نصوص أدبية
قصي الشيخ عسكر: HIV.. بل هو دم أزرق
رواية قصيرة ببعض التوثيق
تقديم
منضدة
قلم حبر
ورقة
غير هذه الأشياء، في هذه اللحظة لا تثير انتباه الدكتور غسان إسكندر مدير مصرف الدم:
ففي باله أحجيات قديمة تواصلت حتى الآن:
من قبل اندلعت حرب وكان البشر وقتها يفكرون هل الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة؟
حرب أخرى قامت وعلى الأرض من يفكر هل الملائكة ذكور أم أناث؟
وأنا
أنا الدكتور غسان المعروف بذي خبرة طويلة في حقل الطبّ تجمعت لديّ من سنين أفكّر والحرب تجري من حولي:
من أين جاء هذا الفايروس القاتل؟
أهو من أوروبا أم إفريقيا؟
من دم فاسد أم شذوذ؟
كان يودّ أن يكتب شيئا ما يحلّ اللغز الذي جاء خلال الحرب، فأخذ يمرر القلم على الورقة باتجاهات مختلفة.. الشمال.. اليمين.. الجنوب اليسار..
مارس الشخبطة مثل طفل يلهو. ثمّ ملأ فمه بالهواء وفجأة نفخه.. ونهض وهو يلقي بالورقة في صفيحة الأزبال.
1
الإرهاق
. تورم الغدد اللمفية.
الطفح الجلدي.
ألم المفاصل أو العضلات
أو التهاب الحلق.
كلّ مالاح يكون عابرا بعض الأحيان
وما قرأنا عنه في المجلّات الطبية تحقّق فعلا
في البدء لم يخطر ببال الدكتور غسان أنّ هناك شيئا ما يمكن أن يحدث ضجة أو يؤدّي إلى مأساة، لقد جرت الأمور قبل اليوم على وفق المعتاد. الجلوس الساعة السابعة، الفطور، الحديث مع الزوجة، مرافقة الابن بالسيارة إلى المدرسة، ومن حسن الحظ أنه أرسل ابنه الأكبر إسكندر إلى أمريكا يدرس الهندسة سينصحه بطرق كثيرة ألا يعود وإن انتهت الحرب..
الحادث الأخير الذي أثار قلقه، جعله في وضع حرج للغاية:
ماذا تكون ظاهرة اليوم، وهل شكّه في محله، قبل أسبوع زاره المريض، يشكو من زكام. سأله بخبرة الطبيب المحترف:
- لا تخف يبدو أنها حالة برد
قال عبارته ليبعث في المريض روح البهجة وإن كان في بعض ارتياب من نحول المريض والإرهاق وصفرة تركها الزكام الذي أعقب انفلونزا شديدة على وجه المريض:
- لكنّه يادكتور لازمني شهرا ولم أشف منه.
- زكام بعد انفلونزا لا تنس أنّ مناعتك ليست على ما يرام.
وصف لمريضه بعض المسكنات والمقويات، وبعد أسبوع عاد في أسوأ حال.. تضاعف الإرهاق.. فاضطر الدكتور إلى مراجعة ملفه من جديد.. ولم يكن في باله أيّ احتمال يمكن أن يثير القلق أو الشّكّ!
تحليل دم..
المريض (جواد علي محسن) من مدينة الثورة.. كان قد راجع مصرف الدم في المشفى الجمهوري، هل يعني ظهور الأعراض عليه أنّه مارس الجنس مع ذكر أم انتقل إليه المرض عن طريق زوجته؟
هذه قضيّة أخرى تمسّ العرض والشّرف، والطبيب لايجرؤ أن يضع نفسه أمام شبهة ما واتهام عرض زورا، ولا يمكن أن يسأل مريضه إن كان لاط بذكر ما أو ليط به، وفي البدء قبل أن تتّضح الأمور ظنّه حدثا عابرا
بعض الإرهاق
الجهد
ردّة فعل الجسد
قبل الشكوك كتب بعض المقوِّيَّات، والفايتامينات، ونصح المريض ألّا يباشر أيّ اتصال بزوجته مادام قد أجرى قبل أيّام عمليّة جراحيّة، أمّا شكوكه فقد ازدحمت حين عاد المريض بأسوأ حال. رجع بعد يومين شبحا، لايقاوم الزكام، ولا الجروح الصغيرة، فأمر أن يجرى للمريض فحص دم..
عندئذٍ
كانت المفاجأة
الصدمة
اللامعقول الذي حلّ بالبلد خلال الحرب، الجبهة تشتعل، طائرات، مدفعية:
قصف عنيف
بيانات في الإذاعة
الشارع يضطرب، يصحو
يضطرب ثانية
يهتاج مع كلّ بيان
وعلى وقع آخر يفاجئ العالمَ كلَّه فايروس يسري كما يقال من إفريقيا، يحتلّ أوروبا، ويقتحم الحصون حتّى تغزو آثاره عيادة المشفى الذي يعمل فيه.
كلاهما الحرب والفايروس مرت عليهما بضع سنين، ومازالا متوهجين، وقد ازداد قناعة أن يصفي عيادته، ويهاجر في أقرب فرصة تلوح له، وهو في السيارة قال لابنه (لمبيب) اكان يوصيه به كلّ يوم وكأنّه يحرص على إعادته لكيلا يغيب عن باله:
- حاول أن تحصل على معدل عال هذه السنة لكي تدخل كليّة الهندسة مثل أخيك فرصة رائعة خمس سنوات تبعدك عن شبح الجيش.
- وهل تظن الحرب تطول يا أبي؟
السؤال يشغله دائما.. متى؟ الله أعلم!.. في ذهنه شئ ما لم يبح به إلا إلى زوجته.. الهجرة.. وحدها هي التي تنقذه هو وابنيه.. ماذنبنا نحن.. كثيرا ماسأل نفسه: ما الذي يجري؟ حرب بين دولتين مسلمتين.. ماذنب القوميات الأخرى تُطْحَنُ فيها.. الصابئة يموتون.. والأزيديون. ونحن الآثوريين، وليت هناك بوادر للنهاية. في هذه الحالة كان الدكتور غسان يفضل أن تبتلعه ولاية ديترويت كما ابتلعت غالبية المسيحيين لكنه لا يرغب أن يتفث ما يفكّر به أمام ابنه؟
- العلم عند الله!
ترجل التلميذ عند باب المدرسة وواصل الطبيب إلى المشفى الحكومي، ليقضي ساعات العمل ثمّ يعود إلى البيت فيتناول غداءه بعدئذٍ يدخل في قيلولةٍ ثمّ يذهب إلى عيادته الخاصّة، وكان معظم المرضى الذين نقصهم فاكتور (8 و9) يقصدون مركز التبرع بالدم الذي يشرف عليه في المشفى الحكومي، كانوا يأتون إليه في عيادته الخاصة يعالجون عنده.. يثقون به، وبخبرته، ولشدّ ما صدمته حالة مريضه. سأل بتردّد وكان قد حسب ألف حساب قبل أن يسأل:
- قل لي سيد (جواد) هل أنت متزوّج؟
- كلا
- مع من تعيش؟
- أبي وأمي وثلاثة إخوة وأخت.
وبتردد أكثر:
- كن صريحا معي عدّني صديقا. زإنس أنّي طبيبك بل الذي أمامك صديق هل مارست الجنس؟
فأطرق خجلا:
- في بداية بلوغي مع بغي.
- منذ متى تقريبا؟
- لكن دكتور علام السؤال؟
تطلّع في عيني المريض بنظرة إشفاق:
- مجرّد سؤال خطر بذهني.
بعد بلوغي بثلاث سنوات في سنّ الثامنة عشرة
- ذلك وقت بعيد (بضحكة صفراء) أكل الدهر عليه وشرب!
فردد المريض خجلا كنت مراهقا وتعرف دكتور الكبت الجنسي وليس هناك من مجال سوى مدينة البغاء.. كنت في الثامنة عشرة وأنا الآن في الأربعين هي المرّة الأولى والأخيرة (كان الخوف يدفعه للثرثرة) دكتور هل وجدت عندي مرض السفلس أم الزهري؟
وتجرّأ ليواجه مريضه بسؤال غير متوقّع:
- قل لي هل أقمت علاقة مع رجل مثلك (بتردّد أشبه مايكون بتأتأة مصحوبة بخوف): يعني بسبب الكبت؟
فنطّ غاضبا وقد جحظت عيناه، وتهدّج صوته، فبعث ذلك الرعب في نفس الدكتور:
- ماذا؟ ماذا تقول دكتور؟ إلى هذا الحدّ، والله لولا أفضالك عليّ، هناك في مصرف الدم، وهنا في العيادة، لكان لي كلام معك. أنا شخص عاديّ وأنت طبيب لك مكانتك..
فوجدها الطبيب اللحظة المناسبة لكي يقاطعه، ويفاجأه:
- صدقني أنا حريص عليك وعلى سمعتك إنّي فقط أسألك لأنّ نتيجة التحليل أثبتت أنّك مصاب بالآيدز.. نقص المناعة!
