أقلام فكرية
علاء حمد: نظرية التلقي.. الفهم والمفهوم
تكون عادة نظرية التلقي لدى الطرفين، المنتج والمستقبِل، الذي يستقبل المنظور الاستقرائي؛ وتكون ذات أبعاد تفكيكية وهي مسندة مع ساند، في المفهوم القصدي، وبما أنّ المفاهيم تتحوّل من خلال العلاقات التي تظهر في النصّ المنظور، فإنّ لهذه التحوّلات منافذ جديدة؛ كأن يكون فعل القراءة هو الفعل القصدي، ولكن بمفاهيم مختلفة، ويكون الإفهام المنظور في فعل القراءة من المتغيّرات النصّية، حيث يكون للغة شيفرة خاصة وهي تحمل دلائل النصّ الشعري بداية من أوّل وحدة لغوية، ولكن الذي يجري عادة في المنظور النصّي، أنّ البداية تعتمد لغة الاختلاف، وهذا المفهوم وحده يقودنا إلى مفاهيم مشفرة يكون للمرء المتلقي البحث عنها من خلال الرمزية أو التفكيكية التي لها الأثر والفعّالية في المنظور النصّي، عند القراءة أو عند التفكيك.
يمرّ النصّ من خلال الإمكانية الذاتية بتحويل إنتاجية المعنى، كأن يتجاوز المؤلف الإمكانية البسيطة ويتجه إلى إمكانية التأويل والتشفير، وهذا ما يسمى بـ "ترخنة" النصّ، أي يعطي للنصّ إعادة إنتاج المعنى وبنائه (فالنصّ ذاته لا يقدم إلا "مظاهر خطاطية1" يمكن من خلالها أن ينتج الموضوع الجمالي للنص بينما يحدث الإنتاج "الفعلي" من خلال فعل التحقق. ومن هنا من الممكن أن نستخلص إنّ للعمل الأدبي قطبين، قد نسميهما: القطب الفنّي والقطب الجمالي، الأوّل هو نصّ المؤلف، والثاني هو التحقق الذي ينجزه القارئ."2").
ويكون للفهم والإفهام بعض النقاط المعتمدة ضمن نظرية التلقي التي تمتلك قوّة الاستقبال والتحوّل:
التلقي النصّي: وهو عملية اشتراك المتلقي في النصّ، لذلك يحتاج إلى من أنتج النصّ، وفي هذه الحالة لا نعلن عن موت المؤلف، بالقدر ما نعلن عن يقظته التجدّدية، لأنّ علاقة النصّ والمرسِل والمرسَل إليه، علاقة ديمومة نصّية، تختفي خلفها بعض المفاهيم غير الظاهرة، ومنها مثلا: مفهوم الرمزية في حالات التشفير والغموض، موضوع تأطير النصّ وهدف الرسالة والمرسَل إليه، وقد يكون هذا الهدف غائباً، حيث المتلقي حاضر لمعرفة هذا الغياب.
جمالية التلقي الحجاجية: يكون للعنصر الجمالي (الإستطيقا) السكن الأول في المنظور الحِجاجي الإقناعي، حيث للتأثيرية الحاجة الملحّة بين الجمل (الشعرية) أو النصّ المصغّر، والذي يُعدّ نشأة سوسيولوجية فنّية؛ منذ لحظة بلوغ المعرفة النصّية للمعرفة، والتي تؤدّي إلى تغييرات جمالية ذات ارتباطات نفسية ونصّية وتموضع سياقي.
تتجه الجمالية وجمالية التلقي إلى ثلاثة عناصر، المؤلف والنصّ والجمهور، فإذا أخذنا قبل كلّ شيء المؤلف، فإنّه المنتج الوحيد للنصّ الذي يوجهه للآخرين، وفي الوقت نفسه يكون النصّ؛ إقراراً تأويلياً من خلال تحوّلات المعاني إلى خاصية تأويلية، وذلك لكي يصيب النصّ المساحة الأكبر في الدائرة الدلالية، ويبعث فيه روح الرغبة من خلال العجائبية وعناصر الدهشة التي تتدخّل في التكوين النصّي الجمالي.
