قضايا

عبد الحليم لوكيلي: في الأساس النظري لفكرة المساواة الطبيعية بين البشر

عرف التصور اليوناني الميتافيزيقي للعالم، تغييرا في بنيته ومكوناته، نتيجة مجموعة من التحولات الفكرية والمعرفية التي وقعت فجر الفكر الأوروبي الحديث، خاصة ما يتعلق بالثورة العلمية الفلكية التي أحدثها العالم البولوني «نيكولاكوبيرنيك» (1473م-1543م). ذلك، أنه قدم افتراضا رياضيا مفاده أن الشمس هي مركز الكون[2]، كحل لمسألة فلكية تدعى بمشكلة تحير الكواكب، بوصفها مشكلة أفرزتها مجموعة من الأرصاد الفلكية التي أفادت بأن ما يوجد في عالم ما فوق القمر بلغة أرسطو، يحمل بعض الفوضى والفساد، حيث تم رصد تغير بعض النجوم-الكواكب من موضع إلى آخر [تحير الكواكب=تحيرها من موضع إلى آخر]، الشيء الذي يعني أن العالم المتسم بالنظام والكمال في الكسمولوجية الأرسطية، يحمل بعض الصفات والخصائص التي كانت موجودة في عالم الفساد والتكون. فالفوضى -نظريا- لا تحكم عالم ما تحت القمر حسب الأرصاد الفلكية التي تمت في القرنين 14م و15م، وإنما عالم ما فوق القمر أيضا. وإذا كان الأمر كذلك، فإن السؤال المطروح هو؛ هل يتسم العالم بالفوضى حقيقة؟

في الواقع، إن ما يبدو للحواس بحسب مشكلة تحير الكواكب هو الفوضى، لكن ما يبدو للحدس العقلي هو أن المشكلة لا توجد في الكواكب-النجوم في حد ذاتها، وإنما في الذات الراصدة. فاعتبار الذات ثابتة لا تتحرك يجعلها تنظر إلى ما يتحرك أنه فوضى، والحال أن العالم ليس فوضويا، بل منظما تنظيما محكما ووحدويا، ليس فيه فوق أو تحت، بل كل في فلك يسبحون. وبهذا المعنى، سيتم توحيد العوالم الأرسطية في عالم واحد يبدو بالحس فوضويا، لكنه يحتاج إلى دراسة عقلية منظمة لاستنتاج قوانينه ونواميسه، التي تنظمه تنظيما محكما. وإذا أصبح العالم في التصور الميتافيزيقي الحديث واحدا وموحدا من حيث بنيته ونواميسه، إذ لا فرق بين فوق أو تحت، فإن ذلك يعني انهيار التراتبية الطبيعية نظريا بين فوق وتحت، وإذا انهارت هذه التراتبية الطبيعية، فستنهار معها التراتبية الطبيعية للأجرام والكواكب، من حيث إن الذي يضفي المعقولية والمعنى والأفضلية ليست الطبيعة نفسها، وإنما الذات أي ذات العالِم.

وبما أن علم الفلك هو أب العلوم، من حيث إن الفلاسفة والعلماء يستمدون منه بعض الأسس النظرية حول العالم، لتأصيل نظرية فلسفية بخصوص الإنسان والمجتمع، فإن لهذا التحول العلمي الفريد الذي أدى إلى انهيار الكصمولوجية اليونانية القائمة على تراتبية العوالم[3]، وما ترتب عن ذلك من انهيار للتراتبية الطبيعية، الأثر البالغ في ظهور مجموعة من المفاهيم الفلسفية الحديثة؛ كالذات، والحرية والمسؤولية...إلخ. إن انهيار التراتبية الطبيعية التي استند إليها فلاسفة اليونان في تأسيس نظرية سياسية، كان له تجليات في التصور الفلسفي للمجتمع والدولة. ذلك أن انهيار التراتبية الطبيعية بين الأجرام-الكواكب في التصور الكصمولوجي الحديث، يعني انهيار فكرة التفاوت الطبيعي الذي استند إليه أفلاطون-مثلا- في تصوره السياسي لطبقات المجتمع. وما دام التصور الكصمولوجي الحديث قد وحد بين العوالم، فإنه لم يعد للتفاوت الطبيعي أية فائدة، الشيء الذي يترتب عنه نظريا انهيار لفكرة التفاوت الطبيعي بين البشر على المستوى السياسي والاجتماعي، ومن ثم، ظهور فكرة المساواة كقيمة إنسانية، أما التفاوت فأصبح مصدره ما هو إنسي، وليس ما هو طبيعي.

هكذا، تم الانتقال في تاريخ الفكر الفلسفي من منظومة فكرية ومعرفية تجعل من فكرة التفاوت الطبيعي بين البشر أساسا لها في بناء نظرية فلسفية لمجال الحكم وتدبيره داخل المدينة-الدولة، تماشيا والنظام الميتافيزيقي لذلك العصر القائم على تقسيم العالم إلى عالمين لكل منهما طبيعته ووظيفته، إلى منظومة فكرية ومعرفية تجعل من فكرة المساواة الطبيعية بين الأفراد أساسا لها في إرساء مبادئ سياسية للحكم في الدول، تماشيا والكصمولوجية الجديدة القائمة على توحيد العوالم الأرسطية في عالم واحد ذي بنية ووحدة قانونية، بناء على قدرات الذات وإمكاناتها بوصفها مبدأ إضفاء المعنى والمعقولية.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - باحث في الفلسفة-المغرب.

.......................

[2] Nicolas Copernic. Des révolutions des Orbes Célestes, Trad. Alexandre Koyré, version Eélectronique, 1934, Ch.IV.

[3] Alexandre Koyré. étude d’histoire de la pense scientifique. 1eéd. )Paris: Gallimard, 1973(, p. 11.

 

في المثقف اليوم