فبهت، وتهاوى على الكرسيّ بعينين جاحظتين، جمد من رأسه حتى أخمص قدميه، وهمس مع نفسه: ماذا؟ ماذا؟ معقول؟ ليلوذ بعدها بالصمت، في حين واصل الدكتور غسان:
- الأمر ليس بالهين، مع ذلك سنفحص المصل الذي أخذته آخر مرّة
وتوقف لأنّ (جواد) انخرط فجأة في بكاء طويل، ونشيج عميق، وقال متضرّعا:
غير معقول. أنا بعيد عن العواهر واللواط، والعياذ بالله، سمعتي وحياتي، يمكن أن يكون الدم الذي اعتدت عليه من المصرف.
فقاطع:
- محتمل لكن يمكن أن يكون من عينات سابقة، وهذا أيضا احتمال، الطب لا يملك دليلا جازما لأن العينات.. الأمصال السابقة لاتبقى طويلا عندنا فكيف نثبت أنّ أحدها ملوّث، والقضية لن تكون بيدي في مثل حالتك إن لم يكن لدينا دليل، سيتدخل الأمن والشرطة.. يدّعون أن هناك مرسوما يقضي بإعدام من يمارس اللواط.. (وهزّ رأسه هزّة عنيفة) أمر فظيع.. الله يكون في عونك.
فقال (جواد) بصوت ضعيف متهالك:
- أقسم لك أن لاشئ وليست هذه أخلاقي.. (ثمّ بتوسّل وذلّة) هل يمكن إعادة فحص الدم دكتور.. أرجوك يمكن أن يكون هناك خطأ في التشخيص.
فنهض، وقال مواسيا:
- سأفعل ذلك.. أنت شجاع وآمل أن تتقبّل الأمر الواقع.
2
كان على الدكتور غسان أن يتحرّك في مكان آخر
هناك احتمالات عديدة تدفعه ألّا يسكت
ليس ما يدفعه، هذه المرَّةَ، قَسَمُ أبقراط
ولا قصة مريض يمكن أن يكون مارس اللواط أو زنا بإفريقيّة تعيش في العراق..
الأمن.. الشرطة.. مرسوم رئيس الدولة، مالم يعترف المريض أنّه مارس الجنس مع عابرة سبيل، إفريقية. صوماليّة.. سودانية، مصريّة، أو من الفلبين جاءت تعمل في العراق.. ولعلها غادرت فسيكون عرضة للشبهات..
ميت.. ميت في كلتا الحالتين.. بمرض نقص المناعة.. أم العقاب الرسميّ..
في مثل هذه الأجواء لا يمكن للدكتور غسان أن يسكت، فليفترض أنّه لم يكن دما ملوثا، وليفترض أن المريض كذب عليه، وهناك احتمال أن العدوى جاءت من أفريقية أو أفريقي ممن يعيشون في بلد يعيش حالة حرب، وأجواء مشحونة بالحماس، وهو أوّل من اكتشف قضية الفايروس، مع ذلك لا يستبعد الأفارقة فكلّ التحقيقات التي تصله من أوروبا والمقالات، والمحاضرات تدّعي أنّه مرض غزا العالم من إفريقيا، وهاهو يتسلل إلى العراق مثل شبح خفي.
لم يكن أمامه من حلّ سوى أن يقابل مدير المشفى، الدكتور (صدقي وافي) هناك احتمالان لابدّ منها: الجنس واللواط، أو الدم وتلك قضية تخص المشفى والعلاقات الدوليّة:
قال الدكتور بعد أن استفاق من المفاجأة الغريبة:
- مصل الدم نستورده من الخارج ويخضع لرقابة صارمة.
- لنفرض أنّ الدم ملوّث؟ كيف تتصرف؟
- سنتصل بوزارة الصحّة.. أقصى ما نستطيع فعله.
- ماذا لو قصدني مريض آخر أصيب بنفس المرض.
هزّ المدير رأسه واثقا من قضايا كثيرة تخصّ المشفى تحت إدارته:
- البلد ملئ بالأفارقة والآسيويين والممرضات الكوبيات هؤلاء الأجانب الجنس عندهم مفتوح وبلا حدود فلا أستبعد أن يكون المرض انتقل عن طريق الجنس أقول الجنس لأن البلد يخلو من متعاطي المخدّرات..
- مع ذلك لنضع علامة استفهام على الدم.
المدير متأففا:
- الدم الحالي نقي مئة بالمائة وأظنّك تتتفق معي، ليس لدينا معلومات تشكك بالأمصال السابقة التي ذهبت للمرضى، ومادام الدليل ضعيفا على الدم فالمريض نفسه يتحمّل المسؤوليّة.
- لكن ماذا عليّ أن أفعل؟ أُصْبِحُ رجل أمن، وماذا عليك أن تفعل لو زارك مريض أو مريضة في عيادتك واكتشفت أنّها مصابة بنقص المناعة وتعرف تماما أنّها ذات سلوك مرموق وبعيدة عمّا يبعث على الشكوك.
فقال الدكتور (صدقي) ببرود:
- عندئذ أبرئ ذمّتي، أتّصل بوزارة الصحّة.. لترى ماذا نفعل، فالبلد يعيش حالة حرب، والسكوت على فايروس قاتل يجعلني بصدد التستر على جريمة تخص بنظر الدولة الأمن القوميّ.
فردّ الدكتور غسّان يائسا:
- إذا شاع الخبر وانتشر فسيكون هناك تحقيق في الوقت نفسه سيتحرّك رجل الأمن، وقد نصبح نحن الأطباء مخبرين..
- هل لديك من حلّ آخر؟
فلاح يأس باهت على وجه الدكتور غسّان:
لا أبدا ولكلّ حادث حديث.
غادر مكتب المشفى المركزي، وهو يشعر بضيق في صدره، وبدت مسحة كآبة من أثر اللقاء المتناقض الملئ بالمفاجآت تلوح على جبينه. لم يواجه موقفا شبيها بما يجري مثلما عليه الحالة الآن. ربما، من قبل، غطّى بابتسامته العريضة _ولو من باب المجاملة- على ما يشعر به من قلق أو خوف، غير أن هاجس الخوف راوده بشكل هواجس تثير القلق يوما بعد يوم وعندما اندلعت الحرب، بعثت تلك الهواجس في نفسه الهاجس القديم - هاجس الهجرة- الحلم الذي تصوّره ملاذا ينتشله من كلّ ضيق وشعور بالحزن.
ليس هناك من حلّ يلوح في الأفق
وليس هناك من حلّ بديل..
حين وصل المنزل قابلته زوجته (روز) بروحها المرحة.. كانت تحتفظ بخفتها ورشاقتها وتتصرف معه بروح شابة في العشرين، لأعلّه اعتاد ألّا يحدّثها قط عمّا يجري له في العمل حرصا منه على أن تبقى أجواء البيت مرحة، والتزاما بقسم قديم يحثّه على ألّا يفشي سرّ المريض، وأخيرا أطلّ (لبيب) من غرفته، وراحت الأمّ تعدّ المائدة..
قال وقد حاول أن يتماسك شأنه كلّ يوم:
- كيف أنت والمدرسة؟
- ممتاز. لا شئ يقلقني.
- أهناك من صعوبة تواجهها في درس معين لأتفق مع مدرس يأتيك للبيت.
أبدا ليس هناك من درس صعب حتّى درس اللغة العربية الذي لا أستسيغه درجاتي فيه ممتازة.
وقالت الأم السيدة (روز)
عال باسم العذراء نلمس الخشب
آمل أن تدخل الطبية أو الهندسة مثل أخيك!
وفي ساعة استراحته بعد الغداء، بثّ لها ما يجول بنفسه، قال إنّه يعجب بعزلة (لبيب) وصمته، وقلّة اختلاطه بالتلاميذ، والحقّ إنّه كان يتحدّث على وفق ما يراه من ساعات قليلة يقضيها في البيت فدوامه يبدأ في المشفى في الساعة الثامنة، وفي الثالثة يصل المنزل، يتناول غداءه، يغفو ساعة ويغادر إلى العيادة الساعة الرابعة فلا يعود إلى المنزل إلّا التاسعة لكنه، مع أسوأ الاحتمالات، يبدو مطمئنا على نتيجة ابنه، الطبّ أو الهندسة، وإن كان يفضّل الهندسة، رغبته الحقيقية التي حال بينه وبينها المعدّل العالي الذي كان قد حاز عليه في نهاية الدراسة.