أمّا المتلقي "القارئ" فهو أيقونة تفاعلية تشترك في التكوين النصّي، لأنّ المحتوى الذي ينتظره يشكّل جزءاً تفاعلياً من حياته الحاضرة، وتقليده التاريخي الآني، وبذلك من الممكن أن يمتدّ جسر تواصلي بين المؤلف والنصّ والمتلقي، عبر مفاهيم مشتركة تخصّ العناصر الثلاثة. (تعيد جمالية التلقي إلى الدور الفعّال الذي يخصّ القارئ كامل قيمته في التفعيل التعاقبي لمعنى الأعمال عبر التاريخ. ومن جهة أخرى، لا ينبغي خلط جمالية التلقي بسوسيولوجية الجمهور التاريخية التي ينحصر اهتمامها في تحوّلات ذوقه ومصالحه أو أيديولوجياته. إنّ جمالية التلقي، بمعارضتها لهذين المنهجين اللذين يختزلان التاريخ الأدبي إلى علاقات سببية أحادية الجانب، تتشبث بتصوّر جدلي: فهي ترى أنّ تاريخ تأويلات عمل فنّي إلا تبادل تجارب أو، بتعبير آخر، تحاور وترابط بين مجموعة من الأسئلة والأجوبة "3").
فعل الفهم والبنية النصّية: ويتم جذب النصّ عبر هذا المنظور من جانبين؛ الجانب الفنّي، والجانب الإدراكي؛ حيث يُعدّ النصّ تحقيقاً منجزاً للفعل الجمالي. (إنّ الكلمات والأرقام والصور والأشياء تُسهم هي الأخرى في التأثير بتوسّطها بين العمل الفنّي وكيفية النظر إلى هذا العمل. مرّة أخرى وفي الوقت الذي تثرى فيه السوسيولوجيا التي تعارض التجربة الفورية التي تبدو أنّها تضعنا في علاقة مباشرة بلوحة فنّية أو بنصّ أدبي أو بقطعةٍ موسيقيةٍ فإنّها تعارضها وتنقضها "4").
ليس من مهمّة متلقي النصّ أن يملأ الفراغات الواصلة في المنظور النصّي، بقدر ما تكون الكفاءة الممكنة لديه وخصوصاً القيام على تنظيم البنية الدلالية للنصّ، أو على أقل تقدير أن يكون مندمجاً كحالة تعلقية بينهما، ومن هنا، ستكون المتعلقات الذاتية، متعلقات نصّية لدى المتلقي.
انبعاث القولة:
عندما نكون مع الوحدات اللغوية، فانبعاث الوحدة اللغوية تشكّل المطلع الأوّل في منظور القول، وليس للتفكّرية هنا مجال لذكرها، وذلك لأنّ البداية التي نعتمدها نقول فيها أنّنا تجاوزنا التفكّر النصّي، وعلى أقلّ تقدير يعرف الباث من أيّ منطقة كتابية قد انطلق.
يبدأ النصّ من أصغر وحدة لغوية، وهي الجملة المكثفة والتي أراد منها أن تكون القولة وانطلاقتها، ومن هنا تظهر بعض الامتدادات القولية، ليستقر الباث في امتداد قولي يفسّر معنى السياق، فالمفردة المعجمية قد تحمل عدة معاني في القاموس اللغوي، ولكن عندما تكون بعض العناصر قد تم إنجازها، مثلا: تعدّد الدلالات، المعنى السياقي والسياق اللغوي، وفي هذه الحالة نحصل على تنسيق الوحدة اللغوية، وهي على علاقة تامّة مع انبعاث القولة في المعنى القولي الأوّل.
إذا ما تخطينا النظام الجزئي للنصّ، ونظرنا إليه كإطار حركي متعلق مع نصوصٍ أخرى، فسوف نكون بمفاهيم المعاني التي تكوّن إطارها ضمن القولة والقولة الفلسفية، وهذا يدلّنا على موضوع شديد القول، كي يبدأ النصّ بنظام القولة والذي يكون على علاقة مع القيمة اللغوية ومفاهيم المعاني. وكلّ انبعاث قولي، يكون انبعاثاً لسانياً، وذلك للحفاظ على القيمة اللغوية من جهة، وقيمة الوحدة القولية من جهة أخرى، ولكي نكون أكثر تضامنا مع القيمة اللغوية وقيمة المعاني، نكون مع:
في العمل الدلالي:
تأخذ الجملة الشكل الافتراضي الحامل للمعاني، ولكن عندما تتعدّد أنواع الدلالات، يكون الباث قد تجاوز هذا الشكل الافتراضي، فالجملة في النصّ الشعري، تعتمد العجائبية والدهشة والغرائبية، وفي النصّ القصصي أو الروائي، تعتمد السردية، ومن الممكن جدا تغذية النصّ بالأسلوب اللغوي الشعري، وفي الوقت نفسه، لا تخرج الجمل عن المعاني والتأويلات؛ إذن شكل الدرس في هذه الحالة يختلف؛ بينما نقول: كتب سامر الدرس، فهنا نتوقف على شكل افتراضي، بينما في درس المعنى، ستكون الجملة أو القطعة، حاملة للمعاني وهي قابلة للتأويل، مثلا؛ تحضر الرمزية في الشكل الدلالي، أو في المنظور ما وراء الواقع.
