نصوص أدبية

سعاد الراعي: الطير يرقص مذبوحًا من الألم

في لحظة وداع لبلغاريا كانت أقرب إلى مرآة تنعكس عليها تفاصيل الزمن، وتتداخل فيها أصداء الماضي بتوقعات المستقبل في مشهد يضج بالمشاعر المتناقضة. لقد كشفت لها صورة مصغرة لوجودها، الوجود الذي بدا لها بمثابة خلاصة لكل ما مرت به وبداية لكل ما ينتظرها.

جاء قرار الحزب بالانتقال إلى اليمن الجنوبي، انتدابًا للعمل وخدمة للتجربة الاشتراكية الناشئة هناك. وكان هذا التكليف إضافة أخرى إلى سجل رحلتها الطويلة، المحملة بالآمال الكبيرة، والتوقعات المثيرة، رغم ثقل الهموم داخلها.

كانت ليلة الوداع في الأكاديمية مزيجا من الاحتفال والترقب والرهبة، اختلطت فيها أصوات الموسيقى الصاخبة مع رائحة ونكهة الطعام النفاذ وأضواء القاعة الساطعة، مما أضفى على المشهد بريقا فريدا وغريبًا، كأنها لوحة سريالية، او كرنفالاً موشى بلحظات احتفالية لا تنسى.

بعد كلمات الوداع التي تحدثت بها إدارة الأكاديمية، بدأت الدبكات الشعبية البلغارية، تلك الرقصات التي اشعلت الحضور بالحيوية والنشاط والحبور واضاءتهم بالمرح وعطرتهم بالبهجة، كنسيم شذي يتخطى حدود التعبير.

انخرط الجميع في الدائرة، باستثناء قلة وقفوا على أطراف القاعة يراقبون بعينين مفعمتين بالاستمتاع أو التأمل. هي وزوجها كانا ضمن هؤلاء، صامتين في ركن هادئ، حيث تتشارك نظراتهما أسئلة لم تُسأل، وتغرق أحاديثهما في صمت أعمق من كل ما يمكن قوله.

 تقدم المدير مبتسمًا، حث المجموعة الصامتة على المشاركة. التفت إليها وإلى زوجها، ملتمسًا منهما الانضمام. بادرت بالاعتذار بلباقة، معللة بأن عليها تفقد طفلها النائم في القاعة المجاورة بين الحين والآخر. لم تكن تتوقع حينها أن يبادر زوجها، ببرود ظاهري وإصرار خفي، ليقول: "سأعتني بالطفل"، كانت تلك الجملة غير المتوقعة صاعقة غير متوقعة، أدهشتها بقدر ما أربكتها. شعرت للحظة أن الأرض تهتز تحتها، وكأنها أُجبرت على مواجهة شيء أعمق من مجرد رقصة عابرة، شيئًا طالما تهربت منه.

وجدت نفسها تسير نحو حلقة الرقص، كما لو أن قدميها تتحركان بإرادة غير إرادتها. لم تكن تعرف شيئًا عن قواعد الرقص، ولكنها شعرت بأنها تُساق إلى هناك لا لتؤدي عرضا، بل لتطلق العنان لشيء مكبوت في أعماقها. وسط الحلبة، مع أولى الخطوات المرتبكة، أغمضت عينيها، مستسلمة للحنٍ أشبه بشريط حياة يمر أمامها. في تلك اللحظة، لم تكن ترقص، بل كانت تبوح. كل خطوة، كل التفاتة، كانت كشفًا مستترًا عما حملته روحها طويلاً.

 رقصت وكأنها تفرّغ أثقال سنينها دفعة واحدة. مرّت أمامها صور الأيام التي نقشت على قلبها ندوبًا لم تلتئم بعد. استعرضت ماضٍ أرهقها بتحدياته، وحاضرًا يثقلها بآلامه، ومستقبلًا يكتنفه الغموض. شعرت للحظة بأنها تطير في فضاء لا نهاية له، تحررت من المكان ومن الزمن.

مع تسارع الإيقاع، شعرت بأنها تنفصل عن الجسد لتسبح في فضاء لا يحده سوى إيقاع قلبها المتسارع. نبضات قلبها تتسابق مع الموسيقى. شعرت أنها تتقاطع مع كل قصة كانت تسكنها. عذابات الغربة، قسوة الأحلام المؤجلة، وحتى فرحة الأوقات العابرة التي كانت تخفي تحتها حزنًا دفينًا. كل ذلك انفجر في حلبة صغيرة، تحت أنظار ممن حولها الذين توقفوا عن الرقص واكتفوا بالمشاهدة مندهشين.

كانت مغمضة العينين، وحين فتحتهما، كان الجميع يصفق بإيقاع متناغم مع الموسيقى، وكأنهم يشهدون مشهدًا لا يُنسى. عيونهم حملت شيئًا أشبه بالإعجاب، وربما الحيرة. توقفت فجأة، ألقت تحية خفيفة عليهم، ثم انسحبت بخفة، وكأنها تحررت من كل ما كان يثقلها.

لكن تلك الخطوات التي اخذتها للخارج لم تكن عادية. شعرت وكأنها تسير في فضاء جديد، خفيف وواسع. بدا لها أن كل تلك الصخور الجاثمة على صدرها قد سقطت، أصبحت روحها أخف، حرة طليقة، أشبه بطائر حلق عاليًا بعد سنين من القيد. تلك الرقصة كانت شيئًا يشبه الاعتراف، طقسًا سريًا لمصالحة الذات، حيث واجهت كل مخاوفها وآلامها، ثم تركتها تسقط عنها واحدة تلو الأخرى.

حين عادت إلى حيث كان زوجها ينتظر، لم يتحدثا، تبادلا نظرة طويلة فقط، نظرة كانت كافية لتُقال فيها كل الكلمات التي لم تُنطق. كانت النظرة بينهما أشبه برسالة غامضة تحمل مزيجًا من العتاب والتفهم. 

تلك الليلة، لم تكن مجرد وداع لأكاديمية، بل وداع لجزء من الذات. وكأنها قالت لنفسها وللعالم: "ها أنا أرقص كالطير مذبوحة من الألم، ولكنني سأظل أطير."

**

سعاد الراعي

في نصوص اليوم