أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: القوانين الطبيعية والانسان
في القرن الثامن عشر تسيّد الابحاث الفلسفية كل من جون لوك وينسب دالمبير الى ان لوك خلق الميتافيزيقا ونيوتن خلق الفيزياء. اهتم جون لوك بعرض تاريخ العقل الانساني اما نيوتن فجعلنا ندرك الكون على انه مجموعة من القوانين1.
في البدء لم يكن القرن الثامن عشر حكرا على الابحاث الفلسفية على حساب تنحية ابحاث ومخترعات العلم جانبا. فلم يكن ميراث فرانسيس بيكون ولا لايبنتيز ولا جوردان برونو ولا غاليلو ولا ادلر ولا كوبرنيكوس واشهرهم كان ليونهارد اويلر ولم يكن علم الرياضيات مثلا مخليا طريقه لتسّيد الابحاث الفلسفية.
لم يشر لنا تاريخ الفلسفة العشوائي الذي تغلب عليه الجزر المتناثرة والقفزات الكنغرية أنه مسار خطي انتظامي محكوم بحتمية الضرورة التقدم الى امام. تاريخ الفلسفة لم يحتو ويستوعب التنوع ضمن وحدة تجانس الامتداد التاريخي للفلسفة. تاريخ الفلسفة حكمته القطوعات والوثبات الاعتباطية غير المنضبطة خارج المسار الخطي الذي حكم انثروبولوجيا التاريخ البشري ايضا بتعثرات حكمتها الصدف والعشوائية في حدوث غير المتوقع.. ميزة القفزات الانعطافية النوعية في مسار انثروبولوجيا التاريخ الانساني كانت اغناءا لمسار ذلك التاريخ وتقدمه الى امام رغم العثرات التي جعلته يمر بمراحل ما اطلق عليه المفكر مطاع صفدي مراحل غياب التاريخ بمعنى الانقطاع عن مسيرة التاريخ المتجهة بحتمية التقدم الى امام. القطوعات في تغييب المراحل التاريخية هي التي مهدّت لانبثاق الصدف غير المتوقعة في صنع التاريخ.( للمزيد من التفصيل ينظر كتابنا العولمة بضوء نهاية التاريخ وصدام الحضارات طبعة الاردن). من جهة أخرى لم تكن الفلسفة طيلة تاريخها منذ بدء نشوئها والى اليوم انها كانت تقود العلم وراءها. ومقولة الفلسفة هي أم كل العلوم تحتاج الى ركنها بالظل خاصة بعد خروج العالم من القرون الوسطى ودخوله عصور العلم والنهضة والانوار والحداثة. وتقدم علوم الفيزياء والرياضيات وعلوم الطبيعة بشكل مذهل.
من الاقرار به حقيقة لا تقبل الدحض ان مسار العلم كان يقود الفلسفة وراءه اغلب الاحيان وفي توازي مساره معها احيانا اخرى حيث يقاطعها وهي منقادة مستسلمة له. ويسايرها من حيث تحتاجه ويحتاجها بتكامل معرفي أو تخارجي.
جون لوك التجريبي اللاميتافيزيقي
ثم بأي منطق دوغمائي ننعت جون لوك فيلسوف العقلانية التجريبية الوضعية بأنه خلق لنا الميتافيزيقا؟ لوك في إعلائه قيمة الادراك الحسي والعقلي أنكر وجود العالم الخارجي. فبأي معيار يكون جون لوك ميتافيزيقيا وهو الذي كان مهتما إهتماما استثنائيا بتاريخ تطور العقل الانساني انثروبولوجيا كما ورد في نص عبارة الاقتباس لجان فال.
جون لوك في انكاره وجود العالم الخارجي في تعطيل الادراك الحسي. لم يقل علينا اثبات وجود العالم الخارجي ميتافيزيقيا بدلا من اعمال الحس التجريبي ومنطق العقل في ادراكهما وتعاملهما معرفيا مع مكونات وموجودات العالم الخارجي .
بيركلي معاصر لوك ذهب نفس المنحى حيث وصل به التطرف قوله لجلسائه اني لو أغمضت عيوني فليس لكم وجود داخل الغرفة التي تجمعنا. وحين سألوه اذن من هو الذي يؤكد وجودنا في تعطيلنا الحواس اجابهم الله يدركنا وهذا كاف للوقوف على سذاجة تعليل فيلسوف مثل بيركلي.. لا غبار ولا انتقاص ان يكون الفيلسوف مؤمنا لكن المعيب ان يحاول البرهنة على ايمانه بسذاجة تنسف تفكير الفلسفة قبل تفكير العقل. ما حدا بأحد جلسائه ان يلكزه بقدمه على ساقه قائلا لبيركلي الا يكفي هذا ان يتاكد لك وجودي جالسا الى جانبك؟
لماذا لا ننعت ديفيد هيوم الفيلسوف الاسكتلندي وهو ايضا من فلاسفة القرن الثامن عشر باختراعه تجذير التفكير الميتافيزيقي بالفلسفة حين انكر وجود العقل كما انكر السببية والعليّة وانكر الوجود المادي خارج تفكير الذهن به قائلا مع لوك ماليس موضوعا متعيّنا في تفكير الذهن فليس له وجود مادي خارجه.. وبالعودة لنص العبارة المقتبسة عن جان فال نجد حقيقة نيوتن عالم فيزياء ورياضيات ولم يكن فيلسوفا. وكرسي الاستاذية الذي يشغله علماء الفيزياء سابق والى اليوم باسم كرسي نيوتن في الفيزياء وليس كرسي نيوتن بالفلسفة في جامعة كامبريدج.