في المنظور التداولي:
تحلّ القولة محلّ الجملة في الحالة التداولية وذلك لأنّ المعنى الأساسي للجملة يرجع إلى القولة، فالمستوى الدلالي هو علاقة المفردة بالأشياء، وكلّ شيء يتحوّل من خلال الفعل الدلالي، والذي يدخل ويتداخل في الجملة أو العبارة، لذلك تكون الممكنات هي التي تتحوّل، وهناك الإجراء الدلالي أيضاً على مستوى الإحالة. والقولة هي (نتاج معنى الجملة والسياق... بتعبير جون لاينز- في كتاب: اللغة والمعنى والسياق).
الانبعاث المعرفي في القول:
من أولى المعرفية النصّية في القول خلفية التأويل، أو المعرفة النصية في الانسجام القولي؛ وإذا تطرقنا إلى المعرفة الخلفية، فسوف نكون في منطقة التناص، وفي هذه الحالة نكون قد تجاوزنا الانبعاثات القولية في النصّية، ولكن في الوقت نفسه، إذا أخذنا القول على أنّه فعل، فسوف يأخذنا القول إلى (أوستين وترجماته) والذي أكّد على فكرة التمييز بين الفعل الإنجازي والفعل التقريري؛ ومن خلال الفعل الحركي، تبدأ الفروقات الإنجازية، وكلّ فعل تقريري سيكون مصير النصّ المباشرة في لغته العادية، أي سيبتعد المؤلف عن لغة الكتابة التي ينتمي النصّ إليها، ومنها الاختلاف اللغوي والانزياح الذي يزورنا باتجاهين، الانزياح الدلالي والانزياح التركيبي، وكذلك لغة النصّ ومنها؛ الشعرية والسردية والقصصية وغير ذلك.
يخضع القول إلى عدة حالات، ومنها حالة القول المعرفي الشفوي، وحالة القول المعرفي الكتابي، وإذا استنتجنا حالة القول كحالة من الديمومة فيصبح حالة من الفهم والمعنى، فنقول في هذه الحالة، القول الآني؛ وهو الحدث الآني الذي يخصّ الكتابة، والقول المتقدم، وهو ما يقدمه مستقبلا من كتابة آنية، وفي الحالتين، يكون البناء النصّي معتمداً على القول غير المقروء، وهو القول التفكّري الذي يكون في منظوره التجريبي عندما يرسم الباث أوّل قول لغوي، والذي يسمّى بالوحدة اللغوية.
النسق القولي:
هو توفير المساحة الواسعة، المساحة الكونية للنسق القولي، ومنه القول الشفاهي والقول المكتوب، وعندما نكون في هذا المنظور فسوف ندرج معه نسق الحِجاج (الحِجاج مثل السرد، هو كلّ يساهم في بنائه شكل الانتظام الحِجاجي. إنّ الحِجاج هو حاصل نصّي عن توليف بين مكوّنات مختلفة تتعلّق بمقام ذي هدف إقناعيّ. فهذا النصّ كلّه أو بعضه سيكون بالإمكان ظهوره في شكل حواريّ "حِجاج حواريّ" مكتوب أو شفوي "حِجاج أحادي الحوار" وفي هذا الإطار ستسخّر تعابير من قبيل: "أنشئ محاجة قوية" و "اعتمد حججا قوية". " 5 ").
إنّ من أهمّ الاتجاهات التي يرسمها النسق القولي، هو التأثير في المتلقي، أو الطرف الآخر الذي ينتظر استجابة القول لأفكاره، وهنا، يكون قد اندمجت أفكاره مع القول الجديد الذي خاطبه، والذي يكون إمّا على شكل نصّ شعري أو رواية أو قصة قصيرة، أو من الأقوال المأثورة والتي يتم نقلها من الأوّلين.
***
كتابة: علاء حمد – العراق
..................
1-Roman Ingarden, The Iiterary Work of Art transl. Grabowicz (Evanston, 1973) ، pp. 276 FF.
2- فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب – ص 12 – فولفغانغ إيزر – ترجمة: د. حميد الحمداني. د. الجلالي الكدية.
3- جمالية التلقي، من أجل تأويل جديد للنصّ الأدبي – الفصل الثالث: جمالية التلقي والتواصل الأدبي – ص 110 – هانس روبيرت ياوس – ترجمة وتقديم: د. رشيد بنحدو
4- سوسيولوجيا الفن – الكلمات والأشياء – ص 119 – ناتالي إينيك – ترجمة: حسين جواد قبيسي..
5- الحِجاج في النظرية والأسلوب – ص 16 – 17 – باتريك شارودو – ترجمة: د. أحمد الودرني