تكريمات

المثقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين (12)

faraj yaseenخاص بالمثقف:الحلقة الثانية عشرة من الحوار المفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين لمناسبة تكريمه، وفيها يجيب على اسئلة الأستاذين: علي العبودي، وكفاح الآلوسي.

الأديب علي العبودي، قاص / العراق

س118: علي العبودي: كما هو معروف نجد أن العصر هو عصر الرواية لا عصر الشعر، فلماذا لا تأخذ الرواية مداها من الاهتمام في مهرجانات عديدة تقام في زماننا هذا؟

ج118: فرج ياسين: لقد أجبت ـ سابقاً ـ عن سؤال الرواية في الأدب العربي، غير أنني لم أتعرّض إلى قضية المؤتمرات وهل كانت تعقد على نحو يكافئ أهمية الرواية، وحقيقة صعودها وتألقها بوصفها نوعاً أدبيّاً مهماً في جنس القصّة، لأنني كُنت أظن أن هذا الأمر لا يُخفى على أحد ... فالرواية تحظى بحضور لافت في الفعاليات الأدبيّة من خلال الأوساط الجامعيّة أو اتحادات الأدباء والكتاب، لأن الكثير من محاور هذه الفعاليات تخصص للرواية، وقسم منها مُكرّس لها تماما، لكنك ربما تقصد أن صوت الرواية عندنا إعلاميّاً يتخافت ويتضاءل أمام سطوة الشعر التقليدية، عبر انعقاد مهرجانات عدّة أصبحت ذات تقليد سنوي، كمهرجان المربد في بغداد والبصرة وأبي تمام في الموصل والمتنبي في واسط، فضلاً على مهرجانات الجواهري ونازك الملائكة وغيرهما، في حين أنك لم تشهد ـ ولا أنا ـ مثل هذا الحشد الإعلامي للرواية ورموزها في العراق .

س119: علي العبودي: القصة بكل تفاصيلها ابداع له تميّزه، وإبداعها أخذ شكلاً آخر أقرب ما يكون للشعر . فماذا يقول القاص فرج ياسين في ظاهرة تزاوج الشعر مع القصة وبالعكس .

ج119: فرج ياسين: منذ بدء حركة التجريب والتجديد في الشعر والقصّة معاً ظهر هذا النوع من التلاقح بين الأجناس، وكان هذا موجوداً فعلاً، منذ زمن طويل، ولك أن تذهب إلى أشعار الجاهليين والإسلاميين في العصور المتعاقبة حتى العصر الحديث ، لكي تجد حضور السرد القصصي في الشعر، كما أدعوك إلى قراءة القصص العربية المعروفة بقصص السيرة الشعبيّة، حيث يكون الشعر حاضراً فيها، أما المقامات التي يعدّها البعض نواة القصة العربيّة القصيرة، فإنها مُطرَّزة بالمقطعات الشعرية أو القصائد ، ولكننا في الأدب المعاصر نتحدث عن أنواع من التداخل والتنافذ والتناص، ناهيك عن الأساليب . إذ إنك قد تجد أسلوب الشعر في القصّة . أو أسلوب القصّة في الشعر . وكذلك الأمر مع الفنون الأخرى . كالرسم والموسيقى والمسرح وتقاناتها، كالإيقاع والكولاج والمشهديّة والهارموني والبوليفينيّة وغير ذلك من التقانات المشتركة .

س120: علي العبودي: لو وجد القاص فرج ياسين نفسه أمام شباب لا يفقهون كتابة القصّة رغم أنهم نشروا الكثير من المجموعات القصصّية، فماذا يقول لهم كي يكتسبوا سمة الإبداع وتصحيح ما قاموا به .

ج120: فرج ياسين: مع أنني لم التقِ بهذا الصنف من الكتاب، ولم أتوقع أن أصادف شخصاً يكتب (عدداً من المجاميع) من دون أن يعرف ـ هو قبل غيره ـ بأن موهبته محددة وأدواته قاصرة، وعليه أن يتوقف ـ في الأقل ـ لكي يراجع مسيرته .. ولكنني أفترض أن البعض قد يتشبّث بحلم الكتابة ويزيّن له هذا الحلم ما ليس فيه حتى يستقر في روعه أنه قادر على اشياع هذا الميل ولكن من دون جدوى . أما إذا كُنتُ مطالباً بأن أقول شيئاً لهؤلاء فإن قولي سوف يتوخى الدعوة إلى مراجعة النفس على نحو دقيق، لأن بعض القدرات تبرز لدى الإنسان على نحو خاطيء، أي أنه يعتقد بتفوّقه في مجال معيّن في حين أنه لو استطاع تقويم قدراته وبرمجتها لدلّه ذلك إلى المجال الذي تليق به هذهِ القدرات .. وقد عرفت عددا من الأشخاص المولعين بالكتابة ولعاً مَرَضيّاً، ولكنّ الحظ لم يحالفهم في حين أنهم ناجحون في مجالات أخرى ..

