دراسات وبحوث

إنتزال الجبوري: نحو وعي تربوي جديد في عالم متغير (1)

ماهية التربية

كيف أربّي إبني، وما الذي يمكنني أن أعلّمه إياه في خِضَمّ الحياة الحاضرة، الذي يموج بكل ألوان المؤثرات الصالحة والطالحة، الخيّرة والشرّيرة، المغرية وغير المغرية، الحقيقية والمُزيَّفة؟

كيف أكون مربّيا حقيقيا في عصر التحدي التكنولوجي والذكاء الاصطناعي؛ عصر التحوّل، والتجديد، والتغيير اللحظي الذي قلب الحياة على عقب وبدّل فيها كل شيء؟

نموذجان لتساؤلات كثيرة يطرحها آباء وأمهات اليوم العاجزون بكل ما تعنيه الكلمة عن مواجهة متغيرات الحياة السريعة في تربية وتهذيب أبنائهم.

موضوع التربية من الموضوعات الجادة في مجتمعاتنا، لا يمكن تناوله بهذه العجالة، ولا تختصره هذه الصفحات بل هو واسع جدا، ومختلف من بلد لآخر، ومجتمع لآخر تبعا لظروف كل بلد، ومجتمع، وتقاليده، وثقافاته، وأديانه، وعاداته، وقيمه. وطرحه مختلف من فرد لآخر تبعا لنوع التخصص، والخبرة التربوية، فضلا عن عامل التطوّر التقني في مجال التربية والتعليم الذي ليس آخره الذكاء الاصطناعي.

التربية مهمة دقيقة فيها يتم تكوين الإنسان وإعداده للحياة الخاصة والعامة. كل مربٍّ منا في مختلف المجتمعات البشرية له فن خاص في منهجه التربوي المختلف عن الآخر؛ لكن المنهج التربوي في المؤسسات التربوية والتعليمية في كل بلد موحّد كونه يعتمد على مناهج مكتوبة يعدّها متخصصون في مختلف الحقول المعرفية.

في طرحي لموضوع التربية اعتمدتُ على نظريات وآراء علماء التربية والنفس والاجتماع السابقين واللاحقين من الشرق والغرب اعتمادا على الطبيعة البشرية، التي قد تتحد في صفات، وتفترق في أخرى. ويمكن القول:

إن نظرياتهم تلك أرست أسس التربية والتعليم الحديثين رغم أنها صدرت بقرنين أو أكثر ما قبل القرن العشرين، وربما تصلح للعقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، وقد لا تصلح للعقود اللاحقة، فضلا عن ذلك اعتمدت على تجاربي التربوية، وتجارب المجتمع الذي أعيش فيه، فشخّصتُ ثغرات وإشكاليات أيضا في التربية التقليدية، وطرحتُ آراء تربوية جديدة للمربي الحديث. ولعل طرحي من بين مئات الطروح التي آتت أم لم تؤتِ ثمارها عند المربين، وقد تكمن فيه بعض الفائدة لآباء وأمهات اليوم.

يمكنني الشروع بشكل مباشر في موضوع التربية الحديثة دون التعرّض لموضوع التربية التقليدية الذي أتمنى أن يحظى مني بمحاولة أخرى للكتابة فيه بإذنه تعالى،  وتعليم الأبناء في العصر الحاضر المتغير، الذي يكتنفه الكثير المتحقق، وربما غير المتحقق.

ماهية التربية عند بعض علماء العرب

نستعرض آراء لبعض نماذج علماء عرب تربويين؛ منهم مسكويه؛ أحمد بن محمد بن يعقوب(320-420هـ)؛ إذ يطرح رأيه في التربية قائلا: "هي تعليم مستمر يشمل الإنسان بعمره كله"[1]. ويطرح مسكويه نظريته في مربي الفرد بقوله: "على مدبر المدن أن يسوق كل إنسان نحو سعادته التي تخصه، ثم يقسّم عنايته بالناس، ونظره لهم بقسمين: أحدهما في تسديد الناس وتقويمهم بالعلوم الفكرية، والآخر في تسديدهم نحو الصناعات والأعمال الحسية"[2] .

