نصوص أدبية
ذكرى لعيبي: إرادة الموت
الفصل (9) من رواية غابات الإسمنت
بانضمام نجاح إلينا أصبحنا نحن الأربعة قدوة السجن، ولكي تغطّي ابتسام حبيبتي على استدعائي كلما جاءت ليلة خفارتها، وهي الأعلى رتبة والآمرة الناهية، فقد أقرّت أن تأتي مع الفرّاشة إلى غرفة المفوضة الخفير أو الضابطة الخفير، إحدى السجينات تساعدها في عمل الشاي ومشاهدة التلفاز، وكانت السجينات جميعهن مسرورات، لأن أي واحدة منهن تشعر بنسمة من الحرية، وإن كانت لا تبعد خطوات عن الزنزانة، حتى أصبحت كلّ واحدة من رفيقاتي تتلهّف إلى ليلة خفارتها، وكأنها خارجة إلى الفضاء الواسع، أو ذاهبة إلى عرض مسرحي.
كانت غرفة المطبخ والممر وقضاء الليل مع الحارسة، نزهة في حديقة، وربما ظهر لهن أن بعض السجن أجمل من أجزائه الأخرى... بخاصة الزنزانة، وكانت ليلة غيابي أو مديحة تُفَسَّرُ من السجينات ضمن ما يشملهن من اقتراحات، وكن يحترمننا ولم تكن بيننا أية مشاكل، وفي الليلة التي سبقت ذهاب كريمة إلى المحكمة لمعرفة نتيجة الاستئناف، راحت السجينات يغنين ويرقصن فَرحًا، وغنت أم جبار وهي امرأة في الأربعين من عمرها ضبطت في قضية تهريب، أغنية لعّابة الصبر:
صبري صبر أيوب
حزني حزن يعقوب
الحقني يا محبوب
زادت أنا جروحي
وذابت بالهوى روحي
فتّ الصخر نوحي
الحقني يا محبوب
تطوعت سجينتان بالرقص، بدأت أم نظيم وهي أمرأة جاوزت الخمسين، ضُبطت في قضية دعارة، تصفق بيديها تصفيقًا أشبه بدقات طبل، كنا نروم أن نرفع من معنويات كريمة، فغدًا تذهب إلى المحكمة لتسمع صوت الاستئناف، غناء ورقص وأداء، بدت السجينات كلّهن في وئام، وأظن أن معاملة حبيبتي مسؤولة السجن للجميع جعلنا أكثر ودًا، وخففت المشاكل بيننا.
وقلبت صورة النفور إلى مودة وحب، ولم يكن هناك شيء نفعله لصديقتنا سوى الدعاء، وكنا على ثقة من أن الاستئناف سيكون لصالحها.
وربما كنتُ الأكثر تفاؤلًا من غيري، لأنني أعرف أن النقيب ابتسام لن تتركها.
وذهبتْ كريمة ... وليتها لم تذهب ..
رجعتْ صامتة، والصمت هو الجواب اليقين.
وكان الخبر صدمة لنا، الاستئناف رُفض، فازددتُ حنقا وحزنا، أما كريمة فبدت متماسكة كأنها أنفت أن تكون هدفا للشفقة والرثاء، شموخ وكبرياء لا تقهره إرادة الموت ... لا ترغب أن يرثيها أحد.
يوم صدر الحكم أغميَ عليها حالما دخلت السجن، وعاشت شكّا وأملًا، وحين تيقنتْ من موتها تماسكت، تجللت بهالة من الرزانة والوقار، فلبست طرحة بيضاء، وانكبّت على القرآن تقرأ ولا تكلّم أحدًا، صامتة عن الكلام كما يصوم القديسون، كما صام النبي زكريا ليحلّق في أجواء السماء، رجوناها أن تنطق فكانت تشير إلينا بيدها وهزات رأسها، وفي خلسة من الجميع كتبت على جُذاذة ورق:
ولداي عدنان وكامل عنوانهما مع أبيهما أدوّنه، أرجو حين تخرج أي واحدة منكنّ، أن تسأل عنهما وتقبّلهما لي.
لم تقل أكثر من ذلك.
كانت أكبر من أي كلام وأشجع من أن تبكي.
