قراءات نقدية

طارق الحلفي: فقدان المعنى الإنساني بين مكيدة الوصمة الاجتماعية وماء التطهر

قراءة في "حكاية المسموم" للقاص العراقي أنمار رحمة الله

يختلج العارف منا شهوة للطيش.. ويجفل الحاضر بيننا اباحة للذهول.. نافرين نحو الغلبة او صاخبين نذرا للهزيمة.. فتقتحمنا الزوابع إشعالًا لليأس او دسيسة للموت

"حكاية المسموم" تنطوي على أبعاد متعددة تتشابك فيها العناصر الأدبية والفكرية والفلسفية، وتتجلى فيها الرمزية العميقة مع توظيف التأملات الإنسانية والاجتماعية والدينية بشكل جليّ. الحكاية تفتح الباب لتأويلات متنوعة، ما يجعلها غنية بالمعاني والدلالات التي تستوجب الغوص في أعماقها.

1. البنية الأدبية والتقنية السردية:

تتميز الحكاية بتعدد الأصوات السردية؛ إذ يقدم الكاتب الحكاية عبر عدّة شخصيات، مما يسمح بإبراز وجهات نظر متباينة حول شخصية "المسموم" وتعاطي المجتمع معه. هذه التقنية تعزز من تعقيد السرد وتضيف بُعدًا دراميًا عميقًا، حيث يتنقل القارئ بين عدة رواة يعرضون تفاصيل حياتهم وتجاربهم مع "المسموم"، مما يشكل صورة متكاملة عن هذه الشخصية الغامضة. كل راوِ يعكس موقفه المختلف والشخصي من "المسموم"، فهناك من يتعاطف، وهناك من ينفر، وبعضهم يقف محايدًا، مما يجعل القصة أكثر ديناميكية، وابعد قصدية..

لغة الحكاية جزلة العبارات.. مليئة بالصور المجازية التي تعكس حالة القلق والاغتراب، سواء بالنسبة للـ "مسموم" أو بالنسبة للمجتمع الذي يحيط به. ان استدعاء الصور الطبيعية مثل "النهر" و"الماء" يحيل القارئ إلى معانٍ رمزية وفلسفية، حيث يكون الماء رمزًا للتطهر والبحث عن الخلاص، بينما يتحول في نهاية المطاف إلى أداة للموت.

2. الجوانب الاجتماعية والإنسانية:

القصة تتناول قضية اجتماعية حساسة، وهي مسألة "الوصم الاجتماعي" وكيفية تأثيره على الأفراد. "المسموم" ليس مجرد شخصية فردية، بل يمثل النموذج المُقصى من المجتمع بسبب الإشاعات والمخاوف غير العقلانية. المجتمع هنا يقف ضد الفرد المختلف، دون النظر إلى جوهر الإنسان أو فهم حقيقته، حيث يظهر "المسموم" كشخص لا يحمل أي خصال شريرة، لكن المجتمع قرر عزله بناءً على خلفيته وسمعته، وهذا يعكس ضعف المجتمع في التعامل مع المختلفين والغرباء.

لنرى كيف عكست الشخصيات التي تحدثت عن "المسموم" ردود الأفعال الاجتماعية المتنوعة والغرائبية:

** الضابط

الضابط.. كشخصية أسيرة العجز والتردد أمام واقع غامض ومهيب. مواجهته الأولى في المدينة الجديدة تبدأ بمشهد مأساوي يتعقد بالتدريج، حيث الانتقال من الإشراف المعتاد على انتشال جثة إلى مواجهة خوف جماعي يشبه الهلع الهذياني البدائي. هروب رجاله والصيادين، وتحذيراتهم المتفرقة عن "المسموم" تكشف عن طاقة خفية لا تُفسر بالمنطق الظاهر، وتضع الضابط في موقف وجودي حرج.. إنه مواجهة بين الفرد الذي لا يعرف (الضابط)، والجماعة التي تعرف أكثر مما تعلن.. والذي يعكس عدم فهمه للمجتمع الذي نُقل إليه حديثًا، انه يتعامل مع الأمر بواقعية باردة، مما يظهر انعزاله عاطفيًا عن القضية

الاستعارة بين الناس والأرانب المهروِلة تبرز الهشاشة البشرية أمام المجهول والخطر الغامض، في حين يشكل الأطفال، بتجمهرهم حول الجثة، رمزًا لبراءة ما.. قديمة تتصادم مع الرهبة المحيطة. النص يستبطن توتراً عميقاً حول السلطة.. الجهل.. والخوف المتوارث، والذي يضع الضابط في مواجهة مع ما لا يُرى ولا يُقال، مما يتركه متسمرًا بين الواجب والخوف.

** الزميل في الطفولة

الزميل.. يمثل أصوات المجتمع البسيطة التي تتبنى الأساطير وتصدق الشائعات بسهولة، دون أي تمحيص أو تفكير نقدي.. انه يكشف عن مدى تشكّل المفاهيم السلبية حول الفرد المختلف من خلال الشائعات والأساطير الشعبية، التي تتحول إلى حاجز نفسي قوي بينه وبين الآخرين.. "المسموم" لم يكن مذنبًا، بل ضحية لحكاية والدته ومجتمع غير قادر على تجاوز الخوف اللاعقلاني من المجهول.

