أقلام ثقافية

علي الطائي: حواريات الطب والأدب (5): الغربة في وطن الأدب

حدثني صديقي، وهو من عقول الأدب الراجحة وأقلامه البارعة، فقال:
"يا صاح، إنَّ أهل الأدب في هذا الزمان غرباءٌ في أوطانهم، وإن العراق -وهو منارة الحرف ومهد الفكر- شاهدٌ على ذلك. فهل سمعتَ بمأساة قلمٍ نزف دون أن يُجبَرَ كسرُه، أو بكاتبٍ هام في أرضه دون أن تُرفع له راية؟"
قلتُ: "هاتِ ما عندك، فإنك قد أثرتَ في قلبي فضولاً، وألهبتَ في عقلي شوقاً لمعرفة هذا الحديث."
فقال:
"يا صاح، أليس العراق هو الذي تفجرت من أرضه ينابيع الفكر، وتفتقت في سمائه نجوم العلم والأدب؟ لكن العجب كل العجب أن يُرى الأدباء في هذه الأيام غرباء في أرضهم. فبدل أن يُحملوا على الأكتاف، تراهم يغرقون في زحام الحياة، ويُهمَّشون كما تُهمَّش الورقة في بحرٍ من الأوراق البالية."
ثم أردف قائلاً:
"ألم ترَ كيف أنَّ الأدب في العراق صار كالغريب الذي ينادي في صحراء لا مجيب فيها؟ ترى الشاعر يسكب روحه في قصيدة، فتُقرأ همساً إن قُرئت، وترى الكاتب ينحت أفكاره من صخر، فلا يلقى إلا التجاهل أو الإنكار. وكأنما صار الأدب وصاحبه عبئاً في وطنه، بعد أن كان تاجاً يُوضع على جبينه."
فقلت: "وما السبب يا صاح؟ أهو زهد الناس في الأدب، أم انشغالهم بأمور الحياة؟"
قال:
"بل الأمر أدهى وأمر. فقد صار الأدب غريباً لأن من بيده الأمر لم يعد يرى في الحرف نوراً، بل رآه وهماً. ولو قدَّروا مكانة الأدب، لكان العراق اليوم كما كان بالأمس، منارة الشرق ومأوى الفكر. ولكنَّهم قد تركوا الكلمة تموت في أفواه قائلها، وأهملوا الكتاب حتى علاه الغبار."
فقلت: "وهل من أملٍ يا صاح؟"
قال:
"الأمل في القليل الذين يحملون مشعل الأدب كمن يحمل شمعةً في ظلامٍ دامس. الأمل في من يؤمن أن الحرف أقوى من السيف، وأن الثقافة مفتاح النجاة. فإن عاد العراق إلى أدبه، عاد المجد إليه، وإن بقي غريباً عن أهله، بقي في غربته أسير الظلام.
وما زال يفيض بحديثه، كأنه السحاب يمطر بعد طول جدب، وقال:
"يا صاحبي، ألم ترَ كيف صار الأدب في بلدي كطائرٍ مكبَّلٍ لا جناح له؟ تُقصّ أجنحته وهو بعد لم يعلُ، ويُقمع صوته قبل أن يُسمع. ترى الكاتب يَسهر على مدادِه، يُضيء لياليه بفكره، فإذا أشرقت شمس يومه، وجد حروفه طيفاً عابراً لا يلتفت إليه أحد. والشاعر، ذلك الذي كان صوته يهزّ العروش، صار لحنه نغماً خافتاً في ريحٍ عاتية."
قلت له: "ألا ترى أن هذه الغربة قديمٌ عهدها؟ ألم يكن المتنبي نفسه غريباً في وطنه، يجوب الآفاق طلباً لمن يسمعه؟"
فقال:
"بلى، ولكن غربته كانت كريمة، يتغنّى بها التاريخ، ويُنصفها الزمان. أمّا غربتنا اليوم فهي ذلٌّ مقيم، وعتمةٌ بلا أفق. كان المتنبي غريباً وهو سيد كلمته، أمّا أديب هذا الزمان فهو غريبٌ مهزوم، كأنه يعتذر عن حرفه، ويخجل من قلمه. فيا حسرتاه على الأدب الذي كان نبراس الأمم، ويا أسفاه على وطنٍ أهمل ثروته العظمى: الكلمة!"
فقلت: "وما عسى الأدباء فاعلين في هذا الزمان الذي انقلبت فيه الموازين؟"
قال:
"الأدباء يا صاح، هم كالنخل في العراق، قد تُقصّ سعفاتهم، لكنهم باقون، راسخون بجذورهم في أعماق الأرض.
وإن تنكّر لهم أهل زمانهم، فإن التاريخ لا يُخطئ بوصلته.
الكلمة الحقّة لا تموت، وإن طال بها الأجل،
والحرف الصادق يظلُّ حيّاً، وإن اجتمع أهل الأرض على وأده.
فليكتبوا يا صاح، وليُشعلوا ظلام لياليهم بنور أقلامهم.
لعلّ في المستقبل بصيص أمل، ولعلّ طفلاً يتعلم من دفاترهم، فيعيد للحرف بهاءه، وللأدب مجده."
ودّعني وقد ترك في قلبي أثراً عميقاً، وفي عقلي فكرَةً عظيمة: أن الأدب لا يغترب حقاً، إلا حين يصمت أهله، وأن العراق – وإن جفا الأدبَ في زمانٍ – سيظل حاضنة الحرف ومنارة البيان، ولو بعد حين.
***
بقلم: د. علي الطائي

في المثقف اليوم