نيوتن عالم الفيزياء وليس الفلسفة
طرح نيوتن عدة قضايا فيزيائية علمية فلكية كانت في بعضها امتدادا لافكار ارسطو التي حكمت اوربا القرون الوسطى. نيوتن طرح عدة قضايا فيزيائية علمية كان بعضها امتدادا لما سبق وتناوله ارسطو طروحات ادخلت اوربا في العصور الوسطى لالفي عام مثل قوله الزمن مطلق واخذها عنه نيوتن بتسليم خاطيء. وبعضها الاخر من طروحات نيوتن العلمية مثل اكتشافه قانون الجاذبية وأن العالم الارضي الكوني تحكمه مجموعة من القوانين الفيزيائية الطبيعية العامة الثابتة التي لا قدرة ولا امكانية للانسان التلاعب بها او تغييرها. واكتشافها ازلي خالد لا يحتاج برهان صحته على مر العصور.
1. طرح اسحق نيوتن الارض ليست مركز الكون وانها ليست ثابتة تدور حولها الشمس بدلا من دورانها هي حول الشمس . وهذا تاكيد لما كان ذهب له كوبرنيكوس في عام 1543. كما ردد نيوتن مقولة جوردان برونو الذي اعدم بوحشية قوله الشمس والارض جرمان سماويان من جملة الاف من الكوكب والاجرام السماوية المنتشرة بالكون. كما سبق لغاليلو ان قال به ايضا وتراجع عنه بالمحكمة غصبا وخوفا من الاعدام كمثل مصير جوردان برونو .
2. بتاثير افكار ارسطو قال نيوتن الزمن مطلق ازلي سرمدي غير نهائي خالد. فجاءت نسبية انشتاين الاولى عام 1910 والنسبية الثانية العامة عام 1915 لتنسف افكار كلا من ارسطو ونيوتن حول مطلق الزمن على انه نسبي.
3. اهم واعظم انجاز لنيوتن علميا في الفيزياء انه اكتشف قانون الجاذبية الذي لا تقل اهميته العلمية عن نسبية انشتاين. وانطلق نيوتن من قانون الجاذبية ليقول ان عالمنا والكوني تحكمه مجموعة من القوانين الفيزيائية المعجزة للعقل الانساني ومن غير تلك القوانين كنا وجدنا انفسنا نتطاير ومعنا كل الاشياء في فضاء سرمدي يبتلعنا كما هو حال جاذبية الثقوب السوداء ابتلاعها نفايات الكون الفضائي بنوع من جاذبية شديدة لا يدركها ولا تتصورها عقولنا المحدودة.
الطبيعة والميتافيزيقا
الايمان بالله ضرورة حياتية دنيوية لراحة الانسان قبل أن تكون ضرورة أخروية لمرضاة الخالق فقط. الانسان مخلوق ميتافيزيقي ايضا قبل وبعد ان يصبح مخلوقا عاقلا. النزعة الايمانية لدى الانسان هي اشباع حاجته الروحانية اكثر اهمية من حاجته إعمال عقله بكل شيء بالحياة. الجفاف الروحي لا يسده ويرويه صرامة العقل. حاجة الانسان للتوازن الروحي بالحياة لا تقل اهمية ان ينال الخلود السماوي.
الايمان هو التجلي السلوكي والاخلاقي ولا يعني هذا ان الشخص غير المؤمن لا اخلاق تحكم سلوكه بالحياة. فنزعة الخير عرفها الانسان ومارسها قبل وصول تطوره الميتافيزيقي مرحلة معرفته الاديان التي تقوم على تهذيب السلوك اخلاقيا.
فقد انطلق توما الاكويني من الطبيعة وصولا الى الله. ومثله فعل فويرباخ اذ انطلق من علاقة الانسان بالطبيعة ميتافيزيقيا جعله يخترع الهه الارضي. وضمّن ذلك في كتابه الفريد (اصل الدين). وقال فيورباخ انك لتجد الايمان الارضي في اعجاز الطبيعة وليس خارجها. وانطلق كلا من الدنماركي ابو الوجودية سورين كيركجورد وتبعه بذلك باسكال مقولتهما من القلب تكون معرفة الله بالايمان القلبي بعيدا عن اعمال العقل بالوصول الى الاله السماوي. سورين كيركجورد الذي توفي في الثلاثينيات من عمره هو اول من اخترع القفزة النوعية الايمانية في المطلق بدافع من القلب وليس العقل.
