نصوص أدبية
ناجي ظاهر: سائق الباص المُبجّل

منذ اللحظة الأولى لوفودها إلى كان صديقي بائع الكاسيتات، ووقوفها هناك بجسدها الميّاس ونظراتها الحالمة، شعرت بأنها لن تكون صبية عابرة في حياتي وأنني سأتوقف عندها طويلًا. تقدّمت من القاطع الخشبي الفاصل بينها وبين صاحب المحلّ، أرسلت نظرة متمعّنة إلى الكاسيتات المفرودة على القاطع. قالت:
- اريد هذا. وتناولت كاسيت لم أتبين عنوانه.. رغم رغبتي. ابتسم لها صاحب المحل وهو يقول لها:
- أعرف أنك تحبين عبد الحليم حافظ. اختيارك لأغنية "بحلم بيك.."، يقول انك توغلين في عالمه. تناولت الكاسيت من على القاطع الخشبي، وضعته في حقيبتها اليدوية، ومضت غير عابئة بنظراتي المُختلسة تجاهها. تجاهلت وجودي، كأنما هي أرادت أن تقول لي إن نظراتي المتسائلة لا تعنيها. بدا أن صديقي صاحب المحل شعر بنظراتي الشابّة الطرية تلك، فتوجّه إلي:
- هذه جواهر ابنة الحارة. اكتشفت عبد الحليم مؤخرًا.. قبل ثلاثة أشهر.. منذ اكتشافها له، دأبت على زيارة المحل كل يوم ثلاثاء.. لتشتري كاسيت إحدى أغاني العندليب. بعد صمت قصير تابع يقول: اشعر أنها راقت لك. ولم ينتظر تصريحي المتوقّع، وتابع يقول، إنها فتاة مُرهفة، أعتقد أنك تكبرها بثلاث سنوات. إنها مناسبة لك.. أرجو أن ترافقك في توديع العزوبية.. يكفي أنك بلغت ربع قرن من الزمان.
الهبت كلماته هذه خيالي.. الملتهب أصلًا، ورحت أتساءل عن سبب تجاهلها لي كلّ ذلك التجاهل، ولا أخفي أنني أردت أن أتحدث إليها، أن أقول لها إنني أنا أيضًا أحب العندليب، لا سيمات أغنيته تلك التي اشترت تسجيلًا لها. ولو فتحت لي مجاًلا للتحدث إليها لقلت لها إنني سبق وأنتجت لوحة للعندليب، شهد لها القاصي والداني، ورفعت أسهمي بين فناني البلاد، بل جعلت بعضهم ينظر إلي بنوع من الحسد، فيما دفعت بعضهم الآخر إلى تجاهلي وكأنما أنا شكّلت بتلك اللوحة خطرًا عليهم وعلى ابداعاتهم الفنية.
ابتعدت جواهر عن محل صديقي، حتى اختفت في منعطف قريب. قلت لصديقي:
- أوافقك الرأي.. أشعر أن بيني وبينها أكثر من قاسم مشترك.. لا سيّما فيما يتعلّق بحليم.
أثني صديقي على جواهر قائلًا:
- إنها أجمل وأعقل مزز الحارة.. تعال يوم الثلاثاء المُقبل.. فقد يكون نصيبك.. في الزواج والحياة.. معها.
انتهى ذلك الموقف، غير أن تفكيري بجواهر لم ينته، فقد رافقتني طوال طريق العودة إلى البيت في القرية المجاورة. وأكاد أقول إنها دخلت معي باب شقتي الوحيدة وأنني أغلقت الباب محاولًاأان أحول بينها وبين المغادرة.