وصل إلى العيادة ومازال ذهنه مشتتا بين العاملين (9) والعامل (8)، في البيت خلال ساعتي الغداء والراحة تجاهل الكلام في الموضوع، وحالما وصل طلب من سكرتير العيادة أن يبدأ مع المرضى، فدخلت عليه مريضة الدم (نجاة قاسم) كان يعرف مرضاه الذين يأتون إلى عيادته، ويحفظ أسماءهم، رآها شاحبة كثيرة العطاس في يدها خدوش حديثة. كانت أمها ترافقها شأنها في كلّ زيارة إلى المشفى أو العيادة
بدأت الأم بالكلام:
- دكتور هذه المرة الأمر اختلف، قبل عشرة أيام جاءت (نجاة) إلى المشفى شأنها كلّ مرّة، وأخذت المصل وقبل يومين شعرت بالتعب، والإرهاق، سعال دائم، وإسهال، أنت طبيبنا دكتور ورئيس مصرف الدم أكثر واحد خبرة لعلّ المصل الأخير لم يناسبها.
فابتسم مجاملا:
- كيف لم يناسبها ليسمن دم لا يناسب.
قالت نجاة بصوت مرهق:
- أمّي تظنّ أن بعض المتبرعين لهم دم حار يُرهق المريض الذي يأخذه.
فتأملّ قليلا قبل أن يجيبها، سيدة ساذجة في سذاجتها بعض الواقع.. ليس المصل الأخير الذي فحصه بنفسه كان مصلا لدم حار، هو مصل سابق، اللص.. المرض الخبيث.. المخاتل الذي لا تظهر عوارضه بيوم أو يومين، زاده الوضع الجديد أنّه نقص المناعة..
الآيدز
HIV
أصبح يحارب الزمن على أكثر من واجهة.. الهجرة.. ذلك الحلم الذي بدأ يلحّ عليه في هذه الظروف.. الحرب على الحدود.. والحرب الخفية.. يشعر بأسى وأحيانا تأنيب الضمير. لو تحقّق الأمر لألقى بعض اللوم على نفسه فهو مدير القسم.. لحظات ينفي عن نفسه أيّة تهمة.. ألقى نظرة على مريضته التي قبعت منكسرة على الكرسي، وقال ملاطفا:
- تشعرين بضيق في النفس؟
- نعم
- ألم في المفاصل؟
- نعم.. ريقي ناشف.
هي هي.. أعراض المرض الداهية التي قرأ عنها في المقالات المنشورة في المجلات الطبيّة، هي الحالة الثانية، فلا الزنا ولا اللواط، أوروبا تقذف السبب إلى أدغال إفريقيا وتتهم القرود، والأفارقة لا يعلمون، وثمّة من مكان ما يأتي المرض إلى الجناح الذي يعمل فيه خلسة، فيبصر عن قرب أعراضه على مرضى عيادته. يطلب من مريضته أن تستلقي على السرير، يضع السماعة في أذنيه. عمل روتيني لا ينفع ولا يضرّ. لا يريد أن يرعبها خلال هذه الدقائق، قبل أن يتأكّد، رفع السماعة عن أذنيه، وتوجه نحو المغسلة.. خاطب الأمّ:
- لا بدّ من تحليل الدم
قالها بثقة وندم، فهو يدرك السرّ ولا يعرف اللغز، وقد تحقّق بعد التحليل احتماله، ولم يكن أمامه إلّا أن يقصد طبيب المشفى، فيخبره بالحالة الجديدة، فتاة، غير متزوّجة، عذراء، لايحتمل أن يواجهها بأسئلة وقحة..
هل يسألها عن مضاجعتها لرجل، أم يتهمها يالشذوذ،
أمامه مأزق حقيقيّ
عادات
تقاليد
عشائر
شرف
سمعة العائلة؟
سيضع نفسه أمام عقاب صارم، لايقبله المجتمع، راح يواجه المدير بصراحته:
- ياسيدي أنا لا أشكّ في مرضاي، أنا أمام نهوة عشائريّة، وفصل، وديّة شرف إن سألت مريضة بالآيدز بتلك الصراحة ولا سبيل أمامي إلّا أن أوجّه التهمة إلى مصرف الدم وفاكتور 8 and 9
- صبرا لا تتعجّل وارتك لي الأمر..
- إلى متى؟
- ليست يومان بالكثير، فهناك حسابات أخرى.
وخرج من عند السّيد المدير مشوّش الفكر..
تائها
حائرا
كما لو يبحث عن إبرة في بحر..
لو لم يكن ابنه في الثانوية، لترك كلّ شئ على حاله وخرج.. يقدر هو وروز السفر إلى الأردن، ومنه ينسق للرحيل، كان يفكّر بالأشهر الدراسيّة الثقيلة القليلة الباقية.. هناك يمكن أن يدرس لبيب في إحدى الجامعات أو يتسلل إلى أمريكا بمساعدة بعض من أصدقائه، لايقدر أن يحارب على جبهتين.. إيران والحرب الخفيّة حرب الآيدز المسعورة الحف، ومهما ازدحمت الهموم والمشاكل فإنّه يمكن أن يتجرّد منها خلال صلاة اللليل قبل أن ينام. يتمتم ويصلّب، ثمّ يغفو مطمئتا ليجد تلك الهموم لاتغزوه في النوم بل تعود هب نفسها في الصباح أكثر ثقلا مما كانت عليه.
بعد ساعة، طلبه المدير، فهّرع إليه، حثّ خطاه إلى إدارة المشفى وشلّال من الهواجس ينتابه، وحين دخل لم يجد المدير وحده، كان معه الطبيب المشهور محمد جميل لافي، الذي رقي إلى درجة أستاذ في كلّيّة الطب، وتفرّغ لعيادته الخاصة، حيّاهما مصافحا ثمّ جلس يلتقط أنفاسه كأنّه قدم من مشوار طويل، وانتبه خلال ثوان إلى انزعاج ما يلوح على وجه المدير الذي قطع كلّ شكّ، وبادر بالكلام:
- هناك خبر آخر مزعج دكتور غسان أودّ أن تعرفه.. الآن لدينا حالة ثالثة لمرض الآيدز.
تساءل بعفويّة:
- لمريض في عيادتك؟
قال الدكتور (اللافي) بزيل اللبس:
أحد مرضاي، رجل في الأربعين أعرفه منذ أكثر من عشر سنوات، ينقصه فاكتور 9 ومن خلال مراجعاته لي أعرف أنّه زبون دائم لمصرفكم.
ابتسم الدكتور غسان بمرارة:
- ألم تشكّ في سلوكه وأخلاقه قبل أن تشكّ في المصرف.
- أعرفه رجلا متدينا لم يتزوّح بسبب المرض، فشككت أنّه يمكن أن يكون مارس الجنس مع عاهر أو مع ذكر لكنّه أقسم لي أنّه لم يقترف مثل هذه الخطايا عندئذ لم يبق إلاّ احتمال الدم الملوّث..
- عجيب (قال الدكتور غسان، والتفت إلى المدير) هل من إجراء ما؟
فهزّ رأسه وقال وهو ينفث الهواء بانزعاج:
- سأتصل بالسيد وزير الصحّة ثمّ أخبركما بما يجدّ من أمور.
3
لم يتوقّع الدكتور غسان، ولا الأستاذ اللافي أن تكون ردّة فعل الوزارة بشكل سلبي.. فقد وضعا مدير المشفى في موقف حرج، وأصبح الثلاثة أشبه بالمخبرين.. تنصلت الوزارة من أيّة مسؤوليّة وأكّد السيد الوزير أن كلّ الدماء القادمة من فرنسا نقيّة، وفرنسا كما يصفها الإعلام الرسمي دولة صديقة تساندنا في حربنا الشرعيّة، وتميل الظنون أنّها ترسل خبراء عسكريين يزورون الجبهة، اتهام مصرف الدم الحكومي، وقضيّة الأمصال الملوّثة، شائعة تهدف إلى تخريب العلاقة مع دولة صديقة قدّمت لنا خبرة عسكريّة وطبية، والشكّ يقع على المرضى أنفسهم.
الأخلاق
الفعل الدنئ..
اللواط الذي يحكم بالإعدام..
والوزارة غاضبة..
وهناك تعليمات جديدة تصل خلال ساعات..
وصل الدكتور غسّان إلى البيت مرهقا، حاول أن يخفي مزاجه العكر شأنه كلما ترك المشفى أو العيادة، ربّما في هذه اللحظة فلتت منه كلمة ذات نغمة عالية فانتبه، وعاد يمارس الهدوء المفتعل، بغشارة من يده أو برسم إشارة الصليب..
الهجرة وحدها.. الهجرة..
السفر بعيدا.
أين أنت ياديترويت..
هناك ملاذ الآثوريين الآمن..
لم يبق إلّا بضعة أشهر
غير أن الذي زاده حيرة كلام ابنه (لبيب) الذي لم يتوقّعه قد كان الثلاثة على المائدة، حين سأله:
- أصحيح يا أبي تفضّل أن أدرس الهندسة في الأردن لكن ماذا لو تفوقت في المعدل والطبية أولى.
فاندفعت الأم:
- والدك لن يجبرك إذا كنت ترغب في دراسة الطب شرط المعدّل.