الشجاعة ليست سيفا ومسدسا، بل هي ضمير حيّ يرفض الاستبداد بكل أنواعه، كريمة بِصمتِها هذا رفضت الحكم الصادر بحقها وحسبته نوعا من أنواع الاستبداد القاهر.
تَأملتها طويلًا ... تأملتُ هذا السكون الذي يغشاها، تُرى ما سرّ هذه القوّة وهي مُقبلة على الموت؟
ثم أيقنت أن إيماننا بقضية ما يمدّنا بقوّة داخلية، قوّة تجعلنا ننحتُ في الصخر ثقوبا لنرى من خلالها نور حريتنا وسعادتنا، حتى إن كانت تلك الثقوب تطلّ على حبل مشنقة أو زناد مسدّس، ولا سيما إن كانت القضية تمسّ الكرامة!
وتساءلت مع نفسي: كيف بذلت كريمة قُصارى جهدها لتأدية هذا الفعل الشاق؟
كيف استطاعت أن تفرّغ طاقتها، وسَعت في تحقيق هذا الكمّ من الهدوء والسكينة؟
تذكّرت عبارة كانت ترددها أمي دائمًا: "لكل مجتهد نصيب".
نعم... لبعض المجتهدين في العمل الشريف والدراسة واسترداد الحقوق والحياة بشكل عام نصيب... وأيضًا الأبطال الوطنيون الحقيقيون، كان نصيبهم الموت الرخيص!
النساء العفيفات... نصيبهن الجوع والحاجة والفقر.
العشّاق المخلصون... نصيبهم الخديعة.
العاشقات الوفيات... نصيبهن الهجر والخيبة.
المرأة التي تتحمل مسؤلية بيت وأولاد... نصيبها الخذلان من مجتمع جاهل وذكور بائسين.
الرجل الطيب الحكيم الكريم... نصيبه رصاصة أو تسع رصاصات تُسكت نبض قلبه وصوته.
الزوجة الأولى... التي كافحت من أجل أن يقف زوجها على قدميه، نصيبها الخيانة.
الزوجة الثانية... التي قبلت أن تكون بالظل، فقط لتعيش، نصيبها فُتات الحياة الكريمة.
الزوج الكادح المتعب... الذي يعمل من دون كلل أو ملل لتوفير ما تشتهيه زوجته، نصيبه امرأة لعوب تتركه في نهاية المطاف.
والقائمة تطول... ليس عبثًا أقول هذا، بل حقيقة رأيتها بعيني.
لماذا إذن عليّ أن أؤمن بمقولة: لكل مجتهد نصيب؟
أعتقد أن المقصود بها الذين يجتهدون في السرقة والنهب والنصب واللعب والاحتيال وووو.
فهؤلاء نصيبهم في الحياة كما لاحظت كبير، وكبير جدًا، بدءًا من الوظائف والمناصب والبيوت وجوازات مزدوجة وصفقات ضخمة وحياة هانئة وسيارات فارهة، والأدهى كلمة مسموعة ووجاهة عالية!! أيّ زمن أغبر هذا؟
آآه يا كريمة... للأسف، اجتهدنا في تربية أنفسنا لزمن لا يلتفت كثيرا للتربية الصحيحة والأخلاق والمبادئ، فكان نصيبنا الوجع الدائم، كنت أغتنم أيّ فرصة تبعدني عن عينيكِ فأتحسس رقبتي.
أشعر أن الحبل يلتف حول عنقي وأخشى أن تكوني قد لمحتني أطوّق رقبتي بأناملي.
بعد ثلاثة أيام قبل الفجر سمعنا صليل الباب ونُودي عليها، عانقناها جميعنا، علا صراخنا وضجيجنا.
سلّمناها للشرطي الغليظ، رجل جاء ليصحبها.
من يسير بها إلى الموت رجل ذو ملامح غليظة، ولست أدري لم يكون الرجال الذين يقودون إلى الموت ويتعاملون مع المشانق بوجوه وعيون تثير الرعب؛ جامدة بقسوة لا حياة فيها ...
وتلاشت رفيقتنا الرقيقة في لحظات، لنستقبل صباح يوم الإعدام بصمت وذهول.
***
ذكرى لعيبي – قاصة وشاعرة