فكّرت في اليوم التالي بزيارة دكان صديقي بائع الكاسيتات، حاضنًا في عيني وفي كياني كله صورتها الجميلة وهي تضع كاسيت اغنية بحلم بيك، وانطلقت باتجاهه. غير أنني ما أن شارفت على الوصول إلى دكانه حتى استسخفت موقفي، أنا الفنّان رسام المطربين العرب الرائعين، وعدت من حيث أتيت. توقّفت في المحطة القريبة من الشارع المحاذي لدكان صديقي بائع الكاسيتات، وأنا أقول لنفسي، دعها.. دع جواهر فقد تلتقي بها، يوم الثلاثاء القادم، حين تتفحص كاسيتات حليم لاختيار واحدٍ منها. ما إن قلت لنفسي هذه الكلمات، حتى فوجئت بها.. بجواهر ذاتها بشحمها ولحمها.. تهلّ على محطة الباص.. كأنما هي واحدة من حوريات الجنة.. نزلت إلى الأرض في المكان المناسب والزمان المناسب. أرسلت ابتسامة غامضة نحوها، إلا أنها تجاهلت ابتسامتي بل تجاهلت وجودي كلّه. توقّف الباص المنتظر، لأراها تصعد درجاته، وترسل نظراتها الساحرة الحالمة إلى سائق الباص، ولم تكتف بذلك وإنما راحت تتحدث إليه بكثير من الود، الامر الذي جعلني أتجاوزها وأجلس في المقعد الأخير. استرقت النظرات إليها.. إلى جواهر.. كانت تتحدّث بحميمية إلى السائق، ولفت نظري أنها تتحدّث إليه وكأنما هي تعرف عن مواعيد الباصات مثلما يعرف، وربّما أكثر، فقد تأخرت عن موعدك ثلاث دقائق. هل أستطيع أن أعرف السبب؟.. ابتسم السائق وهو يردّ عليها قائلًا:
- أعرف أنك تعرفين كلّ شيء عن الباصات ومواعيدها. صمت وتابع: تعرفين أن حركة السير دائمة التعسُّر كثيرًا ما تحول بيننا وبين الوصول في الموعد المحدّد.
انطويت على ذاتي وأنا أفكر فيما إذا كانت مرتبطة كلّ ذلك الارتباط بذاك السائق، وبقيت أتخبّط في انطوائي ذاك حتى لمعت في ذهني هاجسة، لو كانت تعرفه أكثر مما يُفترض، لما عاتبته على ذلك التأخر، وربّما كان أخبرها أنه سيتأخر قليلًا في الوصول إلى محطتها تلك. هذه إذن بارقة أمل، تعيد ما أوشك على التكسر بيننا من زجاج، إلى صلابته المختلطة بنوع من الهشاشة. فماذا تراني أفعل.. توقّف الباص في محطته الأخيرة، في مركز بلدتي. ترجّلتْ منه، احتضنت حقيبتها اليدوية وهي تختلس نظرة غامضة.. شعرت أنها غاضبة نوعا ما نحوي، وولّت مبتعدة عن تلك المحطة. تابعتها مسترقًا النظر إليها ومُتابعًا خطواتها المتهادية على ارض بلدتي حتى اختفت في أحد المنعطفات البعيدة. فكّرت باللحاق بها، غير أن صورتها وهي تتحدث إلى ذلك السائق، دفعتني للتوقّف وعدم المغامرة .. فمن ادرأني انها مرتبطة به بعلاقة حبّ حَلِمتُ بمثلها منذ وقعت عيني عليها في الامس؟..
لم أنم في ليلة ذلك اليوم.. التالي.. على لقائي المتوهّم بها، وكنت طوال الوقت أحاول أن أغمض عينيّ تهرّبًا من طيفها الضاغط على مُخيّلتي. الغريب أنني كلّما كنت أتهرّب من طيفها كان يعود إلي بإلحاح اقوى وأكبر. "هل هجم النصيب"؟، ردّدت بيني وبين نفسي، واستسلمت لوسن غامر.. رأيها خلاله تقترب منّي وترسل ابتسامة مُلهمة ساحرة.. تُولّي بعدها مُنطلقة نحو البعيد وإيقاع خطواتها.. دائرة ظهرها.. تتحوّل إلى موسيقى حَليمية في عالمي المُبدع الجميل. تابعتها حتى ابتلعتها.. هذه المرة.. منعطفات البلدة كلّها. وفتحت عينيّ.. بعد ذلك الحلم الجميل.. وأنا أشد على قبضتي الفنانة وأؤكد لنفسي أن ما جَمعه الله لن يفرقه بشر. "سأتحدث إليها .. يعني سأتحدّث إليها". قلت لنفسي وأنا أتمعّن في غرفتي كابية الأضواء.