الدكتور حاول أن يبدو بهيئة أكثر ارتياحا:
- أنا شخصيّا كنت أرغب في الهندسة لكن جدّك سخر مني قال لي وقتها هل أنت معتوه الطب أرقى مهنة مجموعك العام ستة وتسعون تريد أن تترك القمة وتنزل درجة أدنى!
- ذلك أفهمه لكن الذي يبعث في نفسي الدهشة ماذا عن تسفيري إلى أمريكا.
فاحتد قليلا ثمّ انتبه:
أريد أن أنقذك من هذه الأجواء ماذنبنا نحن المسيحيين بلدان مسلمان يتقاتلان والنار تحرق الآخرين نحن مثل الصابئة والأزيديين أخوك ضمنّا نجاته وبقيت أنت بعد أن نطمئن عليكما نلحق أنا وأمّك بكما.
فتدخّلت الأم بحماس:
- ألم تر أم (جورج) وهي تزف ابنها الأوسط إلى القبر شهيدا؟ و (نور) التي فقدت زوجها الرائد (حداد) وكانت تصرّ على أن يكون قيره من المرمر أهذا وضع يطاق والأكثر من هذا أنّ الجميع يكرهنا.
فانبرى الابن كأنّه يلقي خدبة حماسيّة:
- مع ذلك فنحن سكنا هذه الأرض قبل آلاف السنين، قبل العرب، هو وطن أجدادنا لو هاجرنا كلنا، هل يبقى مسيحي في العراق؟ ربّما الحكومة الحالية تصرّفت بحكمة حين جعلت طارق عزيز المسيحيّ وزيرا للخارجيّة.
فقاطعت الأم ساخرة:
- هذا عار والمسيح والعذراء.. عار.
خشي الأب أن يكون ابنه قد تعلّم الحماس المفرط من المدرسة وزملائه التلاميذ، فغلبت عاطفته على تفكيره عندئذ تدخّل:
- لو لم يكن طارق عزيز حزبيا لما جعلوه في منصب وزير الخارجية، ألم تره ذهب مع رئيس الجمهوريّة للعمرة، وظهر خلفه بملابس الإحرام !.
فأطلقت الأمّ ضحكة باردة:
- دجّال والمسيح دجّال
فاعترض الأب:
- لا أبدا هو صاحب مبدأ حزبي ومقتنع.. انضمّ إلى البعث منذ العهد الملكي ودخل معهم السجن
ولكي تقطع دابر الحديث، قالت:
- لكلّ حادث حديث، ربّما تنتهي الحرب، وقتها نقرر ماذا نفعل.
عندئذ نهض الدكتور غسان من على المائدة وهو يقول:
- والله سواء انتهت أم لم تنته ليكن فإنّ الرحيل هو الأفضل، والتفت إلى (لبيب) ليكن ذلك سرّا بيننا حتّى نرى كيف ينتهي بنا المطاف!
4
لاشئ يخفف عنه الثقل الجاثم على صدره..
الشعور بالخيانة وتأنيب الضمير
لاشئ سوى القس وكرسي الاعتراف
لن يستطيع راعي الكنيسة أن يفعل شيئا سوى الدعوى بالمغفرة، والدعاء بالسكينة، فهل تستطيع صلاة مقهورة أن تزيح عنه جبلا من الأسى، وفي أيّام الأحد، بسبب الوظيفة، لايقدر أن يذهب إلى الكنسية، ابنه، في المدرسة، (ديزي) وحدها تذهب بعض الأحاد وتعود كما لوخلقت من جديد، تنسى الحرب والموت وبُعد ابنها، وأي أحد تسنح لها فرصة للصلاة تتصل به من البيت تخبره قبل ذهابها، يتذكّر الاعتراف الأوّل في حياته حين نظر برغبة إلى (ديزي) لا ينفي أنّ رغبته لم تكن لتخلو من البراءة فوجد السيد المسيح يضع يده على كتفه، ويهمس بأذنه: فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ، عندئذ، انصرف للاعتراف حالما انتهت الصلاة، جلس على الكرسي، ورجا الإله الإنسان يسوع الابن:
ياسيدي، أيها الرب ليست نظرة شهوة بل رغبة في الزواج
وتحرك الكاهن فسقاه كأس المغفرة، فأصبحت ديزي زوجته..
ومابين الاعترافين والأخير الذي سيؤديه اليوم بون شاسع.
فجأة
ألحّ عليه الهاجس، فاستدعى معاونا له:
- سأذهب إلى أمر ما فلتكن مكاني وقد لا أرجع إلا يوم غد.
وخرج قبل أن يفلت الأحد من بين يديه، وقد وصل الكنيسة، والصلاة على وشك البدء، فترنّم مع جوقة المنشدين، وتلى صلاته ثمّ توجّه للكاهن، فجلس على كرسيّ الاعتراف.
راح يتحدّث بصوت قريب من البكاء..
يايسوع ابن الإله..
ليس هو خصاما
أو
إساءة
ولا تقصيرا
كما إنّي لم أسقط في معاشرة الرذيلة، والقسوة والعنف..
لا أظنّها نميمة، وليست هي بكذب
أو حسدٍ..
مشاعر لا ترضي الله
ولا خطايا الحواس
أنا بعيد عن القتل وعيني لا تجرؤ على إغوائي، ولست ممن يقربون الدنايا بالمس، ابتعد عن الدنايا، وأرسم إشارة الصليب كلما مررت ببيت بك، وأرسمها بعد أن أتلو صلاتي قبل النوم.
ياسيدي
أيّها الإله
أيها الرب يسوع
لا أخجل أن أبوح لك بالاسرار المستترة التي أراها ذنبا عظيما
خنت أبقراط غصبا عنّي، كم حين جريمتي عظيمة حين أخون سيدي في المهنة سيدي الذي عاش قبلي بعدة قرون، فهل خنت الزمن، خنت الليل والنهار من غير أن تعثرني عيني.
أنا بائس لأنني أفشيت أسرار الآخرين بعبارة أخرى أراني أسبق الأحداث فأفشي غدا أو بعده أسماء أناس وعناوينهم، ظنوني مثلك أيّها الرب ابن الإله أمرر يدي على أجسادهم فيشفون فخنتهم ومن قبل اتهمتهم وشككت فيهم من أجل أن أرضي الآخرين
وسلمت أسماء هؤلاء الضحايا لمن لا أراه يرحمهم لابدّ من أن أفعل ذلك، ومازلت أمارس هذه اللعبة التي لا أستطيع منها فكاكا، والأمر بيدك، فكل ماتربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكلّ ماتحلّه في الأرض يكون محلولا في السموات.
وإذ انهى اعترافه، جثا خاشعا، وهو يقول: ياالله أيها الروح القدس حلّلني من خطاياي التي اعترفت بها ومن المستترة، فرفع كاهن الكنيسة الصليب ووضعه على رأسه، فشعر بخفة في جسده، الشعور نفسه الذي راوده في اعترافه الأوّل، دنيا جديدة ووهج جديد، حتّى أنّه تمنى أن يبقى في الكنيسة إلى الأبد..
ينسى نفسه
ينسى الناس
يطالع فقط تمثال العذراء والمسيح المصلوب أمامه!
6
مرّ يومان على الحادث، خلالهما زادت هواجس الدكتور وشكوكه من جديد.. الاعتراف مثل النوم ينسيك..
يريحك..
يلهمك الأمان
وخفّة الروح
كأنّك مولود من جديد
مع ذلك
حالما تمارس حياتك تجد الخوف الذي تلاشى أصبح أكبر..
أوسع ممّا لايطاق.
ربَّما توقّع أن يأتيه أكثر من مريض يحمل فيروس نقص المناعة من مرضى مصرف الدم، لم يكن هناك أيّ علاج بعد، وليس من أمل سوى الأدوية المساعدة، وفي الوقت الذي كان يجلس خلف مكتبه رنّ جرس الهاتف، فكان مدير المشفى على الخط.
امتعظ للخبر الجديد؟
حالة أخرى ظهرت!
هناك إجراءات ما تطلّبت حضوره فترك غرفته، وقصد مكتب المدير، هناك وجده متجهما في غاية الإحباط:
- هل هناك من حالة جديدة؟
- بالتأكيد. هي لمريض من المرضى الذين يداومون عندنا في مصرف الدم من المرضى القدامى لكن ليس لهذا استدعيتك!.
كان الدكتور (غسان) يعرف جيدا أن المدير لا يقدر أن يتحدّث بالتفاصيل عبر الهاتف تحفّظا من فضول عامل التقسيم، وسواه من موظفين وعمّال يمكن أن براقبوا مايجري لجهة ما:
=ماذا تقصد؟
نفث المدير نفسا طويلا شبيها بالحسرة:
- الأمن.. إنّه الأمن ياعزيزي.
فقال شبه محتج:
- ماعلاقة الأمن بالموضوع؟
- يسمونه الجانب الأمني.. الوزارة لا تقتنع بالدم الملوث، فأحالت الملف إلى الداخليّة، سيأتي من يسألني بعد قليل وهناك ضابط يأتي ليتحدث معك، الوزارة ترتأي أن نكون صريحين مع رجال الأمن !