الراوي/ الزميل يبرز كصوت تمزقه معاني الذنب والمشاركة في النبذ، حيث كان جزءاً من عملية العزل الاجتماعي الممنهج. الإشارات الدقيقة، مثل غسل الأكف بعد لمسه، ترمز إلى التطهير من التلوث الاجتماعي أكثر من التلوث الجسدي، مما يعمق المأساة.

"المسموم" يصبح رمزًا للإنسان المعزول والمهمش، الذي يقبل مصيره دون مقاومة، مما يعزز الإحساس بالفقدان والاغتراب.. فتكتسي بغلالة من العزلة والنبذ المجتمعي، حيث يُختزل "المسموم" في أسطورة مرعبة، مسمومة جسديًا ومعنويًا منذ ولادته.

** الحجي صاحب المقهى

شخصية "الحجي" تعكس مزيجًا معقدًا من الحيرة الأخلاقية والخوف الاجتماعي. فهو يعيش بين واجب ديني وأخلاقي يدفعه إلى عدم طرد "المسموم"، وبين خوفه من خسارة زبائنه. الحجي يبدو عاجزًا عن المواجهة الحقيقية، فيختار طريقاً وسطاً يعتمد فيه على مراعاة المشاعر في الظاهر، لكنه في الباطن يفرح عندما يتولى الآخرون طرد المسموم عنه.

هنا يبرز بوضوح مدى تداخل الخوف من المجهول مع مفاهيم الطهارة الاجتماعية والدينية، حيث ينقل الحجي ضجَره وقلقه من "المسموم" دون أن يظهر رفضاً علنياً له. التصرفات الصغيرة، كإمساك الكوب بمنديل ورميه، تُعبّر عن الاحتقار الخفي والمقاومة غير المباشرة، لكنها أيضًا تكشف عن هشاشة موقفه الأخلاقي.

الحجي يُقدّم كشخصية مترددة، تفضل الراحة الذاتية على المواجهة المباشرة، وتتلاعب بالمبادئ الأخلاقية في سبيل تحقيق توازن مريح لها..

انه توضيح للصراع بين الواجب الديني والإنساني وبين المخاوف المجتمعية التي تتغلب عليه في النهاية.

** الطليقة

شخصية الطليقة.. تمثل الضحية الكلاسيكية للزواج غير المتوازن والمبني على التضليل. إنها ترمز إلى المأساة الزوجية والاجتماعية، حيث تتزوج من "المسموم" دون أن تعرف تاريخه الحقيقي أو إشاعات المجتمع حوله.. زواجها من المسموم يظهر كيفية تأثير الإشاعات والخرافات المجتمعية في حياة الأفراد البريئين، ويعكس هروبها بعد اكتشاف هذه الحقائق واستسلامها للخوف والقلق الناتج عن تلك الإشاعات. الطليقة تفتح نافذة على تجربة شخصية مكبلة بالعار والخوف من المجتمع، وتوضح كيف يمكن للمرأة أن تصبح ضحية ليس فقط للرجل، ولكن أيضًا للظروف التي تحيط بها.

انها تقدم منظورًا إنسانيًا آخر حول العذاب الشخصي الذي يمكن أن ينجم عن التعايش مع "المسموم"، رغم أن هذا العذاب قد يكون نفسيًا أكثر من كونه حقيقيًا.

** الشيخ

يمثل الشيخ في النص شخصية السلطة الدينية التي تتأثر بضغوط المجتمع وتخضع لها، رغم عدم اقتناعه التام بالإشاعات حول "المسموم". يظهر الشيخ كرجل دين ينظر إلى "المسموم" كشخص عادي لا يرى فيه شيطانًا أو لعنة، لكنه يجد نفسه مرغمًا على اتخاذ موقف قاسٍ بناءً على مطالب المصلين الذين يهددونه بقطع الصدقات عن المسجد. الشيخ يرمز للصراع بين الواجب الديني وضغوط المجتمع، حيث ينحني للضغوط رغم عدم اقتناعه التام بها. موقفه يظهر مدى تأثير الإشاعات والخوف المجتمعي على الأفراد، حتى على من ينبغي أن يكونوا قادة أخلاقيين.

** الأم

الأم تمثل الرمز للمأساة الشخصية في حياة "المسموم"، فهي تُجسد الألم والخسارة التي عاشتها نتيجة العزلة والإشاعات التي طالتها وابنها. تعكس الأم صورة المرأة المثقفة والمستقلة التي تصطدم بالتفاهات المجتمعية والخرافات. علاقتها بالمسموم تكشف عن عمق المعاناة المشتركة بينهما، حيث تمثل الأم مصدر الحياة لـ"المسموم"، وفي الوقت ذاته ضحية رئيسية للإشاعات التي أطلقها الجيران عنها وعن ابنها. توضح الأم كيف أن المجتمع قد يستخدم الخرافات والإشاعات لتفسير الواقع بطريقة مؤذية وغير عقلانية، مما يجعلها تتأمل الألم الشخصي والظلم الذي تعرضت له هي وابنها.