باسكال عنده نظرية براجماتية خاصة بالايمان مفادها انك باستطاعتك الرهان على وجود الله وتتصرف بحياتك وفق هذا المنظور واذا خسرت الرهان الاخروي بالخلود فانت تكون ربحت الهك الارضي في جعل حياتك نوع من الامتلاء الروحي في السلوك الايماني الاخلاقي.
اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود انطلق من منطلق الله جوهر مطلق ازلي لانهائي غير متعين لا بالوجود الصفاتي ولا بالجوهرالماهوي. بل الله حسب مذهب اسبيتوزا الفلسفي هو ذلك الجوهرالكلي الكامل التام الموزع في موجودات الطبيعة وكائناتها في جواهرها.
كل الصفات التي يخلعها البشر على معبودهم ليس بالاديان التوحيدية فقط بل في جميع الاديان والمذاهب الوثنية الشرقية هي الصفات التي يتمناها الفرد في معبوده ويرغب تقليدها صوفيا ميتافيزيقيا بحياته. وأي منظور يرى في الصفات اللاهوتية هي الصفات الحقيقية للخالق يكون سقط في براثن تشييء الخالق اخلاقيا غيبيا وهو ما ينكره الايمان الديني قبل إنكارالعقل الوضعي.
برأيي أن اسبينوزا اقترب جدا من الصوفية البوذية والهندوسية والزرادشتية وهي ديانات ومذاهب وثنية. وهيجل اعتبر مطلق الفكرة هي العقل الذي يهيمن على العالم. وفي منحى تجريدي لافت جدا قال الفيلسوف الامريكي سيلارز الله لغة وتبعه فيلسوف آخر الوجود لغة. وهي تعابير صحيحة صادقة من حيث العقل هو جوهر لغوي منتج لفهم الوجود كاملا.
الطبيعة أجبرت في عظمتها النظامية وقوانينها الاعجازية الثابتة العقل تسليمه في طرح امكانية الايمان الارضي بالخالق قبل الايمان الميتافيزيقي به بالسماء.
حينما عجز العقل البشري ايجاد صفات الطبيعة بالذات الالهية قام بخلعها عليه بما يتمناه الانسان وليس بما يرغبه الخالق ان تكون الصفات المخلوعة عليه ايمانيا انسانويا هي صفاته. كل مدرك انساني حسي او عقلي لا يمت للاله المعبود بصلة.
كما اني سبق وذكرت في احدى مقالاتي المنشورة ان مبدأ الحلول الصوفي الانساني بالذات الالهية خرافة ميتافيزيقية. الانسان مخلوق ارضي ومهما تسامى بماهيته او جوهره الصوفي عن باقي البشر فهو يبقى انسانا لا يمت بصلة تجانسية مع صفة واحدة مع صفات الخالق غير المدركة وغير المتعّينة حتى بالمنظور الميتافيزيقي..
مذهب مبدأ وحدة الوجود التصوفي اكثر متبنيه هم من الاديان الملحدة الوثنية التي ترى في اعجاز نظام الطبيعة في الكائنات من موجودات الحيوان والنبات والجماد والانسان وليس في قوانينها الفيزيائية العامة الثابتة يقودك الى الايمان ببوذا وبراهما وزرادشت كآلهة وليسوا بشرا. كما تذهب الديانة الشنتوية اليابانية البوذية وطائفة الراستفارية في جامايكا وأثيوبيا أن امبراطور اليابان وامبراطور اثيوبيا هيلا سيلاسي الهة تعبد وليس حاكما ديكتاتوريا يعظّمّ.
قبل نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 بعد ضرب الرئيس الامريكي ترومان مدينتي هيروشيما وناكازاكي بالقنبلة الذرية النووية لم يكن الشعب الياباني يرغب انهاء الحرب والاقرار بالهزيمة لولا كلمة صدرت وسبقت من امبراطور اليابان لا يحضرني اسمه انه خاطب الجيش الياباني والشعب التسليم بالهزيمة الحربية لامريكا والحلفاء.
مذهب وحدة الوجود جعل من الطبيعة مرتكز الايمان الديني في علاقة الانسان بها. وجعل من اهمية الاعجاز النظامي الجمال بالاشياء والموجودات في الطبيعة إغناء يفي ان تكرس حياتك ووجودك الارضي في الايمان بخالق هذا الاعجاز وهو ما ألغى نهائيا دور العقل في التفتيش الميتافيزيقي غير المجدي بالبحث عن إله السماء.
الطبيعة في كل تجلياتها النظامية وجمالية موجوداتها التكوينية الاعجازية لها, وقوانينها الطبيعية الفيزيائية الثابتة لها. ليست وسيلة الخالق في اثبات وجوده والاستدلال عليه باعجاز الطبيعة. فهو موجود في كل شيء كجوهر لكنه عصي على ادراكه بشيء من الطبيعة. الايمان بتشييء صفات الطبيعة الاعجازية بصبغة الخالق يقود الى تشييء الصفات الالهية التي لا يدركها العقل الانساني المحدود ولا يصلها بادراك ميتافيزيقي وهمي.
***
علي محمد اليوسف
............................
هامش
1. جان فال/ الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر /ترجمة فؤاد كامل ص 43