أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: من الحرية الى التحرر.. حدود الحرية السياسية

"يُحرم الفرد باستمرار من اتخاذ القرارات الأخلاقية فيما يتعلق بطريقته في الحياة، وبدلا من ذلك، فهو يُحكم و يُطعم ويُكسى ويُعلّم كوحدة اجتماعية ويتم منحه سكنا ملائما، ويستمتع وفقا للمعايير التي تعطي المتعة والقناعة للناس". (كارل جنك، الحضارة في تحوّل،جزء 10،1964)

كلمة حرية "freedom" يُعلن عنها اليوم بثقة، وحتى بلا مبالاة، كشيء لا يتطلب تعريفا او توصيفا. لقد نُسي الزمن الذي كان فيه الفلاسفة يحققون في معنى الحرية محاولين الإمساك بطبيعتها الوهمية . الانسان في الغرب الحديث لديه القليل من اليقينيات في حياته، احداها معرفته بانه يعرف ما تعنيه كلمة الانسان الحر. ولكن عندما يتحدث الانسان الحديث عن الحرية freedom، هو في الحقيقة يتحدث عادة عن التحرر liberty.(1)

اول فيلسوف بارز أشار الى أهمية التمييز المفاهيمي بين الحرية والتحرر كانت حنا أرندت (1906-1975). هي اعتبرت هذا التمييز هاما جدا من أجل فهم الحياة السياسية في عصرنا الحديث. ومؤخرا، تحدّثت المنظّرة السياسية الامريكية هانا بيكتين Hannah F. Piktin (1931-2023)عن الفرصة الفريدة التي امتلكها متحدثو الانجليزية ليقرروا بين الكلمتين الحرية والتحرر، حيث امتلكوا القدرة على وصف مفهومين مختلفين جدا.(السياسة، العدالة، الفعل، 2016).

وكما لاحظت بيكتن، ينطوي مفهوم التحرر على نظام من القواعد يمتلك فيه الافراد القدرة على عمل الخيارات. اما مفهوم الحرية، فهو ظرف أوسع بكثير وأعمق وأكثر خطورة، يفترض مسبقا الإعفاء التام  من أنظمة القواعد . لكن الحرية ربما تُفهم بشكل أفضل كإمكانية لتحويل ما موجود سلفا لخلق شيء ما جديد او كما تقول ارندت غير متوقع.

لذا، بينما الحديث عن "التحرر" يتخذ معناه في الاطار السياسي - الدولة، حيث تزود الافراد بمشروع لتوجيه افعالهم، فان الحديث حول الحرية غالبا ما يكون مضللا ان لم يكن هراءً في مثل هذا السياق. الحرية تُفهم كإمكانية لخلق شيء جديد وغير متوقع – شيء يعكس حقا الضمير المتفرد للفرد – وهي تُستهجن في معظم الانظمة السياسية عندما يُحتمل ان تنحرف عن البناء، ولذا هي محدودة جدا ان لم تُكبح.

يمكن القول، ان أي نوع من التنظيم الاجتماعي يتطلب منا التضحية بدرجة معينة من حريتنا الفردية لتسهيل التدفق السلس للحياة الاجتماعية. لكن اذا كان هذا المطلب لـ"التقييد الطوعي الذاتي" يحتاج شرعية ضمن المجتمع الذي يقيّم الحرية الفردية والاستقلالية، عندئذ فانه يجب الاعتراف ان نتائج التسوية تستحق التضحية، طالما ان هدف القواعد  بالنهاية هو تسهيل حياة الافراد وليس لفرض إيقاعات وأهداف الحياة. لكن التمييز بين التحرر والحرية يصبح حاسما في مجتمعات السلطة المركزية. في مثل هذه المجتمعات يكون من الخطير جدا التفكير فقط في اطار تلك الاشكال من التحرر الذي نستطيع الاستفادة منه ضمن الاطار المسموح به. نحن يجب ان لا ننسى ابدا ان شرعية الاطار السياسي هي فقط بمقدار ما يعطي منافع  تكفي لتبرير تقليص حريات الافراد التي تأتي  بدرجات مختلفة مع السلطة المركزية. بالنهاية، النظر الى الحرية كواحدة من أعلى القيم لحياة الانسان يجب ان يحفزنا لبناء أنظمة اجتماعية واقتصادية تسمح للناس للعب دور فاعل ومركزي في تقرير حياتهم، بدلا من اختزالها الى موارد تُدار او وحدات تُمنح.

حدود التحرر في الديموقراطيات الليبرالية

مهما كان الكتاب الذي نطالعه سواء كان في السوسيولوجي او في القانون سنجد دائما ان الحكومة وتنظيمها وأفعالها تشغل حيزا كبيرا فيه لدرجة تدفع للاعتقاد ان لا شيء هناك عدى الحكومة ورجال الدولة، ولكن حالما ننتقل من المواد المكتوبة الى الحياة ذاتها، وحالما نلقي نظرة على المجتمع، سنصطدم بالدور الضئيل للغاية الذي تلعبه الحكومة فيه" (بيتر كروبوتكن، إخضاع الخبز،1892).

ما يجعلنا نشعر بعدم الحرية حتى في الديمقراطية الليبرالية هو حقيقة اننا نفتقر للمقدرة على التعبير عن ضميرنا بطريقة مقنعة. نحن ليست لدينا القدرة لرؤية انعكاس مادي لقيمنا في العالم الذي حولنا. نحن نستطيع التعبير عنها بأكثر الطرق سطحية. انا استطيع الكتابة حول رؤاي واشاركها مع الناس الاخرين، وحتى انشر افكاري في الصحافة .. مع ذلك، انا اُمنع من اخذ زمام المبادرة في جعل قيمي واقعا سياسيا.