أخيرًا زارني ملك الكرى، احتضنني. قال لي اذهب إلى صديقك بائع الكاسيت.. زره في الغدّ.. فقد تلتقي بها قريبًا من دكانه، وقد تحصل فرصة غير متوقّعة لأن تتحدّث إليها. في صباح اليوم الثالث للقائي ذاك بها، حملتني قدماي إلى دكان صديقي بائع الكاسيتات، لكن ما حدث هو أنني قبل أن اترجّل من الباص وأنطلق باتجاه دكانه، حتى انتابتني حمية تميّزت بها.. "لا، لا أنا لن أذهب إلى هناك". هكذا وجدت نفسي في لحظة اليوم السابق ومحطّته الشكّاكة. أرسلت نظرة إلى ساعة القرية المُنتصبة بحيرة قُبالة محطة الباص.. كانت تشير إلى الثانية عشرة، إنه موعد الباص ذاته.. في الساعة المحددة تمامًا توقّف الباص لأجد نفسي أصعد درجاته الثلاث واتخذ مقعدي القريب من السائق. لم يكن سائق اليوم السابق، كان شابًا آخر. وقبل أن ينطلق الباص.. سمع الجميع.. نداء يطلب منه أن ينتظر قليلًا. انتظر السائق على غير عادة سائقي منطقتنا لتقع المفاجأة الغريبة الثالثة،" الثالثة ثابتة"، قلت في سرّي. كانت الراكبة المتأخرة قليلًا جواهر ذاتها. ما إن رأيتها حتى أخليت مقعدي القريب من السائق منتقلًا إلى المقعد الآخر. صعدت جواهر درجات الباص الثلاث كأنما هي غزالة طرية العود.. قفزت عنها مجتمعة. لتقف قُبالة السائق ولتأخذ في التحدث إليه وكأنما هي تعرفه أكثر من سائق اليوم السابق. اعتذرت جواهر عمّا تسبّبت به من ازعاج للسائق. واتخذت مقعدها القريب منه، لأفاجأ بالسائق يتحدّث إليها مُخبرًا إياها أن خيرًا حصل، وأنها ليست غريبة عن شركة الباصات.. وفهمت مما قاله أنها مُهتمة بالشركة وباصاتها.. وأن علاقة اخوة تربطها بجميع سائقيها. أنار ما استمعت إليه بكلّ جوارحي.. ما استغلق عليّ فهمه من أمر جواهر.. واتخذت قراري المصيري الأول.. أنا ينبغي أن أتحدّث إليها. لذا ما إن ترجّلت جواهر من الباص، حتى حاولت أن استوقفها للتحدّث إليها، غير أن ما حدث خالف كلّ توقّعاتي، فقد انطلقت بسرعة البرق في الشارع القريب، لأراها تختفي في المنعطف الثالث. وعبثًا حاولت أن أعثر عليها.. غابت مثل حلم ساحر ومراوغ.. في الشوارع والساحات.
مضى ذاك النهار دون أن أعثر لجواهر على أي أثر، أما الآن وقد ابتدأت الصورة العامة.. لها ولي.. تتضح، فأنا لا بدّ مِن أن أعرف جليّة الامر. استقللت الباص المتوجّه إلى بلدتها المجاورة. دخلت دكان صديقي بائع الكاسات، فابتسم وهو يقول لي بدون مقدّمات:
- لقد بهرتك جواهر.. أنا تحدثت إليها بشأنك.. فأخبرتني أنها شعرت باهتمامك بها .. إلا أنها مع احترامها لك ولفنّك.. ترجو أن تتعرّف على سائق باص جدّي وغير عابث لترتبط به. "افهم من هذا أنها لا تفكّر إلا في سائقي الباصات؟"، سألت صديقي، فردّ قائلًا:" نعم هي كذلك.. كّل ما تتمنّاه هو أن ترتبط بأحد السائقين المهرة.. لهذا هي تتحدّث إليهم جميعًا وفي بالها أمل لا يغيب بالارتباط بأحدهم". " والآن ماذا بإمكاني أن أفعل وقد فهمت سبب إعراضها عنّي وإقبالها على سائقي الباصات"، سألت نفسي.. و.. تتابعت الأسئلة تدنيني وتبعدني عن جواهر، إلى أن عرفت الطريق القوّيم لإعادتها من كلّ المنعطفات القريبة والبعيدة.. سأتعلم فنّ قيادة الباصات.. لا بُدّ مِن أن أتعلّم ما يُرضي جواهري الغالية أولًا ويرضيني ثانيًا.
***
قصة: ناجي ظاهر