س121: علي العبودي: هل يكتب فرج ياسين لنفسه أم للمتلقي؟

ج121: فرج ياسين: لا يصمد أمام مشروع الكتابة القصصيّة أو الأدبيّة مثل هذا السؤال، لأنه ينطوي على تبسيط مُخِلْ، فإذا كُنتُ أكتب لنفسي فلماذا أتجشّم هذا العناء؟ وإذا كُنتُ أكتب للمتلقي فما أدراني بمزاجهِ ومجسّات التلقي لديه، وكيف سأرضي مُتلقيّاً مُتصوراً و مُتعدداً ومتشظيّاً وهلامياً، يتعذر إدراجه ضمن رؤية كليّة واحدة، أنا أكتب لأنني (أرى) ما لا يراه غيري فأبهر به، وأجدّ في إخراجه ، لأنني إن لم أفعل ذلك سوف يحال إلى خزّان المكبوتات العَكِر في أعماقي، وينحرف بي إلى حالة من الإحباط والتراجع والشلل .. لكنني على طريق (الرؤيّة) أجرّد مُتلقيّاً نوعيّاً خاصاً جداً، ينبعث من سورة التأزّم الإبداعيّة لا يقوم بواجب الرقابة حسب، بل ينهض بمهمات أخرى، ذات صلة حيويّة بالتنظيم والترتيب واستدعاء المكامن الغُفل وشحذ طاقات اللغّة، وتهيئة كل مستلزمات الصوت الخاص .

س122: علي العبودي: ما هي مقومات المتلقي للقصّة، أي كيف أجعله يقرأ قصص فرج ياسين؟

ج122: فرج ياسين: سأضرب لك مثلاً واقعيّاً وافترض أنه قادرُ على الإحاطة بجزئيات هذا السؤال: كلّفتُ هذا العام طالبة من طالباتي بكتابة بحث تخرّج عن رواية (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ ولم تكن الطالبة قد قرأت قبل ذلك رواية أو قصّة لأي كاتب أبداً، وحين بدأت القراءة والمتابعة والبحث، جعلتُ أراقب تجربتها وأرسم مخططاً لنموّ ميولها واطرّاد هذا النمو، لقد كانت الطالبة تتعلم ليس منهج البحث وموجهاته ووسائله بل محَبة فن القصّة أيضاً، وأصبحت مولعة بقراءة القصص والروايات، وقد سمعتها وهي تحث زميلاتها للاطلاع على عالم نجيب محفوظ، وعدم حرمان أنفسهم من لذّة الأدب القصصي وجمالياته .

كل ما كان ينقص هذهِ الطالبة هو الشروع بالخطوة الأولى، وحين بدأتها حصلت على أول وأهم مقومات التلقي . أمّا كيف أجعل شخصاً ما يقرأ قصصي فليس أمامي الآ أن أوصيّه بأن يخطو هذهِ الخطوة الصغيرة، وأن يشرع بقراءة القصص .

وأشكرك جزيل الشكر يا عزيزي

الاستاذ كفاح الآلوسي، كاتب / العراق

س123: كفاح الآلوسي: هل تعتقد أن أدبَك أدبٌ جماهيري أم أدبٌ نخبوي؟ وهل تعتقد بأن القرّاء تعاطفوا معه، ولاسيما وأن البعض شكا من صعوبة التعاطي مع قصصك؟

ج123: فرج ياسين: بعد أن أنتهي من كتابة القصّة، يساورني ـ أحياناً ـ افتراض قارئ ما ومحاورته ومن بين إحدى التوصّلات التي تستوقفني هو سؤال: ماذا تريد القصّة ولمن تريد أن ترحّل خطابها؟ غير أنني أفشل في الإجابة على هذا السؤال . لسبب أنني أراها تخاطب الذائقة الإنسانيّة المطلقة، ومَرَدّ ذلك يعود إلى أنها لم تخضع إلى تصميم أو مخطط مُسبق يكرّسها للجماهير أو للنخبّة . ولعل سبب الشكوى من صعوبة التعاطي مع قصصي يمت بصلة إلى هذا التخريج لأن فيّه دلالة على أنني أعمل في محترفي الخاص وفي منطقتي المحميّة جيداً، على أنني استنكر هذهِ التهمّة لأنها تخص القرّاء أنفسهم، إذ هم الذين لم يمتلكوا الأدوات اللازمة للقراءة، ولست بحاجة إلى أنْ أعيد عليك مقولة أبي تمام المشهورة (وأنت لماذا لا تفهم ما يقال!) .