حجة الإسلام أبو حامد الغزالي(450-505هـ) يستعرض فلسفته التربوية بهذه المقولة حينما "يصف الطفل بأنه أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة"، لذا على المربي أن يرشده بأمانة وإخلاص ومراعاة شعوره فيقول: "إن الطفل المستحي لا ينبغي أن يُهمل، بل يُستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه، ويرى ألاّ يُؤخذ الطفل بأول هفوة، بل يُتغافل عنه، ولا يُهتك ستره، ولا سيما إذا ستره الصبي، واجتهد في إخفائه.[3]"

عالم الاجتماع ابن خلدون(732-808هـ) يطرح في مقدمته فلسفته التربوية قائلا: "من كان مرباه بالعسف والقهر- من المتعلمين أو المماليك أو الخدم- سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث- وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه- وعلمه المكر والخديعة لذلك. وصارت له عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن؛ وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالا على غيره في ذلك. بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين" [4].

يعرّف التربية السيد محمد بدوي أستاذ علم الاجتماع (جامعة الاسكندرية- مصر) بأنها: "التنمية والتقوية -أي تعهد أي شيء بالرعاية؛ ففي محيط الإنسان تتضمن التربية الوسائل التي تنمي ملكاته وقواه معا، ومن هذه الوسائل: التربية البدنية، والتربية العقلية، والتربية العلمية، والتربية المهنية، والتربية الفنية، والتربية الاجتماعية الوطنية، والتربية الإنسانية، والتربية الأخلاقية، والتربية الدينية "[5].

كميل الحاج في موسوعته الميسرة أورد تعريفا للتربية والتعليم قائلا: "التربية عملية إعداد الطفل ليصبح مؤهّلًا لمواجهة متطلبات الحياة، ولكي يصبح مهيًّأ ليعيش ضمن الجماعة. ومن شروط التربية الصحيحة أن تُنَمّى شخصية الطفل من الناحية الجسمية، والعقلية، والخلقية، وإعطاؤه القدرة لإصدار أحكام حرة وشخصية" [6].

الدكتور عبد المنعم الحفني في موسوعته الفلسفية أورد تعريفا للتربية قائلا: "وفي الاصطلاح التربية هي تدريب مختلف الوظائف النفسية، وتقوية القدرات، وتنمية الملكات حتى تبلغ كمالها شيئا فشيئا. والمربي هو المؤدِّب الذي يروّض على محاسن الأخلاق والعادات. وقد يترك فيها الطفل على سجيّته ليتعلم من نشاطه القصدي، ويقوم المذهب التربوي على فكرة أن الإنسان كائن حي تتغير طبيعته بتأثير غيره، وبمؤالفة ظروف بيئته، وأنه بالتربية يمكن تطويع هذه الطبيعة لما فيه خيره وخير بيئته. وأن الوراثة عنصر فعال في تكوين الشخصية لكن التربية هي المعوّل عليه في توجيه الصفات الوراثية وتوظيفها اجتماعيا" [7].

ماهية التربية عند بعض علماء الغرب

في كتابه (إميل) يطرح جان جاك روسو الفيلسوف السويسري الفرنسي (1712-1778) نظريته في التربية مقسِّما مراحلها إلى خمس؛ الأولى تبدأ من بعد فطام الطفل أي من بعد عامين حتى الخامسة من العمر؛ مركّزا على احتضان الطفل ليتحقق النمو البدني له، وتلبية رغباته وحاجاته الطبيعية، ومنحه المزيد من الحرية الحقيقية، فالمرحلة الأولى يسميها التربية السلبية؛ لأنها تترك الطفل وفق طبيعته الخيرة دون تدخل من إرادة المربي كي تكون له حرية الإرادة والاستقلالية. أما المرحلة الثانية فتبدأ من سن الخامسة حتى الثانية عشرة حيث تعتمد على تمرين حواس الطفل وتقوية جسمه من خلال احتكاكه بالطبيعة؛ ليكتسب التجارب دون تدخل المربي أو تعليم العلوم الجاهزة. أما المرحلة الثالثة فتبدأ من سن الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة، فيها يبدأ المربي بتعليم الطفل المعارف الجاهزة من المناهج المعدة معارف نظرية وتطبيقية، علوم لغات، أو رياضيات، وغيرها. المرحلة الرابعة وتبدأ من سن الخامسة عشرة إلى العشرين، حيث يرى أن مدارك الطفل قد نضجت في هذه المرحلة فلا بد من تعليمه المفاهيم والأمور الدينية، وتعليمه العلاقة العاطفية والجسدية بين الجنسين، وكيفية الانخراط والتأقلم في المجتمع. المرحلة الخامسة حيث تبدأ في سن العشرين التي وصل فيها إلى عمر الزواج من شريك أو شريكة الحياة، حيث يلتقيان ليتشاركا ويتداولا أمورهما الحياتية المختلفة التي تفضي إلى الزواج المستقبلي. نستنتج من كل ما تقدم أن آراء روسو التربوية أحدثت ثورة في مجال التربية حيث أعادت للطفل مكانته ودعت إلى احترام خصوصياته الجسدية والنفسية والعقلية والاجتماعية، فكانت آراءه قد (شكلت قطب الرحى في منهاج التربية الحديث، وارتكزت المناهج التربوية الحديثة من بعد فلسفة التربية لروسو على رغبات الطفل وحاجاته كعنصر أساسي في بناء التعليمات)[8].

