف الذات نفسها باعتبارها كائنًا متكلّما " فيليب شملا، لاكان واللغة".
يرى جاك لاكان بأن الرغبة هي رغبة في الاعتراف بالذات، كما عبرت عنها " بيتي ميلان" المحللة النفسية البرتغالية التي أجرت تحليلها مع لاكان في منتصف العقد السابع من القرن العشرين، حيث أسهم المحلل النفسي " عبد الهادي الفقير " في ترجمة بعض أعمال "جاك لاكان " مشكورًا، وتضيف أيضًا" بيتي ميلان " حادثة عندما كان يتكلم الشخص طالب التحليل مع محلله "لاكان" بأنه تحول أثناء الجلسة من اللغة الفرنسية إلى لغة الأم وهي البرتغالية فتركه "لاكان" يتحدث بكل طلاقة وحينها قال "لاكان" أن أهم شيء بالنسبة لي في تلك اللحظة ليس هو مضمون خطاب المُتحلل وما يتضمنه من مدلولات وإنما انتقال هذا الأخير من لغة إلى أخرى. وهو إن من يعلم قيمة اللغة لدى لاكان، هو الذي كثيرا ما كان يتحدث عن كنز اللغة.
يرى " جاك لاكان " أن لا اهمية من لا يفهم خطابه في المرة الأولى، حيث كان يركز على مفهوم الـ «nachträglich»، وهو مفهوم فرويدي يُترجم إلى الفرنسية بـ «الأثر الرجعي». يشير هذا المفهوم إلى أن بعض الأحداث لا يمكن فهمها إلا بعد وقوعها، وكانت ممارسة لاكان تعتمد على هذه الفكرة في سيميناراته كما في عمله العيادي.
أن اللغة عندما تتكوّن لدى الفرد، تكون وظيفتها هي تمثيل " حمل " الرغبة البشرية " شملا " ويضيف أيضًا إن الرغبات البشرية تتحقق دائمًا عبر موضوعات بديلة، أو عبر اللغة مرة أخرى، لكن الأمر المهم هو أن هذه الرغبات لا تعبر عن نفسها حيث تعتقد الذات ذلك، أي ضمن جُملٍ تصوغ طلبات، فإذا ما عَبّرت الرغبة عن نفسها ضمن اللغة، كان ذلك " بين السطور"، وتكون ممثّلة من طرف دوال تجهل الذات حتى أهميتها. وكما نعرف أن الذات تشكل جزء من النظام الرمزي، والنظام الرمزي عند "لاكان " هو القيم والقانون والسلطة وتقاليد المجتمع والاعراف السائدة فيه، والطقوس وثقافة المجتمع حيث تتشابك بصور عدة مع اللغة.
كما يقول "لاكان " في تحليله للرسالة المسروقة أن اللغة هي ما يحدد الإنسان. وبامكاننا أن نقول أن نبرة الصوت عند أي منا تعطينا مؤشر ومعرفة عما يدور بداخل المتكلم، من نبرة تعبر عن الحب، أو الحسد، أو الاستهزاء، أو استهداف الفرد المقابل، فهي اللغة المحكية مفتاح لمعرفة ما يدور بداخل المتحدث، ما أعظم التحليل النفسي حينما يضع كشوفاته لمعرفة المتكلم، وما ترسب في داخله من ترسبات حتى شكلت بنيته، وبهذا يؤشر لنا صوته ونبرته تجاهنا أكبر مؤشر مهما حاول أن يصطنع التحكم بما في داخله من شعور تجاه المقابل، لغته ونبرة صوته تفضحه فضلا عن ما يبدو لنا من نميمة جسده بحركات غير مسيطر عليها. هكذا يتعلم الإنسان من نفسه وما يدور بها من عالم خفي مقره الرئيس هو اللاشعور – اللاوعي.
***
د. أسعد الامارة