قراءات نقدية

حبيب ظاهر حبيب: قراءة في عرض مسرحية "رأسي من الجنوب"

يبدأ تلقي عرض مسرحية (رأسي من الجنوب) حالما يقع البصر على البوستر الإعلاني الذي استخدم مفردات كثيرة تبوح بوضوح بشيء من فكرة ومفردات لغة العرض، السيادة للكوفية (الشماغ) والمشحوف والكتابة المسمارية على اليمين وتراثيات (كف تتوسطه عين وهلال وأم سبع عيون) على اليسار والحجم الأكبر لتكوين حيوان الجاموس والخلفية شبكة صيد الأسماك المقارب لتكوين الكوفية، جميع المفردات مأخوذة من جنوب العراق، ويعزز هذا المصدر عنوان العرض (رأسي من الجنوب) الذي يتصدر البوستر، ليقول أن: فكرة العرض أخذت من ما باح به الجنوب الساكن في رأس المؤلف والمخرج.

يدخل المتلقي في أجواء قبل دخوله وجلوسه على المصاطب والكراسي التي تحتل ضلعين كمساحة للمشاهدة، أما الضلعين الآخرين فهما مساحة للأداء، أجواء ما قبل بدء العرض يصنعها صوت خوار الجاموس المصحوب مع انين غامض.

حالما تضاء مساحة الأداء، ينكشف فضاء العرض للمصمم ضياء حمزه، الذي عمل إنشاء تكوينات من القصب غلفت الجدران وجزء السقف واحد الاعمدة، والأرضية الترابية وقارب الأهوار المسمى محليا (بالمشحوف) مع انتشار شبكات صيد الأسماك، وهي المفردات نفسها -تقريبا- التي وضعت في تصميم البوستر الإعلاني.1460 janob

يظهر من بين الجمهور (شاب) و (شابة) يقدمون باللغة العربية والانجليزية نبذة عن الأهوار واستعراض اهميتها (أن الأهوار العراقية بيئة فريدة من نوعها) والأضرار التي لحقت بها بسبب عمليات التجفيف وإقامة السدود وقطع مصادر المياه من بعض الدول المحيطة بالعراق.

نقطة انطلاق الحدث تبدأ عندما يتحرك رأس من طين وجسم إنسان مغطى بشبكة صيد، يتحرك ببطء ويتلمس طريقه وينزع عنه طبقة الطين ليظهر ملامح الإنسان، وفي الطرف البعيد يتحرك كائن ويزيح عن نفسه كتل طينية ليظهر رأس جاموس بجسد إنسان، يلتقيان بعد فراق وإنهاك، يستند أحدهما على الآخر، ثمة علاقة قديمة وعميقة تمخضت عن ولادة القارب المحلي الصنع (المشحوف) اداة التنقل والصيد.

لم تنطق الشخصيات بلغة الكلام للتعبير عن مشاعرها وانفعالاتها وما يجول بخاطرها، بل استخدمت لغة الإيماءة والإشارة والحركة المعبرة التي نفذت إلى وجدان المتلقي، وفي الوقت الذي تلاشت فيه لغة الحوار السمعية التقليدية، تبدت اللغة البصرية بأبهى صورها.

ثيمة العرض هي الوشائج بين مكونات البيئة (التراب والماء والقصب والجاموس والقصب …) وبين الإنسان/ المواطن. ذلك ان إنعاش الأهوار يعني إنعاش الإنسان والجاموس ونمو القصب والأسماك والطيور، وتصنع القوارب (المشاحيف)1461 janob

من يملك الحس والروح والعقل المتواشج بكل مكونات وتفاصيل وجزيئات بقعة أرض وينتمي إليها ويحبها لدرجة انه يقدسها ويدافع عنها هو الإنسان الوطني الذي يحب التراب والتراث والإنسان والحيوان والنبات والأشياء.. لماذا؟ لأنه مرتبط بهذا المكان (بقعة الأرض) المسمى وطن، ولد وعاش فيها وتجذرت روحه وذكرياته وأزهرت أواصر لا نهاية لها. العمل في هذا العرض عرف الوطنية بأنها ليست هتافات حماسية ولا شعارات سياسية وحسب، تتجلى الوطنية في التماهي مع ذرات التراب واحتضان من يعيش عليه.

احدى أهم جماليات هذا العرض، انه لم ينطق العرض بأي كلمة مباشرة عن الوطن، استثمر مفردات قليلة العدد عميقة الدلالة (القصب، الجاموس، المشحوف، التراب) وعمل على استنطاق انتماءها وحبها والتصاقها ببيئة الاهوار، وفي الوقت نفسه عزز روح الوطنية لدى المتلقي الذي أصغى طوال زمن العرض بحواس رصدت تفاصيل عرض قال كلمة جاءت من صوت خارجي وليس من الشخصيات المتواجدة أمام المتلقي، صوت شجي، يعاتب بمحبة، ويحرض بتثوير: (من منكم يزيل التجاعيد وجه الجنوب)