الفيلسوف الألماني أمانويل كانط (1724-1804م) يرى "أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحتاج إلى تربية ونعني بالتربية العناية(الاهتمام)، والتعليم، والتنشئة الأخلاقية". ويعتبر كانط التربية " فن ينتظم وفق أبعاد أربعة، الانضباط، ويقتصر دوره على ترويض الهمجية الكامنة في بنية الإنسان، والتنشئة من اكتساب المهارات، والمدنية التي تسمح للإنسان بالتكيف مع المجتمع الإنساني، والأخلاق؛ وهي النقطة الأخيرة التي تندرج في توجه فكر كانط الأخلاقي الذي يقود إلى الغايات الحسنة"[9].

دوركايم عالم الاجتماع الفرنسي (1858-1917) يعرّف التربية ب"أنها الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم ترشد بعد من أجل الحياة الاجتماعية".[10]

جون ديوي عالم الاجتماع الأمريكي(1859-1952م) يعرّف التربية قائلا: "إن التربية هي مجموعة العمليات التي بها يستطيع المجتمع أن ينقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه، وتعني في الوقت نفسه التجدد المستمر لهذا التراث، وأيضا للأفراد الذين يحملونه، فالتربية هي عملية نمو وليست لها غاية إلاّ المزيد من النمو، إنها الحياة نفسها بنموها وتجددها" .[11]

برتراند رسل الفيلسوف الإنكليزي المعاصر(1872-1970) يطرح رأيه في التربية معتمدا على أسس أربعة في إعداد النشء يرى أنها "أساس الخلق المثالي: الحيوية، والشجاعة، والحساسية، والذكاء"، بواسطتها يُعنى بالنشء من النواحي البدنية والعاطفية والذهنية[12].

يعرّف التربية متخصص علم النفس الدكتور داكو بيير(1936-1992) تلميذ عالم النفس كارل يونغ قائلا "هي عملية تقوم على ضرب من (الترويض)؛ أي على فرض بعض المنعكسات على الطفل، إن جزءا من هذه المنعكسات يتأصل إلى الأبد، جيدة كانت أم سيئة". والتربية هي عملية توفيقية بين العناصر الثلاثة التي تقوم عليها المتمثلة با "الأب، الأم، الطفل". ولا يمكن لأية عملية تربوية أن تكون كاملة في كل عناصرها لأن الأمراض السيكولوجية للراشدين قائمة في الوسط العائلي الذي تربوا فيه، ومن البداهة أن الحالة هذه ليست عامة في كل المربين، فالتربية هي سلسلة واسعة من النقل، وينبغي أن تكون كل حلقة من حلقاتها في أقل قدر ممكن من النأي عن الكمال[13].

لكن "مرتكزات التربية الأربعة" التي جاء بها التقرير الذي أعدته منظمة (اليونسكو) التابعة للأمم المتحدة في القرن الحادي والعشرين التي ترأسها جاك ديلور؛ هي: "تعلم اكتساب المعرفة، تعلم ممارسة المعرفة، تعلم طريقة وجود، تعلم العيش معا[14].