غسّان بتأفف:
- يظنوننا من مروّجي الإشاعات؟
- نحن لسنا متهمين السيد الوزير نفسه كلّمني..
فضحك (غسان) بمرارة، ولاح في ذهنه خيط باهت من اعترافه الأخير:
سيجعلوننا موظفين عندهم.. أو قل مخبرين.. هل قولي على باطل ؟
مازالت علامات اليأس على وجه المدير:
- ما باليد حيلة الوزارة مستاءة.. نحن في حالة حرب والدولة لا تريد أن تعد ظهور الآيدز قضيّة ذات شأن ولا ترغب أن تشهّر بالصديقة فرنسا وصداقة فاليري جيسكار وميتران..
بعد لحظات صمت:
- قل هل فَكَّرتَ ماذا تفعل مع من أصيب بالأيدز؟
- ماذا تقترح عليّ إذن؟
فقال من دون تردد:
- بناية المسلولين القديمة في التويثة.. الكرنتينا هي خالية منذ اكتُشِف علاج للسلّ يمكن أن نعزل حالات الآيدز فيها.
- ممتاز.. ليس هناك من حل آخر، مع ذلك لا أستطيع أن أفعل شيئا قبل زيارة الأمن لمكتبي.
وخلال أقل من ساعة أطلّ في مكتب الدكتور غسان، رجل أنيق، ذو بدلة رماديّة، طويل القامة، ناعم الملامح يكاد من يراه لا يظنّه من رجال الأمن. قال بكلِّ أدب:
- النقيب من دائرة لأمن كمال ناجي.
- أهلا وسهلا.
- آسف دكتور على إزعاجك كنت أود أن أقابلك في ظروف أخرى.
- لا بأس هل تشرب شيئا؟
- أبدا لا.. الأفضل أن نباشر الموضوع (ونظر إلى الباب نظرات ذات دلالة، وواصل) أظنّ وقتك جدّ ثمين دكتور ووقتي كذلك.
ضغط على الجرس، وأوصى الفراش ألّاَ يسمح لأيِّ أحد بالدخول، ثُمَّ التفت إلى ضيفه الثقيل:
- تفضلّ تحت أمرك!
- هل من الممكن أن أطّلع على أسماء المرضى الذين يأتون إلى المركز!
- جميع الأسماء؟
- بالتأكيد.
فصفن الدكتور غسان قليلا:
- هناك مرضى لم يصابوا.
فلاح على وجه النقيب الضيق:
- تعرف دكتور نحن في حالة حرب ويهمنا ألّا تهتز الجبهة الداخلية ولا يُساء إلى الدول الصديقة التي تمدّ إلينا يد الصداقة والخبرة..
أيقن الدكتور أنّه أصبح في موقف حرج.. مخبر.. تحوّل إلى مخبر وآن له أن يضرب قسم أبقراط عرض الحائط:
هل اتصلت بالسيد المدير.
نعم وأبدى موافقته.
- سأطبع لك نسخة بأسماء المرضى عندما لكن الذي يخصّني أنا.. هناك إصايتان ظهرت في مرضاي وإصابة ثالثة سمعت بها، وسوف نقوم بعزل الحالات في الكرنتينا.
- لكن ليس بعد أن نحقق معهم.
- أنا نفسي سألت المريضين، واحد رجل والأخرى امرأة، والحق ليس هناك من أمر يثير الشبهة حول أخلاق الإثنين.
فعلق ضابط الأمن بجدّ:
- دكتور هناك مِنَ الأعداء مَنْ يحاول أن يخرّب علاقتنا بالدول الصديقة كَفِرَنسا التي بنى معها سيادة الرئيس علاقة وديّة حميميّة منذ كان نائبا.
فقال الطبيب بهاجس شجاع:
- اتهام الناس ياسيادة النقيب يجرّ علينا مشاكل عشائريّة وقضائيّة، بخاصة النساء.
- هذا جارٍ معكم ومع الناس أما معنا نحن فنعرف كيف نصل إلى الحقيقة، ولعلنا نجد في أثناء التحقيق امرأة تُعرف بالعفاف لكنها ذات علاقة مشبوهة خفيّة، ورجل يُضرب به المثل في الصلاح والتقوى وهو في الحقيقة لوطيّ محترف.
وسلّم ضيفه الثقيل، ملفّ الأسماء، وهو يشعر ببعض الحزن، أسماء وحالات، وملاحظات باللغة الإنكليزية وإشارات باللاتينيّة، وتساءل مع نفسه وهو يصافح ضيفه الثقيل:
هل أصبح مخبرا حقّا بعد اعترافه الأخير.
5
هل أنت لوطي
من فعل بك أو فعلت به
من أين جاءك الآيدز..
أنتم الطلائع.. طلائع الشذوذ الذي يدنّس البلد.. هل هناك غير هذا العبارات يطلقها محقق الأمن في وجوه مرضى نقص المناعة ليدفع التهمة عن الصديقة فرنسا ورئيسها الصديق العزيز متران؟
هذا ما انطبع في ذاكرتك دكتور غسان المخبر، لكن ما أراحه بصفته طبيبا أن الآنسه (نجاة قاسم) توارت عن الأنظار، وللمرّة الأولى يجد نفسه مرتاحا وبشغف كبير لهرب مريض من العزل والرقابة. ويبدو أنّ العائلة كما تصوّرت أحلام الدكتور غسان رحلت هربا من العار، حتى لو اقتنع الجيران، والأقربون والحارة كلّها، فهناك علامة تقزّز سترتسم على المنزل. ضابط الأمن زار مصرف الدم ثانية، وأخبر المشفى أنّهم مازالوا يبحثون عن الهاربة، العائلة كلّها تركت بغداد في ليلة صامتة. لقد أصبحت علاقة المشفى ومركز الدم مباشرة، قالوا إنّهم حقّقوا وتبيّن أنّهم غير طبيعيين، مع ذلك مادامت هناك إصابات، والخبر انتشر، فيمكن أن يتحدّث الدكتور غسان للصحافة.. جاءه إلى المكتب محرر جريدة الثورة الحكوميّة، ومعه جهاز تسجيل وضعه على الطاولة وضغط على الزرّ:
- دكتور ماهو مرض الإيدز الذي فاجأ العالم؟
نعم.. مرض الإيدز هو نقص المناعة والمرض حسبما أطّلعت على مواصفاته من البحوث والمجلات المختصّة ليس خطرا لكن الخطورة تكمن في أنّه لا يظهر سريعا بل بعد عدّة أشهر أو سنوات.
- ماهي مسباباته؟
أحد الأسباب الجنس ولا ننس الدم.
هذا فقط؟
- أو التعرّض لعضة حيوان مصاب وهو ماتعتمده البحوث ي أوروبا فتنسبه إلى إفريقيا..
يسأل الصحفي بخبث ظاهر:
هل يُعقل دكتور أنّ كل السلبيات تلقى على أفريقيا ؟
فاستوقفته العبارة:
مجرد احتمال لا أكثر!
هل وجدتم إصابات في البلد؟
يلتفت الدكتور إلى آلة التسجيل:
- إصابات قليلة.
- كم بالضبط؟
- اكتشفنا اثنتين لحد الآن!
- لرجال ونساء؟
- نعم !
- بماذا تنصح الآخرين؟
- إذا كانت هناك أماكن مشبوهة، ولا أظنّ في بلدنا مثل هذه الأماكن، أنصح الذين يرتادونها أن يستعملوا الواقي.. أو المانع.
- هل تراه حلّا مناسبا؟
- فأجاب وقد ازدرد ريقه:
هذا أفضل الحلول لحد الآن مع أنّي أرى القضيّة بمنظار آخر. المانع، في حالة الإيدز كما لو أنّك ترتدي بدلة تقيك من انفجار قوي بنسبة ثلاثين بالمائة، فلا نعوّل على شئ يمكن ألّا يحمينا مائة بالمائة.
ختم الصحفي مقايلته:
- بل الأفضل الأخلاق الحميدة والاستقامة..
- نعم نعم..
- شكرا دكتور.
وفي اليوم التالي، ظهرت صورة الدكتور غسان في الصحيفة، وهو يدلي بعموميات لا تثير الرعب في الناس. المقابلة نفسها ظهرت أشبه بمقالة.. لقاء باهت.. تعبير إنشائي كتبه الصحفي بحماس.. قابلنا الدكتور غسان.. قال كذا.. يرى أن الفضيلة راسخة الجذور في مجتمعنا.. بلدنا نظيف من أيّة أمراض وفيروسات.. ولم يحتجّ أو يعتذر، ذنبه الوحيد أنّه وجد نفسه من دون أن يدري في أتون حدث أكبر من قدراته، وهناك سبب بيد الدولة يجعله يلتزم الصمت فيسكت عن الكثير ويغضُّ النظر عن أحداث عظيمة، مادمنا في حرب،، فليكن الصمت.. نحن في حرب.. الرئيس ميتران يدعمنا، ومازلنا نستورد المصل من فرنسا..