من خلال هذه الشخصيات، تعكس القصة آلية تشكّل التصورات الاجتماعية وكيفية تأثر الأفراد بها، بل وتحولها إلى واقع مادي يغير حياة الناس.

3. الجوانب الدينية والرمزية:

يتعامل النص بشكل عميق مع الجوانب الدينية، خصوصًا من خلال شخصية الشيخ. فالشيخ يمثل السلطة الدينية التي تتعرض لضغوط المجتمع، حيث يحاول الحفاظ على التوازن بين الرحمة الدينية وبين الاستجابة لمطالب الجماعة. هذا الصراع يعكس كيفية توجيه الدين لخدمة المخاوف الاجتماعية بدلاً من مواجهة هذه المخاوف بالحكمة والموعظة. إذ نرى كيف تُستغل الرمزية الدينية لتحفيز النفور من "المسموم"، في وقتٍ يُفترض فيه أن يكون الدين مصدرًا للتسامح والرحمة.

النهر في القصة يحمل رمزية دينية واضحة؛ فهو يرمز إلى التطهر والخلاص الروحي، إذ يسعى "المسموم" إلى تطهير نفسه من الدنس المجتمعي عبر النزول إلى النهر. إلا أن نهايته المأساوية في النهر تشير إلى فشل هذا السعي، وكأن المجتمع، بتصوراته ومخاوفه، يحول حتى أدوات الخلاص إلى وسائل للهلاك. النهر، الذي يمكن أن يكون معبرًا عن النقاء، يتحول إلى مكان للموت، مما يعكس إحباطًا فلسفيًا عميقًا.

4. الجوانب الفلسفية:

القصة تقدم رؤية فلسفية تأملية حول الوجود والهوية والمصير. شخصية "المسموم" تمثل الإنسان الذي يحاول أن يعيش بسلام مع نفسه، لكنه يجد نفسه محاصرًا داخل تصورات الآخرين عنه. هذه الفكرة تعكس الوجودية في أبهى صورها؛ الإنسان يصنع وجوده ومعناه بنفسه، لكن المجتمع يقف كعائق دائم يحاول فرض هويته وتصوراته عليه.

كما تتناول القصة فكرة الموت والانتحار بطريقة غير مباشرة. "المسموم" لا يسعى للانتحار رغم أن المجتمع يفترض ذلك. إنه يحاول البحث عن الخلاص من خلال الطبيعة (النهر)، لكنه في النهاية يموت بطريقة تعكس العجز عن الخروج من قيد المجتمع. هذا التصادم بين الذات الفردية والجماعة يفتح الباب لتأملات فلسفية حول مصير الإنسان في ظل مجتمع لا يرحم، ويضعنا أمام سؤال مركزي: هل يمكن للإنسان أن ينجو بنفسه في عالم تحكمه الأحكام المسبقة والنبذ؟

5. الجوانب الرمزية:

رمزية السمّ تمتد عبر النص لتشمل عدة مستويات. السمّ هنا ليس مجرد مادة تسببت في عزلة المسموم، بل هو رمز للمخاوف والتصورات الاجتماعية التي تتغلغل في النفوس وتؤدي إلى نبذ الفرد المختلف. يمكننا اعتبار السمّ رمزًا للخطيئة الموروثة، حيث يعاني "المسموم" من ذنب لم يرتكبه هو شخصيًا، بل ورثه عن والدته بسبب شائعات المجتمع.

النهر، الذي يمثل التطهر في بعض الثقافات، يتحول إلى مسرح للموت، مما يعكس قسوة المجتمع الذي لا يسمح للفرد حتى بتطهير نفسه من وصمة العار. هذا يعكس نظرة فلسفية عميقة حول مفهوم الطهارة والخلاص، حيث يُحرم "المسموم" من فرصة الخلاص والاندماج، ليس لأنه لا يريد ذلك، بل لأن المجتمع لا يسمح له بذلك.

6. الخاتمة:

"المسموم" قصة غنية بالرمزية والمعاني الإنسانية العميقة. تتناول قضايا اجتماعية ودينية وفلسفية ببراعة أدبية عالية، وتعكس الصراع الأبدي بين الفرد والمجتمع، بين الرغبة في التطهر والبحث عن الخلاص، وبين القيد الذي يفرضه الآخرون على الذات. القصة تطرح أسئلة حول الهوية، الوجود، والعلاقة مع الجماعة، وتترك القارئ يتأمل في قسوة الأحكام المسبقة وكيف يمكن أن تحطم أرواحًا بريئة تبحث فقط عن القبول. إنها قصة تصفع المجتمع في وجهه وتدعو للتفكير النقدي في كيفية تعامله مع المختلف والمهمش.

***

طارق الحلفي/ شاعر وناقد

..............

الرابط

https://www.almothaqaf.com/nesos/977991

في المثقف اليوم