س124: كفاح الآلوسي: مُنذ عرفتك عبر ثلاثة عقود، وأنت تنأى بنفسك عن السياسة . سؤالي: ما زال البعض يعتقد أنك يساري، من أين توَلّد هذا الاعتقاد؟ وهل ترى في هذا سبّة أو تهمة يجب الدفاع عنها أو نفيها؟ وما قولك بأنني لمست ذلك جليّاً في الكثير من قصصك؟

ج124: فرج ياسين: دعني يا صديقي، استعير كلمةً لوليم فوكنر من روايته الصخب والعنف علقت في ذاكرتي منذ أمد طويل . وهي (ما من معركة ربحها أحد) وأنا أقصد هنا معركة السياسيّة العراقيّة، لقد نأيت بنفسي عن السياسة لأن الذين تعاطوها لم يكونوا أصحاب مشاريع متكاملة وناضجة بدليل أنهم حين امتلكوا فرصاً حقيقيّة لإنفاذ هذهِ المشاريع فشلوا فشلاً ذريعاً، لقد غدت لفظة مناضل كلمة مجانبّة فضفاضة لأن المناضل سرعان ما ينقلب إلى قاتل أو لص . وقد اتسع لي العمر لكي أعيش أدواراً سياسيّة عراقيّة فاشلة .

أما إن كان البعض يعتقد أنني يساري، فإن هذا أمر طبيعي بالنسبة لشخص لم ينتم إلى حزب السلطة أبداً، ولم يكن من النوع الذي ارتكن إلى زاوية في المشهد الاجتماعي وانتبذ فيها بعيداً عن أي نوع من أنواع الحراك الثقافي، وأنت تعلم أن ثمة تهمة جاهزة للمثقف مهما دافع عن استقلاليته، وهي أنه شيوعي أو يساري .

إما إن كنت أرى في هذا تهمّة ما يسوّغ الدفاع عنها أو نفيها فأقول لك: لا . لأنني أن نفيتها سأكون متنازلاً عن صفتي الثقافيّة والأدبيّة . فضلاً على أنني في هذهِ الحال سوف أكذّب قصصي .

س125: كفاح الآلوسي: حين جئت ـ لأول مرّة ـ إلى تكريت، وسألتُ عنك ـ كان ذلك في أواخر الثمانينيّات ـ لم أهتد لبيتك الآ من خلال ذكر لقب العائلة، أي أنهم لم يعرفوك بوصفك قاصاً؟

ج125: فرج ياسين: نعم، وما زلتُ أذكر هذهِ الواقعة جيداً، وحين ذكرت لي ذلك لم يثر الأمر استغرابي على الإطلاق، لأنني كُنت أتكتّم على شخصيتي الأدبيّة أو على منزلتي وقد أخذت تتبلور بعد إصدار مجموعتي حوار آخر وعريه بطيئة، وسبب ذلك أن مجتمع المدينة لم يكن مستعداً لاحتضان صفة الأديب في أجواء تسيطر عليها الروح العسكريّة والتقاليد الثقافية المستمدة من الموروثات البدائيّة، لقد كُنت مقتصداً في أبراز هذهِ الصفة بين زملاء العمل والأصدقاء والأقارب والجيران، ولم أكن أتحدّث عن قصصي أو مشاريعي إلاّ مع دائرة صغيرة جداً من المهتمين . وفي زمن مقارب لزمن زيارتك لي في البيت، قصدني أيضاً الشاعر الراحل كزار حنتوش وكان يعمل مسّاحاً في منطقة (هطرة) في قضاء الدور القريب .. وقد تعرّض إلى ما تعرضت له ، لأنه كان يسأل عن القاص فرج ياسين، ويعد لأي أحضره أحد معارفي إلى بيتي بعد أن نصحه بأن لا يستعمل كلمة قاص لأن أسم فرج ياسين يصبح أكثر غموضاً بها، وما زلت أتذكر حالة الاستغراب التي عبّر عنها كزار بقوله: (تبيّن مَحّد يعرفك بتكريت) .