نعم، نستطيع دائما التصويت للمرشحين السياسيين لكن ذلك كيف يضمن ان رؤانا سوف تُمثل (دعك عن ان تُنفذ) بشكل صحيح؟ حتى في حالة وجود مرشح اؤمن به حقا وسيتمكن من الوصول الى الحكومة، وهو امر غير مرجح، ليس هناك ما يضمن انه سيفعل في النهاية ما صوتت له للقيام به. كل شخص يعرف هذا، وهذا يفسر لماذا الكثير من الناس متعبين من السياسة. كذلك، التصويت للسياسيين له تأثير قليل على حياة الناس المنهمكين بشكل رئيسي في العثور على عمل وتحقيق غاياتهم والعيش في بيئة صحية. السياسة في الحقيقة بعيدة عن التجارب الملموسة لمعظم الناس لدرجة انها تفشل في تحفيز أي ثقة او أمل للتغيير في معظم الناس. حتى لو حقا نفترض سلفا توفر النية الحسنة في مرشحينا، كيف يمكن لبضعة سياسيين امتلاك المعرفة والخبرة لعمل قرارات بشأن مسائل لا يعرفون الا القليل عنها ان لم يجهلوها تماما؟ كيف يمكن لوزير زراعة لم يسبق له فلاحة هكتار واحد من الارض في حياته ان يتخذ قرارات  صحيحة لمزارعين على نطاق واسع يشمل كافة البلاد وبمختلف التضاريس والمناخات؟ لماذا لا يكون الناس ذوي التجربة المباشرة بالتحديات التي يواجهونها هم منْ يتخذ  القرارات السياسية بالاضافة الى القرارات الفورية المباشرة؟

هذا الحرمان للناس هو احيانا يُبرر بادّعاء انه مالم يكن هناك توجيه مباشر من سلطة عليا، فان الناس سوف يهتمون فقط بانفسهم. لكن، طالما الحكومة تُصنع من اناس، فكيف لنا ان نثق بان مصالح الجالية التي عادة لا يعرف عنها السياسيون واحيانا لم يسمعوا ابدا بها سيؤخذ بها جديا؟ ربما شخص ما لديه اشتراك في قضية معينة وهو جزء من الجالية لديه حافز قوي لاتخاذ قرار يسمح له للحفاظ على رأسماله الاجتماعي، لأنه لو اتخذ قرارا يؤدي الى تفكك الجالية التي هو جزء منها، سيُجبر على المغادرة. لكن عندما يتخذ ممثل الناس  قرارا خاطئا ، فمنْ الذي يُلقى عليه اللوم؟ منْ يعتبر مسؤولا؟ سيتضح ذلك فقط عندما يكون للاعلام أجندة معينة.

هل يستطيع الناس بشكل أفضل التنفيذ المباشر للتغيرات لمصلحة جالياتهم؟ ان العالم الذي نعيش فيه منظّم بشكل كبير لدرجة ان تبرير "الحفاظ على النظام" يقتل أي فعل جماعي تلقائي يبرز طبيعيا بين الناس الذين يشتركون بنفس البيئة والتحديات. منْ سيسمح لبعض متعددي الجنسية للمجيء لمناطقهم وتلويث مياههم – كما حدث في فرموزا وتكساس والعديد من المدن الاخرى؟ الجواب بالتأكيد هو لا أحد يقوم بذلك وهو في كامل قواه العقلية. حتى الان، يجادل البعض بان الناس غير السياسيين لن يكونوا قادرين للتوصل الى اتفاقية عندما تكون مصالحهم في خطر.

في الحقيقة، نحن فعلا نرى الناس يأتون بشكل طبيعي مع بعضهم لحل قضايا يهتمون بها. هذا نراه في الناس الذين ينظمون انفسهم ضد العنف، او شعب كابور(في البرازيل) الذين يتعاملون مع القضايا بانفسهم لمنع تحطيم الغابات. هذه ليست حالات استثنائية، التنظيم الذاتي يحدث طبيعيا عندما يهتم الناس بشيء ما ويُسمح لهم بالتصرف في الدفاع عن مصالحهم. نزعة الناس الطبيعية للتعاون والارتباط الحر جرى توثيقها بشكل جيد من جانب كل من بيتر كروبوتكين  و ديفد غرابير وديفد وينغرو مؤخرا (فجر كل شيء: تاريخ جديد للانسانية، 2021).

الناس يميلون طبيعيا نحو الارتباط الحر بدلا من السلوك الفردي الصرف. لكن في مجتمع مثل مجتمعنا، وحيث آلاف القوانين تنظم كل مظاهر حياتنا، وهيئات الحكومة تهتم بكل شيء، كيف لحريتنا في الضمير يُعبّر عنها عمليا؟ ماذا يعني بشكل ملموس ان نكون احرارا في عالم تكون فيه الطريقة التي يتم بها تنظيم المجتمع سياسيا للمجالات الاساسية التي تشكل حياتنا هي جوهريا خارجة عن سيطرتنا ؟. هناك من يرى اننا لا نحتاج الى منظمات ضخمة، واننا ربما نثق في جارنا أكثر من ثقتنا بأي رئيس.

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) التحرر والحرية هما مفهومان مترابطان لكن هناك اختلافات هامة بينهما. التحرر يؤكد على اهمية حقوق الفرد وتقييد سلطة الحكومة، بينما مفهوم الحرية يركز كثيرا على قدرة الافراد على متابعة اهتماماتهم. عمليا، هذا يقود الى مختلف الايديولوجيات السياسية. التحرريون مثلا، يفضلون الحرية الفردية وتقييد تدخل الدولة، بينما التقدميون يركزون على الحريات الاجتماعية والاقتصادية التي تسمح للافراد بتحقيق طموحاتهم. 

 

في المثقف اليوم