الجانب الجمالي الآخر في عرض (رأسي من الجنوب) هو صعوبة تحديد انتماء العرض فنيا لنوع درامي محدد، اذ انه يبدأ بمعلومات سردية باللغتين العربية والانجليزية من فتى وفتاة، تبدأ دراما العرض بشغل مسرحي حركة تعبيرية يؤديها ممثل شخصية الرجل الجنوبي وشخصية الجاموس، تتحول الأحداث إلى صراع حالما يدخل إلى المشهد شخصيتان أجنبيان (رجل وامرأة) من غير بيئة الاهوار - سياح/ مستكشفين/ مستعمرين - يأخذون تراب وقصب، يرفض مربي الجاموس والجاموس وجودهما ويريدان استعادة ما أخذوه، يستحيل الأمر إلى صراع بالأيدي وبكل شيء بصياغة كيروكرافية إيمائية راقصة، عدا بعض الحالات التي يكون فيها ضرب على جدران القصب الهشة فتصدر أصوات لا تتناسب ومسار الإيقاع الحركي، إلى جانب عملية سحب جثث الأجانب لم تكن بالخفة والمرونة المتوافقة، في نهاية العرض يموت مربي الجاموس، يحزن الجاموس على فقدان مربيه ويهيل التراب على رأسه، بالصورة نفسها التي تحزن بها نساء الجنوب على فقدان أحبتهم. يأتي صوت الشعر من خارج مساحة ليقول (حزنت الأرض فخلق الله جنًوبا يبكي) تدخل امرأتين متلحفات بالعباءة وسط صوت النعي والبكاء واللطم على الصدور. موت الرجل الجنوبي جعل المشهد الأخير يغور في عمق الواقعية بفعل اللطم ونثر التراب على الرأس وصوت الأنين والنعي المؤلم.1462 janob

واستنادا وقائع العرض يمكن القول بصعوبة تجنيسه، وتحديد انتمائه إلى التمثيل الصامت أو إلى عروض الكيروغراف … أنه عرض ينطوي على الجدة على وفق مزيج متجانس من ابتكار المؤلف والمخرج والممثل (محمد كويش) وفريق العرض المتضامن معه. 

لقد أثبت فريق العرض أن المسرحية الشعبية لا تعني الحوار باللهجة العامية الدارجة وفيض من قفشات ومواقف كوميدية تقدمها شخصيات محلية ساخرة، مع ضرورة حضور الرقصات والأغاني … إلى آخره. أثبت فريق العرض أن المسرحية الشعبية هي التي تتناول ما يعنى به الشعب ويثير اهتمامه ويتعاطف معه، بمعنى آخر يطرح القضايا ذات الأهتمام الشعبي ويبحث في معالجتها جماليا، وعليه يمكن القول: أن العرض المسرحي -وكل الفنون والآداب بأنواعها- يكون شعبيا ويحصل على استجابة فكرية وجمالية واسعة عندما يجد الجمهور/ الشعب شيئاً من روحه فيه.

يتحقق التكامل في عرض مسرحي عندما تكون تقنيات جزءا عضويا وليس تجميليا زائدا ويمكن رفعه او تغييره دون تأثير في بعض مكوناته، (رأسي من الجنوب) أظهر تلاحما عضويا بين البقع الضوئية المسلطة على مساحة الأداء وألوانها، وحتى الاضاءة الحمراء خلف جدران القصب والسلم الذي ظهرت منه بعض الشخصيات وغادرت وصناعة لون الشمس الاصفر … و بالتوقيتات الدقيقة -للسينوغراف علي السوداني- المرافقة لموسيقى الوجع والمؤثرات الصوتية بمحمولاتها الوجدانية الحزينة، ومنها حضور أغنية أو ترنيمة الــ (دللول يا الولد) التراثية التي تستخدم لهدهدة الأطفال  صدىً عَذِب في نفوس العراقيين، يرجع بعض الباحثين اصولها إلى الحضارة السومرية (4000 - 2004 ق.م) وتعد من أقدم الآداب الموجهة للأطفال، منحت العرض امتداد تاريخي متزامن مع تاريخ الاهوار القصب والجاموس كلها حاضرة منذ آلاف السنين والمواطن الجنوبي هو سومري الاصل.   وقد اتسق تأثير الاضاءة والمؤثرات الصوتية مع طغيان اللون الأسود على أزياء الشخصيات، تولد عن كل هذا وحدة إيقاعية نوع من التكامل الفني جعل الجمهور الحاضر مستغرقا في العرض طوال الأربعين دقيقة.

احد تعريفات البلاغة يقول: (انها إيصال المعاني بلغة بسيطة) وقد أوصل عرض مسرحية (رأسي من الجنوب) رسالته بمفردات جميلة وواضحة استلها المؤلف/المخرج (محمد كويش) وفريقه من بيئة الاهوار الجنوبية واعادوا صياغتها فنيا لأنهم لا يعيشون ولا يعملون بعزلة وقطيعة عن جميع مكونات بيئة الأرض وما فوقها وما في جوفها وبيئة المجتمع والاقتصاد والسياسة، ذلك أن الفنان ابن بيئته يتفاعل معها ويحرص عليها ومنها ينطلق إلى فضاء الإبداع.   

ملاحظة: انتظار الجمهور لفترة غير قصيرة في ممر ضيق، والدخول إلى قاعة العرض في الظلام، سياقٌ يفضل أن يعاد النظر به، لأنه يعكر صفو الاستعداد النفسي لتلقي العرض والدخول في أجوائه. مع التنويه الى أن الكثير من مواقع الجلوس في باحة منتدى المسرح لا توفر مشاهدة مريحة.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

 

في المثقف اليوم