هل نشكّ بخبرة دولة
أنتنكر للصداقة بسبب وهم
فرنسا تبني لنا مفاعلا يغنينا في الكهرباء وصنع الأدوية والزراعة..
هل هو مخطط أم ماذا؟
كلّ الاحتمالات واردة، وكلّها أيضا خاطئة، وهناك احتمال وحيد لا تشكّ في صحّته هو الهجرة
هي ديترويت
فصلِّ صلاتك قبل النوم وارسم إشارة الصبيب.
ليحل على قلبك السلام، فقد اعترفت يذنبك قبل أن تقترفه
ويرحم الله هؤلاء ويشفيهم مثلما شفى الابن الإله مرضاه.
6
صباح اليوم التالي دخلت المشفى في دوامة اللقاءات العاجلة، مدير المشفى ورؤساء الأقسام وأطباء من الخارج اكتشفوا نقص المناعة عند مرضاهم الذين اعتمدوا على المصل، إذ نجحت الشرطة وتحرّيات الأمن في حصر المصابين و لم تعثر على المريضة (نجاة قاسم) بعد.
تساءل الدكتور المتقاعد الذي أكتشف ثالث إصابة:
- هل يعقل أنّ المرض أتى من لاشئ.
وعقب طبيب لعيادة خاصة:
- و هلنتصور أنّ كلّ هؤلاء مارسوا الحرام؟
المدير بتحفّظ:
- لم يتهمهم أحد!
وهزّ الدكتور غسان رأسه:
- حاشا لله. نحن لا نتورّط مع العشائر نحن وأظنّكم متفقين معي وجدنا المرض وهي بدلية قد تساعدنا على حصره!
طافت عيناه بكلّ الوجوه، للمرّة الأولى يجد الأطباء أنفسهم محاصرين، لا يقدرون أن يتحدّثوا عن مرض تسببه حالتان: الدم أو جنس. لواط.. جنس.. عضّة حيوان.. لايرغبون أن يواجهوا الدولة المشغولة بالحرب مع حليفتها وصديقتها فرنسا ولا أن يضحّوا بصداقة الرئيس للرئيس متران.. وينسوا المفاعل النووي.. لينسوا المصل ولينسوا أيضا اتهام مرضاهم.. لم يجدوا بدّا من أن يلوذوا بالصمت، ويتركوا السيد المدير يتصرّف وحده.. وقد خرج عن صمته وكشف عن اقتراحه الأخير:
- هناك الكرنتيا مكان عزل المسلولين، المكان فارغ منذ اكتشفوا علاجا للسلّ سنرسل المصابين إليه، وآمل من أيّ طبيبأن يتصل بنا إذا زارته في عيادته الخاصة المصابة (نجاة قاسم)
قال الدكتور غسان:
- إنّها مريضتي دكتور.
فالتفت المدير إليه:
- بالمناسبة استقرّ رأيي أنا ومستشاري وزارة الصحة على تعيينك مديرا للكرنتينا كونك ذاخبرة وتستطيع مباشرة العمل منذ يوم غد !
الكرنتينا.. التويثة.. وقيادة السيارة كلّ يوم ثلاثين كيلومترا.. لايظنه عقابا.. سيرى وجوها جديدة لمرضى مختلفين تماما عن كلّ المرضى.. وليست الكرنتينا بغريبة عنه إذ زارها عدّة مرات ورآى الإحباط والحيرة على وجوه لسلّ من قبل.
شعور بالذلة والمهانة
يأس قاتم
كآبة
أشباح تتحرك
سعال مفرط
دم على زوايا الشفاه
بعضهم يجلس على سريره القرفصاء ويبحر في عينيه إلى مالانهاية يبحث عن الموت
لكن
من هؤلاء المرضى القادمون الجدد إلى المكان نفسه..
لقد وجد الدكتور غسان نفسه وجها لوجه أمام حرب جديدة تمّ إعدادها لتستوعب عنصر المفاجأة، أن يبقى الخبر سرّا، وأن يجمع المصابون في العزل، يعترف أنّه كان في غفلة فمرض نقص المناعة ظهر 1981واتهمت به أوروبا الأفارقة وشاء الحظّ أو المصادفة أن يكتشف المرض بعد أربع سنوات، وهناك حقائق تثبت أنّ مصل العامِلَيْن 8 و9 كان يأتي قبل عام 1983 من دول غير فرنسا، فكيف يتحقق من أن اللقاح الفرنسي نفسه وليس لقاحا آخر هو الذي فتك يالمرضى.
هل هي فوضى غير متوقّعة خلقها اكتشافه الذي جاء مصادفة في وقت غريب؟
أمّا الوجه الثاني للحرب التي وجد نفسه يخوضها مرغما، فهو تعيينه رئيسا للكرنتينا، واستبدال السلّ ّبنقص المناعة حيث انتقل ملف المرض من يد الأطباء إلى يد دائرة الأمن التي جمعت المصابين،. وتوجهت بهم إلى الكرنتينا
مرضى من أماكن قريبة وبعيدة..
أطفلب مع أمّهاتهم
غير أنّ المريضة (نجاة قاسم) كازالت غائبة أو هاربة. ز ولم يغفل ضابط الأمن أن يسأل الدكتور غسان عنها بين حين وآخر.
كاد الوضع يجري على وفق هذه الصورة من الكتمان.. دائرة الأمن نجحت في جمع خمسين مصابا، وزودت الكرنتيينا بممرضين ذوي مواصفات خاصة اختارتهم من دون سواهم.. كان الشرود يلوح على وجه الدكتور غسان، والأسى والصفرة على وجوه مرضاه، بات يأكل طعامه على عجل، فيذهب إلى عيادته الخاصة لعل مريضته تأتي ليرتاح حين يرسلها إلى الحجر مع أنّ عمله فيما إذا تحقق يؤكد أنه ارتضى أن يتحوّل من طبيب إلى مخبر لكنّه لا يجد طريقة في علاجها غير الحجر، بمّرور الوقت أصبح يكره الذهاب إلى العيادة
يخشاها
يودّ لو يقابل نجاة
ويرهب في الوقت نفسه عيادته
ويتحسّس من سكرتيره فيظنّ أنّ دائرة الأمن لم تغفل عنه ولا بدّ أن تكون استدعته..
في الليل فيصلي صلاته وينام من غير أن يلتفت لزوجته التي لم يخبرها بالكارثة والحرب يخوضها على الرغم منه.
كان كلّ المرضى خانعين متعبين مقهورين، ماعدا (جواد علي) اكتشافه الأوّل.. علامة الفوضى الأولى..
يزعق
يصرخ
يقاوم الأدوية المساعدة
وفي أحد الأيام بدا هادئا رقيقا يبتسم ويضحك. وفي بعض الأحيان يصمت أو يغني
هكذا
كأنّ فرحه يشي بشعوره بالحياة وتفاؤله..
وحين طلبه الممرض (مسعود) ليحقنة بدواء مساعد، أذهلته المفاجأة، فطلب من مساعديه اللذين أوكل لهما الأمساك به لحقنه أن يقفا جانبا، ولا يتدخّلا إلّا عند الضرورة، في هذه الأثناء، توقّف (جوادعلي) عن الغناء واستسلم تماما
مدّ بهدوء يده مثل قطّ أليف..
وكشف ذراعه
كان ينظر بعيتي الممرض (مسعود) نظرات ذات معني، فحرف الأخير نظراته عنه وانشغل لحظات بتحضير الإبرة:
- هكذا أريدك أن تكون.. لا حاجة لأن يقبض عليك اثنان نحن نريد لك الخير
بقي صامتا يثبت نظراته على الممرض، ولم يلتفت عن الإبرة وهي تنغرز في ذراعه حتى فرغ السائل، وانسلت من يده..
رآها تسقط في حاوية الأزبال
عندئذٍ
بلمح البصر
مدّ يده إلى الجاوية
وانقض
علىى (مسعود) الممرض ففاجأه بطعنة في يده! فتراجع الممرض مأخوذا بالمفاجأة في حين وقف (جواد) قابضا على الإبرة براحة يده ملوخا إلى الحارسين وهو يصرخ:
- ستموتون أيها الكلاب. نحن لسنا لوط.. بقي مسعود في شبه إغماء يحدّق بالسقف كأنّه تفاجأ بالموت، وهرع الحارسان إلى غرفة الطبيب، وانتفض الممرضون الأربع والمنظف من الغرف، فصاح بهم أحد الحارسين:
- الزموا غرفكم وأغلقوها لئلا يطعنكم بالإبرة الملوثة.
