تجديد وتنوير
فن الجدل وبناء العقل الناقد
نبدأ حديثا بطرح سؤال وسنحاول أن نجيب عليه، هذا السؤال هو، هل الفلسفة جدال؟!!
للإجابة علي هذا السؤال ينبغي علينا أن نقدم تعريفا للجدل: فالجدل هو فن المحاورة وكيفية استنباط الافكار من خلال الدخول في حوار بناء مع الآخر أيا كان موضوع المحاورة، فقد تكون المحاورة فلسفية مع أهل الفلسفة ومحبيها، وقد يكون الحوار عقائدي حول الاعتقاد والمقارنة والمقاربة بين الأديان مثلاً - بما يسمي بالمناظرات- وقد يكون الحوار ثقافي بين الأدباء، أو النثار، أو الشعراء- كما يحدث في الصالونات الثقافية -من خلال عرض قصة قصيرة أو ديوان شعري، أو تحليل كتاب حتي-وقد يكون الحوار علي مستوي جماهيري عامي - كأن يتحاور مجموعة من عوام الناس مع بعضهم البعض حول مشكلة من المشكلات العامة - كمشكلة البطالة مثلا.
وقد يكون الحوار علي مستوي محدوداً، أي عن طريق عقد ندوة محدودة العدد، يلقي المتحاور بكلمته أو يطرح فكرته، ثم تدور بينه وبين الحضور نقاشات كثيرة.
وقد يكون الحوار علي مستوي واسع كما يحدث في الملتقيات والمؤتمرات الثقافية كملتقي الشباب الذي يطرح قضايا الشباب ويناقش همومهم، ويدور الحوار بطريقة منتظمة عن طريق عرض الرأي وقبول الرأي الآخر - وقد يكون علي مستوي أسري بين الزوج وزوجته، أو بين الزوج وابنائه.
وهذا ما يمكننا ان نطلق - إن جاز لنا-نطلق عليه الجدل البناء الذي يعتمد علي فرضيات ومقدمات تخضع للمناقشة من أجل الوصول الي نتائج تفيدنا في واقعنا المعيش علي كافة الاصعدة والمستويات، سواء السياسية، أو الاقتصادية، أو العلمية، والثقافية، والاجتماعية، وهذا بدوره يؤدي إلي نهضة شاملة نحلم ونصبو إليها دوماً.
إذن الجدل البناء المنهجي هو الذي يقودنا إلي الوصول إلي نتائج من الممكن من خلال مناقشتها مناقشة موضوعية نصل إلي غاية مرامنا، فالجدل هنا المقصود به الحوار، وهذا لا مندوحة عنه فجميعنا يقبله دون إفراط أو تفريط، وهذا من وجهة نظري هو الجدال المحمود.
أما الجدل المرذول فهو الجدل المذهبي الذي يقوم علي اللاوعي، واللامبالاة، والتعصب الأعمى البغيض لفكرة ما، أو لمذهب ديني ما، كما رأينا ذلك عند بعض "الشيعة" وغلاتهم يدخلون في مناقشات ومحاورات مذهبية لا طائل من وراءها، اللهم إلا إثارة الفتنة بين الناس ولا تخرج من حواراتهم إلا بالتعصب الأعمى، وكذلك ما رأيناه عند "الخوارج" في حوارهم مع "واصل بن عطاء" عندما مر علي ديارهم -وكان الذي يمر علي ديارهم وليس علي شاكلتهم ينكلوا به بعد دخولهم في حوار معه ويسألونه عن السيدة "عائشة" والصحابة وإذا ثبت أنه يدافع عنهم ينكلون به ويقتلوه، أما المشرك المستجير يتركوه، بل ويظلوا معه حتي يبلغ مأمنه، وهذا ما فعله "واصل بن عطاء" معهم عندما استوقفوه قال لصحبه دعونا أتحدث أنا معهم، قال لهم مشركون مستجيرون فأجيرونا، إذن هذا جدل اعتمد علي المغالطات المنطقية؛ بمعني أن "واصلاً" إدعي أنه ليس من أهل التوحيد، فتركوه يمر، وأهل القبلة الذين يحبون آل البيت والصحابة ينكل بهم.
هذا هو الجدال الهدام الذي لا يؤدي الي الوصول الي الحقيقة، وهذا هو المنهي عنه ترك الجدال، ولو أنت علي حق؛ وقس علي ذلك ما يحدث الآن من جدالات قد تستمر طويلا بين أنصار الجماعات المتطرفة فكرياً التي ترمي وتتهم الناس بالكفر، بل ويصل بهم المدي إلي استباحة دم من يناقشهم بعد اتهامه بالكفر، لأنه لم يسايرهم ويتماشي مع مذهبهم كالجماعات التكفيرية التي زعموا أنهم حماة الدين وحراس العقيدة وأنك إذا دخلت معهم في مناظرة دقيقة وموضوعية تعتمد علي الفكر الحر المستنير، تجد هؤلاء يلوون عنق النصوص الدينية من أجل إثبات وجهة نظرهم وتبديع الآخر
وهؤلاء في الحقيقة لا علم لهم ولا حتي فهم دقيق لفحوي النصوص، اللهم إلا اعتمادهم علي قراءة بعض الكتب المسمومة التي تدعوا إلي التطرف، مثل هؤلاء لا طائل من وراء مناقشتهم اللهم إلا النصب والتعب ومضيعة الوقت.