وفي هذا السياق أيضاً، أراد اتحاد الأدباء في عام 1996 أن يكرّم اديبا واحداً من كل محافظة في العراق، وبلغّت بأنني سأكون هذا المكرّم في محافظة صلاح الدين، وكان من شروط التكريم أن يحضر جميع رؤساء الدوائر والمنظمات الحزبيّة والمدنيّة ورؤساء العشائر والوجهاء برعاية المحافظ ورئيس الجامعة ومسؤول فرع الحزب في المحافظة ... ويا لها من لحظات لا تنسى، حين حضر هؤلاء جميعاً وعلامات الاستغراب والاستهجان والإنكار ترتسم على وجوههم بألوان شتى، وإن كُنت سأنسى حرج ذلك اليوم فإنني لن أنسى ما حييت ما أعقب ذلك اليوم . إذ أصبحت شخصاً مريباً، وجعلوا يقلبون كتاب سيرتي الذاتيّة ويرتبون علاقتاهم معي على وفق ما يصادفهم من سطور ذلك الكتاب .

س126: كفاح الآلوسي: هل هناك امرأة ما اقتحمت عالمك القصصي وقمت بتجسيدها على نحو ما في قصصك؟

ج126: فرج ياسين: لم تحتل امرأة معينة مساحة واسعة من قصصي، لقد كانت المرأة تظهر في القصص في تكافيء طبيعي مع ظهور الرجل فيها، لكن النساء، كن يتراءين في لوحات إشكاليّة أكثر استدعاءً للشهيّة من الرجال، ففي قصة الحجرات ـ فضلاً عن الأم ـ تلوح صورة صبيّة مرسومة بالطباشير، مستدعاة من بطانة مشاعر الراوي، وفي الصبي 1956 تحاول طفلة إغواء الطفل ـ البطل في القصة، وفي حفلة اللوبياء تقفز نظرة طفلة عاشقة لتستقر في صورة شيخ ستيني وتتفجر في قلبه وكأنها تعيد ألقها الذي لم ينطفئ، وفي رماد الأقاويل تعود امرأة عاشقة بعد سنين لكي تطلق النار على ذكرى رجل لأنه أفسد حياتها، وفي قصص أخرى كثيرة تنهض النساء بادوار رئيسة أو ثانوية أكثرها تم استدعاؤه إلى رواق السرد من رحاب الحياة  الواقعيّة .

س127: كفاح الآلوسي: هنالك كثير من الأدباء آزروا هذا الدكتاتور أو ذاك سؤالي: كيف ينظر فرج ياسين إلى هؤلاء؟

ج127: فرج ياسين: أنظر إليهم بازورار واستهجان، وأرثي للمبدعين منهم، أولئك الذين يمتلكون مواهب حقيقيّة، وبما أنني اتخذ موقفاً مغايراً تماماً، فقد اتسعت دائرة التساؤل لدي مع مرور الزمن حول هذهِ الظاهرة، فخلصتُ إلى أن البعض يخضع إلى موجهات الاستهواء فيفقد توازنه وتصاب منطقة ما في وعيه بقصور الرؤية، ربما كانت الجائزة أو الوجاهة أو إغراء الشهرة من مفردات هذا الاستهواء، لكن التاريخ لا يتعامل مع مثل هذهِ الأعذار، حين يعرض صحيفة الأديب على قوانين الإبداع .. وأنا ممن يرون أن كثيراً من هذهِ القوانين ذات صلة بالمبادئ الأخلاقية: الشرف، والكرامة، والعدل والصدق .. وإن انتهاكها سوف يضرّ بوظيفة الأديب التي تنهض على إعلاء هذهِ المبادئ أساسا، ومع أننا نفصل بين منجز الأديب الإبداعي وبين سلوكه اليومي الشخصي ،الآ أن هذا لا يزكّي من يوظفون أدبهم للأغراض المنحرفة حتى وأن حشدوا لها كل مسوّغات الإبداع .. وفي صفحة مبكرّة من صفحات حياتي، دعيتُ ـ بشيء من الإلحاح ـ للانتماء إلى حزب معيّن وقد اهتديتُ ـ وقتها ـ إلى التدرّع بكلمة واحدة فقط قلتها بوجه الشخص الذي قام بدعوتي وهي: (أنا ليبرالي)، وحين اضطررتُ إلى شرح كلمة ليبرالي انصرف مغاضباً، ولم يجرؤ على طلب ذلك مجدداً لا هو ولا غيره، وكثيراً ما توقعتُ عند هذهِ الحادثة الصغيرة، وفكرّت بقوّة كلمة (الحريّة) إذ ما قيلت بصدق وأمانة واعتقاد أكيد .

وشكـــــــراً لــك يا صديقـــي

يمكن توجيه الاسئلة عبر الاميل الاتي

 [email protected]

للاطلاع

المقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع د. فرج ياسين

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم