نشاطات المثقف
مراد غريبي: عن المناعة الأخلاقية وتجديد الوعي الثقافي: مؤسسة المثقف أنموذجا
يشهد العالم العربي تحديات عديدة ومصيرية على جميع الصعد، فكما تتصارع باقي بلدان المعمورة مع جائحة كورونا، جغرافيتنا العربية والإسلامية تعاني كذلك من فقر مناعي خطير جعل مجتمعاتنا عرضة لكل الأمراض ليس الجسمية فقط وإنما النفسية والأخلاقية العويصة والتي تعكس مستوى الإنحراف المسيطر على الحياة الاجتماعية للعرب والمسلمين، لا يختلف عاقلان في تشخيص الواقع العربي العام من طنجة لمسقط، هناك مهددات أخلاقية كبيرة اتلفت كل مواطن الصلاح والسلام والتمدن والتحضر، هناك احصائيات تؤشر للوضع الماساوي للتعليم والتربية ولعل ابسط اطلالة على مركز الدول العربية في سلم تقييم التعليم في العالم يعكس مدى التخلف والتراجع والانحدار في تطوير المناهج وتحسين مستوى الأداء التعليمي والتربوي في عالمنا العربي ناهيك عن الفقر الذي أصاب الإنتاج الثقافي الأدبي والفني بالنظر لدول مثل المكسيك واسبانيا والمجر التي استطاعت خلال عقد من الزمن في النهوض بمستوى الإنتاج الأدبي ورفع مقياس القراءة لدى مواطنيها، هذه الحقائق المؤلمة التي تربك العديد من العرب والمسلمين الذين يشكون الضمور الثقافي ويتمنون لو ترجع السنين الى فترة الستينات والسبعينات وحتى منتصف التسعينات حيث كان الفعل الثقافي والأداء التعليمي والتربوي لابأس به بالنظر للأوضاع المعيشية العامة أنذاك!!
ترى..أين يكمن الخلل؟؟ هل في المشاريع واداراتها؟ أم العولمة وآلياتها؟ أو التاريخ ومخلفاته السلبية؟؟
الاكيد كل هذا وغيره يجيب عن أزمة ثقافة خطيرة تعاني منها الأمة هذه الأزمة التي انعكست بقوة في ضعف المناعة الأخلاقية على مستوى العديد من الحقول الحياتية وحيثما توجهت الأنظار هناك فقر أخلاقي في التفاعل والاختلاف وحتى التعاون والحوار والتكامل، لا تزال أسئلة الحرية والتعدد والتسامح والإصلاح والإتقان والإحسان تعتبر اما هرطقة أو حماقة أو مجرد تسلية ثقافية، هذا الراهن العربي نشاهده في السوق كما في الفضائيات كما في المؤسسات المفروض انها مدنية ومعاصرة وحداثية وفي الملاعب والحدائق والمساحات التجارية الحرة وبالمستشفيات وبالمناسبات والحفلات، هناك اجتماع متوحش خطير تغلغلت اخلاقه في عمق مجتمعاتنا حيث أصبح الأديب زنديق والمفكر خارج عن الملة والمجدد مبتدع ضال مضل والمثقف الحر عموما ملحد ومارق، هذه الحالة هي التي جعلتنا أمة محجورة ثقافيا طيلة عقود وهناك من يرى اننا خارج التاريخ منذ قرون. المناعة الأخلاقية التي ضربت في مجتمعاتنا هي نواة كل نهضة وتجديد وتغيير، لان المشاريع التغييرية التي لا تعير المناعة الأخلاقية أي اهتمام هي مشاريع فاشلة وفاقدة للصحة والمصداقية كما يعبر المفكر الراحل مالك بن نبي، المناعة الأخلاقية ليست عروضا ثقافية وإنما تمثل نفسي ثقافي للهوية الحضارية العربية والإسلامية، فالمواطنة حتى تصبح ثقافة إجتماعية سليمة تحتاج لحمية ثقافية تربوية للأجيال بعيدا عن الأدلجة بكل تمثلاتها وخصوصا ادلجة الدين، كما لا يخفى أن الدول ذات صحة حضارية مصداقية وجودها تبرز في شبكة ثقافية واحدة تظهر معالمها في مؤسسات التعليم والتربية والإعلام والصحة والرياضة والتجارة والاكيد تكون بلدا سياحيا عالميا ليس بالتاريخ فقط وإنما بإنسان الحاضر، هذه السطور جاءت لأننا نلاحظ تعامل شعوب منطقتنا مع افرازات الجائحة وما حل ببلداننا من دمار بشري ونفسي واقتصادي وأيضا ثقافي اضافة لكل الكوارث والمعضلات الحاضرة منذ عقود بل قرون، هناك خلل مناعي في ثقافتنا الأخلاقية لابد للمثقفين والمهتمين بمصير ومستقبل هذه الأمة أن يرفعوا الصوت عاليا ويستثمروا كل ما من شأنه صد هذا الوباء التي زاد جائحة كورونا ضراوة وتدميرا لإنساننا..
المناعة الأخلاقية محلها من الإعراب هو مساءلة الفوضى وتحديد الأورام والفيروسات الثقافية ثم تجديد الصحة الثقافية العامة عبر مشاريع الإصلاح والتطوير من خلال إثارة الوعي النقدي البناء والمستوعب لأبعاد وآفاق التجديد الثقافي في الأمة..
أحد محددات ضمور المناعة الأخلاقية في واقعنا الثقافي العام، ظاهرة الاستخفاف بمشاريع المثقفين والأبحاث النقدية للمفكرين وتشويه شخصياتهم لتسقيطهم والسعي للتشهير بهم والضخ الإعلامي عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بتحذير المتابعين من الاهتمام وأفكارهم ومطارحاتهم خشية فقدان المصالح وتغيير الواقع واكتشاف الجماهير للزيف الممنهج والمسيطر على أركان الواقع الثقافي حيث الجمود والتخلف والاستهتار والأدلجة تسود السلع الثقافية التي اغلبها استيراد أو تغليف لأفكار ميتة او قاتلة، هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم بل عانى منها العديد من المثقفين والمجددين أمثال رفعت الطهطاوي والأديب المفكر قاسم الأمين والدكتور علي عبد الرزاق والاديب العالمي طه حسين والمفكر مالك بن نبي الذي لايزال فكره مؤثرا لدرجة أنني قبل سنوات طالعت بشغف المعرفة لاحد الدكاترة ما اسماه دراسة نقدية لاهم افكار مالك بن نبي فإذا بي أجد الكاتب كأنه لم يستوعب تماما مضامين أبحاث المفكر مالك بن نبي وأغلب نتائجه تسقيط وعدم قبول دون بديل ولا حجة ولا دليل بل دون إدراك لأصول الأفكار وأبعادها وهندستها في منظومة فكر مالك بن نبي رحمه الله، ومع الموجة العولمية وشبكة الإنترنت أصبح من السهل لكل حانق أو رافض للتغيير والتمدن أن يزج ببضاعته المرضية عبر فضاءات التواصل الاجتماعي وأحيانا بإسم الغيرة على الدين والعروبة وما هنالك من شعارات حق يراد بها ترسيخ الفوضى والتخلف إما بعلم أو دونه، ولقد عانى الكثير من مثقفينا الاحرار المجددين في الفكر العربي والإسلامي الراحلين رحمهم الله والأحياء اطال الله في أعمارهم بمصر والعراق ولبنان والجزائر وتونس والمغرب والخليج ومن هم في المهجر الغربي والشرقي، هؤولاء الحكماء والعلماء والمثقفين نواة النهوض الجديد أو ميلاد المجتمع الجديد كما كان يؤكد بن نبي رحمه الله، كلهم بلا استثناء عاشوا بالمبادئ ورفضوا المصالح والمناصب والثروات المليونية والاشهار المزيف في الغرب وفي ربوع وطننا العربي من أجل ترشيد الوعي الثقافي العام بمسؤولية بناء الإجتماع المدني الحضاري وجسدوا المناعة الثقافية الأخلاقية بأبهى صورها من خلال النقد البناء والمسؤول واحترام الرأي الآخر والانتصار للتعدد والتنوع الثقافي الخلاق للنهضة والتحرر من الهيمنة الأجنبية في الثقافة أولا وبالتوالي في الميادين الأخرى..
المناعة الأخلاقية في المجتمع العربي معامل استراتيجي في حيوية تجديد الوعي الثقافي وترشيده لأنه كما ورد عن الإمام علي كرم الله وجهه: "لو سكت الجاهل ما اختلف الناس" هناك حاجة ماسة لتفعيل المناعة الأخلاقية عبر قنوات التواصل في اوطاننا وعبر سن القوانين للردع ودعم المجددين الحقيقيين الناهضين بالثقافة العلمية والنقاشات الفلسفية والفكرية الهادفة لبعث إصلاح ثقافي شامل وعميق، ثم هناك ضرورة لاستحداث شبكة مستقلة لتجديد الثقافة والتنمية في العالم العربي، تهدف لفتح المجال أمام الأكاديميين والمفكرين والأدباء والكتاب في عرض أعمالهم وتطلعاتهم وسعي نحو ملاحقة الأفكار الميتة والقاتلة في واقعنا، ولا أبالغ أو اجامل بالقول إن مؤسسة المثقف رغم كل الصعاب والتحديات التي واجهتها استمرت ولاتزال تتصدى للتخلف والتزييف والتسقيط والتشهير التي شوهت صور الوعي والنهضة والإصلاح والتجديد، وكل ذلك بفضل صبر وحكمة المفكر الحر الأستاذ ماجد الغرباوي ورفاقه في المؤسسة والذي زادهم ثقة وعزيمة هي الثلة المؤمنة بالوعي والنهضة والقيم والمبادئ والأخلاق والعلوم والمعارف والحضارة والمدنية من الكتاب والمثقفين والأدباء من طنجة إلى جاكرتا، هذه المؤسسة أنموذج حي استطاع أن يوصل صوت الوعي للنساء في البيوت والطلاب في الجامعات وعلماء الدين في المساجد ومجاميع الشريعة وللعلماء في مراكز البحث العلمي وللأدباء في نصوصهم الخلاقة للوعي الثقافي الجديد..شكرا للاستاذ ماجد ورفاقه ولكل من يسهم في إثراء نتاج مؤسسة المثقف من المثقفين في العالم العربي والغرب والشرق وأملنا الكبير أن نستعيد المناعة الأخلاقية في مشهدنا الثقافي حتى يتضاءل الفكر الأحادي ودعاة ملكية الحقيقة المطلقة وتحلق حمامة التسامح في سماء العرب والمسلمين بكل حرية وسلام ...
***
بقلم: مراد غريبي
كاتب وباحث في الفكر