وكما يحدث بين الشباب وخصوصاً شباب الجامعات من سجالات ومجادلات في محاضراتهم مع أساتذتهم كأن يقوم الاستاذ بإلقاء محاضرته، وفجأة يقاطعه شباب أو فتاة بسؤال لا يمت من قريب ولا من بعيد للموضوع محل المحاضرة أو حتي يكون له علاقة لكن لا يناقش مناقشة موضوعية بناءة وعليه أن يترك الجدال فوراً، فهذا الجدل لا ينتج عنه إلا جدلاً وقد يثير بلبلة في المحاضرة وتشويش فكري لكل الحضور، فهل نتركه يستمر ام نوقفه. ؟!
أري ان نوقفه فوراً، فهذا هو الجدل من أجل الجدل، أو أن شئت قل جدل لا عائد ولا طائل من وراءه، إلا الظهور أمام الحضور وإثبات الذات - وليس هذا اثبات للذات، بل هو إهدار للذات، وقد يتهمك الحضور بالغباء، أو بلفظ مهذب بالخواء الفكري والعبث والفوضى. وهذا ما لا نرضاه لشبابنا لماذا؟.. لأننا نهذب العقول ونهذب الأفكار حتي نستخلص منتج فكري راق يتناسب ويتماشى مع عصرنا الذي نحياه.
إذا نظرنا وأمعنا النظر في تاريخ الجدل ؛ فمنذ بدء الخليقة حدث جدال طويل بين الاخوين "هابيل وقابيل" وانتهي الأمر إلي أن يقتل الأخ أخاه.
وكذلك إذا استعرضنا تاريخ الفكر الفلسفي سنجد "سقراط" مارس الجدل مع "السوفسطائية" مستخدما منهجيته المشهورة التهكم والتوليد من أجل كشف أغاليط السوفسطائية تنوير عقول الشباب الأثيني، وكذلك استخدم "أفلاطون" جدلية العلاقة بين عالم المثل وعالم المحسوس من أجل تطبيق مثال الحق والخير والجمال علي الواقع، وأيضاً أرسطو استخدم الجدل مع راس من رؤوس السفسطائية؛ ألا وهو " أقراطليوس" الذي إدعي مثلما فعل "جورجياس" أنه لا يوجد شئ حقيقي علي الاطلاق ودخل معه "أرسطو" في حوار صامت من جانب هذا الرجل، ناطق من جانب أرسطو واكتفي الأول بتحريك إصبعه منكراً أن يكون هناك شئ حقيقي بإشارة لا، ورد أرسطو عليه إنك مجرد أن تحرك اصبعك مشيرا به دليل علي أنك موجود.
كذلك استخدم الإمام "أبو حامد الغزالي" الجدل مع بعض فلاسفة الاسلام في الثلاثة قضايا المشهورة إنكار البعث، قدم العالم، وعلم الله بالكليات، ليس هذا وحسب بل وتكفيره اياهم وهذا ما ارفضه رفضا تاما فليس ثم أحد يمتلك سلاح التكفير ولا ينبغي أن نكفر أحدا من أهل القبلة مهما اختلفنا معه في الرأي.
أيضا استخدم "هيجل" الجدل في الوصول إلي المطلق (الله)، وكذلك استخدمه "اسبينوزا" في نقده لفكرة وحدة الوجود عند "محي الدين ابن عربي"، وأيضا استخدمه "كانط" في حديثه عن جدلية العلاقة بين المعرفة القبلية والمعرفة البعدية وكيفية الوصول الي عالم الأشياء في ذاتها والتي من خلالها نصل معرفة الحق الاول.
الإنسان بطبيعته يميل إلي النقاش وإلي الجدال، حقا وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً، لكن لا بد وأن حقاً يبغي الوصول الحق الذي يطمئن معه العقل وتهدأ به النفس عليه أن يناقش مناقشات موضوعية طارحا خلفه ما يدفعه دفعا إلي العود القهقري إلي الخلف نابذا التطرف الفكري والنزعات العنصرية التي تجعله يجنح جنوحا إلي جدل عقيم لا يسمن ولا يغني من جوع، جدلا أجوف يميل إلي السفسطة وقلب الحقائق ومجانبة الصواب، وقد ظهر ذلك واضحا جليا من خلال حوارات السفسطائية قديما، وكذلك من شبهات بعض المستشرقين وافتراءاتهم علي الحضارة الشرقية والحضارة الاسلامية والعربية علي وجه الخصوص وجدلهم العقيم الذي إن دل علي فإنما يدل علي فقدان الأرضية الحقيقية لبناء فكر صائب يستفيد منه الجميع فكر تحيا به الانسانية وتسعد به وتهنأ، والامثلة علي ذلك كثير وجورج سل ليس منا بعيد في جدله حول القرآن الكريم وانه من صنع البشر ألفه محمد، وكذلك حول جدليته حول ترجمة القرآن وأن احدي آياته المحكمة نزلت لأهل مكة وهي قول الله تعالي (يا ايها الناس اني رسول الله اليكم جميعا) نقول لهذا ولأمثاله هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، نحاججكم ونقارعكم ونجادلكم الرأي بالرأي والحجة بالحجة ونقارعكم الدليل بالدليل، فلا يرد علي الجدل العقيم بجدل عقيم مثله بل نرد بمنطق العقل القائم علي مقدمات نستخلص من خلالها نتائج تفيد واقعنا المعيش.
الأستاذ الدكتور عادل خلف عبد العزيز
رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة حلوان.