إذا أردنا العمل ببنود التربية لمنظمة "اليونسكو" في بلداننا فإننا نكون بحاجة ماسة إلى ثورة ثقافية تشمل تغيير طرق التربية والتعليم، والمناهج التعليمية في كل المراحل الدراسية من الابتدائية إلى الجامعة.

بعد هذا الاسترسال في كشف معنى التربية يمكنني القول:

إن التربية هي عملية إعداد الفرد وفق معايير سلوكية عائلية تبدأ في الأسرة على مرحلتين؛ الأولى من الولادة حتى الثالثة من العمر، والثانية من الثالثة حتى السادسة باعتباره كائنا بيولوجيا حديث الولادة والنشأة له متطلباته المادية والمعنوية، ووفق معايير سلوكية اجتماعية عامة في المجتمع العام الواقعي باعتباره كائنا اجتماعيا، وبيئية باعتباره كائنا حيا تشاركه الطبيعة الكائنات الحية الأخرى من حيوان ونبات، ضمن ثلاث دعامات أساسية؛ هي الحضانة، والرعاية، والتربية والتعليم والتهذيب؛ من النواحي الجسدية، والنفسية، والعاطفية، والعقلية، والدينية، والاجتماعية، حسب ثقافة المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه، متضمنة أديانه، ومعتقداته، وأفكاره، وثقافاته، ومثله، وأخلاقه؛ ووفق أخلاقيات ومعايير العالم الرقمي في المجتمع الافتراضي باعتباره كائنا تكنولوجيا. فالتربية هي إعداد الفرد إعدادا كاملا سليما متوازنا في المحيطات الثلاثة المذكورة (العائلة، المجتمع العام، العالم الافتراضي)، متضمنة ثلاثة عناصر مهمة؛ هي المحيط، والوسيط التربوي، وأدوات التربية.

نسلّط الضوء على ثلاثة موارد في تربية طفل اليوم؛ هي:

أولا: التربية الحديثة؛

ثانيا: التعليم الحديث؛

ثالثا: أثر تكنولوجيا المعلومات في تربية وتعليم جيل اليوم. (يتبع)

***

إنتزال الجبوري

..........................

[1] الهلالي، عماد (دراسة وتحقيق). مسكويه. تهذيب الأخلاق. بيروت- بغداد: منشورات الجمل، ط1، 2011،ص204.

[2] نفس المصدر والصفحة.

[3] أيوب، محمد شعبان. موقع قناة الجزيرة (9/7/2017) (ميدان).

[4] إبن خلدون. المقدمة، ص540.

[5] بدوي، السيد محمد. الأخلاق. دار المعرفة الجامعية، 2000، ص15-16.

[6]  الحاج، كميل. الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2000، ص148.

[7] الحفني، د. عبد المنعم. المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة. القاهرة: مكتبة مدبولي، ط3، 2000، ص191.

[8]أنظر: حسن، ابتهال. مفهوم الطفولة عند جان جاك روسو. موقع موضوع(أغسطس 2023)(في حقل قلم). نقلا عن جان جاك روسو. سؤال الطفولة والإنسان.

[9] كانط. في التربية. ترجمة: جوزيف معلوف. بغداد: دار الرافدين، ط1، 2022، ص21.

[10] دوركايم. التربية الأخلاقية. ترجمة: السيد محمد بدوي. مراجعة: علي عبد الواحد وافي، تقديم: محمد الجوهري. القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2015، ص68.

[11] ديوي، جون. الديمقراطية والتربية. ترجمة/ منى عفراوي، وزكريا ميخائيل. القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1946، ص332.

[12] رسل، برتراند. في التربية. ترجمة: سمير عبده. دمشق: دار التكوين، ط1، 2017، ص47.

[13] داكو، بيير. الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث. ترجمة: وجيه أسعد. بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، ص24-26.

[14] ديلور، جاك. (نحو التربية المستدامة للجميع). في كتاب القيم إلى أين. إشراف جيروم بندي. ترجمة: زهيدة درويش جبور، وجان جبور. بيروت: دار النهار، ط1، 2005، ص216.

 

في المثقف اليوم