وحين وصل الحارسان إلى غرفة الطبيب، وأغلقاها من الداخل وهما غير مصدقين من نجاتهما، وخلال لحظات بعد اتصال الطبيب بحرس المشفى عبر الهاتف جاء حارس وبيده من عصا من التي يستخدمها رجال الشرطة في قمع المتظاهرين، كان الحارس جريئا، ومهنيا، لم يتردد او يخشى من أن يتعرض لطعنة من الإبرة الملوثة، وكان المريض (يغني) وهو يرقص:
- دنك يا حلو ليصيبك القناص..
وبتوقف يضحك بهستيرية عميقة، ويصرخ:
- نحن لسنا شاذين.. إسالوا القادسيّة، لم ينكح أدا منّا سعدي الحلّيّ
ومازال مسعود مشلولا لا يبرح مكانه مستندا بظهره إلى الحائط بوجهٍ شاحب
- ألو ميتران أخا القحبة!
لم يستمرّ المشهد طويلا..
فخلال لحظة اندفع الحرس بعصاه
ضربة على الرأس
فسقط (جواد) على الأرض يرتعش من هول الصعقة كطير مذبوح وسقطت الإبرة على بعد منهثمّ راح في غيبوبة طويلة..
وران السكون والذهول بعدها لمكان!
7
وجاء مريض
وآخر
ودخلت أم أخرى إلى جناح النساء ترافق ابنها المصاب..
الممرض (مسعود) شمله الحجز وحلّ مكانه ممرض آخر والغريب أنّه لم يتشاجر مع (جواد) كانا إذا التقيا ينظر أحدهما للآخر نظرات صامتة ثمّ يشيح كلّ منهما بوجهه عن صاحبه..
وخلال الأيام الأولى انتبه الجميع إلى ظاهرة جديدة..
غير أنّ الأيام القادمة كانت حبلى بحوادث جديدة..
وزارات الصحة في بعض:
تونس
الجزائر
تعلن ظهور إصابات للمرض
Factor- VIII
FACTORVII
إذاعات البلدان الثلاث تذيع عن المرض والإصابات، والصحافة تتدخّل بشكل شرس، وظهور مرضى في تلفزيوني الجزائر وتونس من ضحايا العاملين 8 و9 يتحدّثون عن الدم الملوّث وشركة ماريو، أمّا في ليبيا، فكان العقيد القذافي يتحدّث عن الجريمة حديثا منفعلا بتفصيل ممل، ويحرّض الناس على الخروج في تظاهرات عارمة.
ولم تنس إذاعة طهران خبر الدم الملوّث إذ أذاعته عدّة مرّات في نشرات الأخبار وعلّق على الخبر سياسيون، وسرت إشاعة إلى أن عدد المصابين في الكرنتينا بلغ الثلاثمائة، وأنّ الحكومة تتستر على الخبر، عرفانا بفضل فرنسا ومعونتها العسكريّة واشتراكها المباشر في قصف جزيرة خرج.
الكثيرون مذهولون
والغالبيّة لا تجرؤ على الحديث
ووسائل الإعلام الحكوميّة تصمت تارة وتنفي تارة أو تتحدّث عن إشاعات يبثها المرجفون من خارج الحدود.
كان الدكتور غسان يتابع الأخبار قبل أن يؤدي صلاته، يسمع وهو مسترخ على السرير أخبار إذاعتي طهران والكويت والرياض، وقد تحقق الآن من أنه المصل، وأدار ذهنه دورات سريعة وقلّب حساباته فأدرك أنَ المصل استوردته وزارة الصحة ووزّعته قبل عام تقريبا، وما عليه إلا أن براجع سجلات المصرف، فيعرف رقمه وتاريخ البدء به..
- مالك ألم تنم بعد؟
سألته زوجته، واستدارت نحوه واضعة يدها على رقبته:
- لم أصلٍ بعد.
- أراك قلقا هل من شئ.
فيهمّ أن يفضي لها بما حدث لكنه لم يرد أن يفزعها وربّما لا يرغب في أن يدفعها إلى أن تتقزّز
تخاف
تنهار
.. يعرفها جيدا. تتقبّل أيّ طارئ برضا وصبر، ويوم تولّى إدارة الكرنتينا، وعايش المسلولين، قبلت بكل رضا ولم تعترض، وبعد سنوات قليلة وُجِدَ العلاج واختفى الداء تماما..
تلاشى
انقرض
أصبح التدرن اقلّ خطرا من الزكام، أمّا هذه المرّة فالوضع تماما يختلف، كانت زوجته شابّة، تدفعه، وتشجعه، تراه المسيح الذي يقهر المرض بلمسة من يده.. فهل لا تتقزّز منه وتبتعد.. مادامت الحكومة تنفي وتنكر.. فليس من سبب سوى اللواط.. والشذوذ والزنا.. هل تعزل فراشه، وأدواته، وطعامه؟
رفع رأسه، وتطلع في عينيها:
- أصبحت أفكّر بالهجرة هاجس الهجرة يلج عليّ في كلّ دقيقة حتّى إنّي أصبحت أتوجّس من العيادة!
- أنا معك والأولى أن ينهي (لبيب) دراسته لنجد طريقة لتسفيره خارج البلد.
- هذا هو السبب الذي يمنعني من النوم.
- لا تقلق، هو شاطر جدا، والسفر مسموح إلى الأردن، يمكن أن يتقدّم إلى أيّة جامعة.
- حتى لو لم يكن في الأردن هنا يستطيع أن يتقدّم إلى الطب فيحمي نفسه ست سنوات أو الهندسة، ليبقى فيها خمس سنوات.
- هل تظنّ الحرب تطول إلى الأبد.
- لا يعنيني الأمر.. الذي يعنيني هو الرحيل (وتمتم مع نفسه كيلا تحسّ بانكساره) أنا والشرطيّ واحد.
- لكلّ حادث حديث.
- أجل لكلّ حادث حديث
ثمّ رسم علامة الصليب وتمتم صلاته..
لقد
حاول جاهدا
أن
يغفو!
8
بقدر ماكانت الأيّام السابقة مثيرة للقلق والخوف
فإنّ الأيام القادمة بأصبحت تثير الشكوك ومن الصعب جدا توقّع مايكون.
أوّل من اكتشف حالة الدم الملوث، يرى نفسه، من دون مبالغة في حالة حرب مع ثلاثة دول، إيران العدو، وصديقيه العراق وفرنسا، يمكن أن يعدّهما صديقين إذا لزم الصمت وساير ماتريده الدولة عندئذ ليذهب أبقراط وشرف المهنة إلى الجحيم.
بعد حادثة طعن الممرض (مسعود) بإبرة ملوّثة، وحضور بضعة من رجال الأمن إلى الكرنتيا دون أن يجرؤوا على الدخول إلى غرفة العزل، طلبوا من الدكتور غسان بلطف مقابلة (جواد علي) في غرفة الممرضين، كان الجميع يخشون على أنفسهم: دائرة الأمن، المحققون، ذو الرتب العليا والدنيا، دخل ممرض وشرطيان، وعادا ب (جواد) مكبّل اليدين من الخلف، غير أن المريض المشاكس بقي يلتزم الصمت منذ أن غنّى أ أغنيته المبتذلة عن الحرب.، وربّما خيل إلى الدكتور غسان أن سبب الاستنطاق ليس طعن الممرض الذي جاء ردّة فعل حادّة، وهي حالة، يمكن أن تجتاح أيّ مريض في حالة يأس.. كانوا يرغبون أن يعرفوا ماضيه هل مارس السياسة وارتبط بخلايا سرّية.. استمرت الجلسة نصف ساعة لم يُسمَع خلالها صراخ أو أنين.. وخرج مريض نقص المناعة يأم لا تشوهه أيّة علامة.. كانوا، حسب ظنّ الدكتور يخشون مسّه، وقد تركوه لمصيره المحتوم..
بعد خروج رجال الأمن بدقائق، رن جرس الهتاتف، وكان المتحدث مدير المشفى، وحالما وصل الطبيب البديل غادر الدكتور غسان الكرنتينا.، وأعرض عن أن يشغل باله لأيّ أمر ااستدعي كان يتوقّع أسوأ الاحتمالات..
مرضى جدد
تحقيق أمني
أيّ شئ
لايهمّ
قال المدير الذي استقبله باهتمام:
- لا تعجب فقد أرسلت وكيلك في مصرف الدم ليحلّ بدلك هناك فتعود أنت إلينا كون الوزارة اتصلت بي تعلمني أن صحفيا من إيطاليا سيأتي إلى المصرف وأنت أكثر خبرة، وأنت الذي تشرف مباشرة على الملفّات..
متى يصل.. ؟
- هو في الطريق بّما تجده ينتظرك الآن.
- على فكرة حضر بعض رجال الأمن إلى الكرنتينا اليوم وحقّقوا مع (جواد علي) .
- ياسيدي إنّه ميت ميت فهل ينفع عقاب الميت.
- ألم يخبرك أحد منهم؟
ردّ بتثاقل:
- كلّا
- لاتنس وصايا وزارة الصحّة ليس هناك من نقص المناعة.. بعض الجذام وأمراض أخرى تتطلّب العزل.
- ماذا لو ذهبوا إلى الكرنتينا وقابلوا المرضى؟
- سيتصرّف حرّاس الأمن معهم.
وغادر إلى المصرف، فوجد شابا في الخامسة والعشرين من عمره يتحدّث إنكليزيّة واضحة يسيرة قدّم نفسه باسم فريدرك مراسلا لإحدى الصحف الإيطاليّة فقابله بابتسامة باهتة:
=أيّة خدمة يمكن أن أؤديها لك؟
- قضية مرض نقص المناعة.
فهزّ الدكتور رأسه، وكرّر سؤاله الذي وجهه للصحافة من قبل:
- هل يمكن أن تخبرني من أين يأتي المرض.
- كلّ ما عرفته أن ينتقل عبر الدم الملوّث والجنس والمثليّة وعضّة حيوان مصاب.
فضحك الطبيب ضحكة خافتة:
- الحمد لله مجتمعنا محافظ يلتزم بالحلال والحرام وينبذ المثليّة.
- هل تسمح لي بالتسجيل الصوتي؟
- كما تشاء!
ضغط على آلة صغيرة وضعها على المنضدة:
- ياسيدي جئت بخصوص تحقيق عن موضوع المصل الملوّث الذي استوردتموه من فرنسا. (وتابع بابتسامة) الصحف تبحث عن الحقيقة.
فهزّ الدكتور غسّان رأسه مستغربا:
- تقول المصل فرنسي وأنت إيطاليّ فما علاقتكم بالموضوع؟
قال الصحفي بثقة:
- من بين الدول التي أصيب مواطنوها بمرض نقص المناعة دولة من مستعمرات إيطاليا السابقة هي ليبيا التي اعترفت، ولكون صحيفتنا يساريّة وحكومتكم ثورية، فقد عرفنا من وسائل الإعلام أنّ هناك إصابات عندكم!
فشعر الدكتور ببعض الإحراج، وشئ من الأسف، ولم يجرؤ على الخروج عن توجيهات إدارة المشفى، فكلّ شئ يراه باهتا الآن ولا يشغل باله إلا اعترافه الأخير الذي واجه به الكاهن قبل وقوع الذنب، فحاول أن يحرف الجواب باتجاه آخر:
- إذا كان الأمر كما تدّعي فلِمَ لَمْ ْيأتِ إلينا صحفي من فرنسا ولِمَ لَمْ تعلن وسائل الإعلام الفرنسيّة عن المصل الملوث؟
- أووه دكتور هناك تعتيم، في الوقت نفسه هناك أخبار صحيحة وخروج مظاهرات في البرتغال وليبيا والجزائر وتونس.. الناس يطالبون بالتعويض.
فعاد الدكتور إلى مراوغته التي كرهها ولم يستطع أن يغطي على قرفه:
- هل يُعْقَل كلّ هذا يجري وفرنسا لا تعلم؟
- هناك مقال ظهر في فرنسا مواطن فرنسي أصيب بنقص المناعة اعترف أنّه مثلي ولم يذكر المصل الملوّث مع ذلك عتّمت السلطة الفرنسيّة على الخبر فرحل إلى سويسرا ونشر مقالة عن خوف المجتمع منه ومعاناته!
فقال برما:
- بعد دقائق أضطرّ إلى مواصلة عملي، لقد آثرتك خلال استراحتي أترك لي عنوانك ورقم هاتفك فإذا ماجدّ جديد اتصلت بك.
قبل أن ينهي التسجيل قال برجاء:
- لو سمحت تخبرني باسماء بعض المرضى وتدلّني على عناوينهم فلعلّ ذلك يساعدني في إنجاز مهمّتي فأنفي حين أقابلهم عن وجود إصابات في بلدكم أو نحثّ مجتمعاتنا على طلب تعويض للضحايا من الشركة الفرنسية. ؟
فقال وهو ينهض:
- تعرف ذلك محال! انتهى اللقاء.
وقد تغيّرت أمور كثيرة بعد اللقاء، لم تحل إجراءات الأمن دون حصول الصحفي الإيطاليّ وصحفيّين أجانب على عناوين أهالي بعض الضحايا الذين وجّهوا اتهاماتهم إلى الشّركة الفرنسية، وشاع أنّ بعض الممرضين في مصرف الدم سرّبوا الأسماء و العناوين إمّا بحسن نيّة أو مقابل أجور، فتحرّكت دائرة الأمن من جديد، وحذرت العوائل، وأنذرتهم..
ولا غرابة في أن تقوم السلطة بنقل المصابين إلى مكان مجهول ليلاقوا مصيرهم وحدهم..
كلّ ذلك جرى والدكتور غسّان في البيت
لم يحسّ أو يشعر بما كان أو يكون
إذ
حالما خرج الصحفيّ الإيطالي من مكتبه شعر بثقل في عينيه، وداهمته عتمة من ظلال.. أشبه بعمى يغزو عينيه، وشعر بصداع ثقيل يجتاز رأسه..
لم يكن ليعاني قبل من أيّ مرض
يأكل بانتظام
ولايفرط في الشرب
الحالة المفاجأة لم يحسب لها أيّ حساب
مطرقة الصداع ترن في رأسه
كانت بداه ترتجفان وجسده يخفق من حرارة وبرودة تجتاحان جسده
النار والثلج
تأكّد بخبرته الطويلة أمرا غير طبيعي يجول برأسه فبلغت الكآبة منتهاها لتجثم على صدره فتسارعت نبضاته
. ليفعلها الآن؟
هل يجرؤ؟
كلّ يوم يشعر أنّه صغير.
يتصاغر..
مثلما فعلها في الكنيسة حين اعترف بذنوب قبل أن يقترفها يستطيع أن يطلب إحالته على المعاش..
يتقاعد قبل الأوان..
استلّ القلم، وشرع في الكتابة. كان يفكّر بالتفرغ للعيادة ومن ثمّ السفر
السيد مدير المشفى المركزي
إنّي الدكتور..
راحت يده تضطرب وموجة صداع عنيفة لا تطاق تُلغي رأسه تماما، ولم يعد يشعر إلّا بالالم، نهض متثاقلا نحو أحد الأدراج. لاذ بأكثر من حبّة صداع ازدردها مع جرعة ماء، بعدها هزّ رأسه.
وجده ثقيل الحركة..
عجز أن يقود السيارة إلى البيت، فطلب من الساعي بصوت متهدج أن يستدعي سيارة أجرة، وقد ترك طلب الاستقالة على المنضدة ناقصا بسطرين..
قد يكذب نفسه
غير أنّه صدقها حين عرف أنّه وصل إلى المنزل بأعجوبة فجسده كلّه أصبح ثقيلا..
ثقيلا بحجم الجبال
استقبلته بدهشة قائلة:
- جئت مبكرا اليوم
- عجز عن أن يجيب
- مابك هل أنت بخير؟
فتثاقل في مشيته وسحل أقدامه إلى السرير، فسقط عليه فاقد الوعي.. مع جلطة في الدماغ.. وشلل نصفي تتبختر في ذهنه أحلام الهجرة إلى ديترويت.. وكانت هناك تغييرات كثيرة تجري لمرضى مصل الدم وهو لا يعرف بها!
خاتمة المطاف
في سيرة مرضى نقص المناعة تقول وسائل الإعلام، إنّ المرضى في مكان عزلهم الجديد أصبحوا 250 مريضا، وإنهم في عام 1993 بعد هزيمة الجيش كسروا أبواب مصحتهم وهربوا،
تناثروا في جميع مدن العراق،
في جميع الاتجاهات تشتَّتوا
لكنّ المتشددين السلفيين قتلوا بضعةً من هؤلاء بحجة أنّهم شياطيين، أو من قوم لوط، وقد التقطت الحكومة ماتبقى منهم وأرجعتهم إلى المصحّة حالما استعادت وعيها من ضربات التحالف، أمّا ما بعد 2003 عام السقوط فقد أثارت القضية الحكومات الجديدة، حاولت أن تقتدي بسيرة الجزائر وتونس وبقية الدول التي تعرّضت للدم الملوّث فحصلت تلك الدول وقتها على تعويضات من الشركة الفرنسيّة التي أفلست تماما..
كانت بغداد تلهث وراء السراب
فليست هناك من شركة
وفرنسا الصديق القديم تصرّ على أنّ بغداد أخطأت خطأ فادحا حين صمتت وقتها ولم تطالب بحقّها
على وفق هذه الطريقة
انجلى ما خفي من غموض
الغريب
أنْ لا أحد يعرف متى مات الدكتور غسان أم هل بقي مشلولا طريح الفراش إلى مابعد السقوط
والأكثر غرابة:
أنّ دائرة الأمن عجزت عن تعثر على عنوان الآنسة (نجاة قاسم) التي حالما أصابها مرض نقص المناعة
اختفت مع عائلتها، وتوارت عن الأنظار.
***
د. قصي الشيخ عسكر
...........................
* انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة في ليلة 5- 12- 2024