مناسبات المثقف
الأستاذ ماجد الغرباوي المحترم
تحية طيبة، وبعد:
مداخلتي هذه ليست لها أي دوافع سوى ان أرى المثقف وهي تحتل مكانتها الرفيعة دون ثغرات أو عثرات لا غير .. وهي مداخلة موضوعية خالصة تجمع بين فقرتين، كما أسلفت سابقًا في الرد .. كما تتضمن موجزًا مكثفًا للملاحظات التي استطعت الوقوف عندها خلال الشهور القليلة الماضيات .. فهي ليست نقدًا إنما إجتهادًا ومشاركةً في التقويم والنجاح، ولا أدري ما إذا كان واقع الحال سيسمح بمعالجة الثغرات التي أراها، والرغبة في أن تظهر المثقف في منهج يأخذ بنظر الأعتبار القدرة على الأستقطاب الأيجابي دون أن تؤثر فيه مدخلات المفاهيم ومخرجاتها، إقحاماتها وإقتحاماتها، بأي شكل كان .. لأن المرمى ينبغي أن يجمع ولا يفرق.
إنسيابية رائعة تشهدها مسيرة (المثقف) طوال السنين التي مرت من عمرها .. ولو أن تجربتي معها قصيرة جدًا، إلا انني اجدها مسيرة زاخرة بالثقافة العامة و(الفكر) و(السياسة)، أحيانًا يشوب المنشور فيها شيء من الأرباك في منحى الفكر وكذا الأستطلاع، الذي يفترض التعامل مع هذه النافذة بحذر شديد، طالما أن ديباجة (المثقف) قد أعلنت والتزمت بما رسمت ووضعت لنفسها من أهداف و(محددات) لم ترقَ إلى مستوى التنفيذ الدقيق، فضلاً عن مفرداتها التي يتطلب أمرها القليل من إعادة تركيب هذه المفردات لتصبح مفهومة وواضحة ومقبولة، تزيح الغموض عنها، كما هي مفردة قبول الشريك الآخر.. ومفردة الشريك تأتي من الشراكة، فالشركة، ثم عقود الشركة التي يمكن فسخها في أي وقت .. فكيف والحال إذا انسحب الأمر على المواطنين البشر؟!
مفردات الصحيفة وتبويبها وأبوابها جميلة ومفيدة وتفي بالغرض، طالما هنالك مساحة في الذهن، ليست صغيرة أو قاصرة، للتطوير والتثوير والتنوير في صلب حقولها المعرفية.. ولا أشك في قدراتها والعاملين فيها على ذلك، كلما كان الأنفتاح الموضوعي (محسوبًا) و(مدروسًا) لتقبل الآراء التي لا تثير الحفيظة ولا تكرس الردود والمداخلات المبنية على التشنج وعدم الفهم أو الفهم المضبب، حيث يتوجب أن تخضع لـ(معايير) مُعلنة تضعُ حدودًا للتداخل والتماس والأحتكاك، وخاصة تلك التي تحمل المقاربات بين واقعين في الفكر والفقه واحداث التاريخ دون تضخيم جانب وتقزيم آخر أو بالعكس .. والتي تعد ثغرات، من شأنها أن تحدث (شروخًا) وإتساعًا في هوة العلاقات الأجتماعية الأنسانية، والتي قد تأتي كلها تحت دواعي (الأنفتاح) أو الأقبال عليه .. والمؤكد في الأمر، ان هدف الفكر والثقافة في جملته هو التقارب لا التباعد والوحدة لا التفكك والحب لا الكراهية، والأصرار على تحاشي نبش القبور، والأحتكام بمقاييس العصر لأحداث الماضي السحيق التي لها مقاييسها ومعاييرها وأحكامها الخاصة.
احيانا اتساءل دون تحديد، ما الذي تضعه الصحيفة، أي صحيفة، من شروط أمام الكاتب؟ وكيف ترى كتاباته وبأي المعايير تراها صالحة أم أنها لا تصلح؟، ثم أي واجبات تترتب أو تداعيات على الصحيفة وعلى المتلقي العادي جراء كتابات تخرج عن سياقات المنطق مثلاً ولا تلتزم بحال الهدف الأساس الذي تعلنه الصحيفة ذاتها إلتزامًا موضوعيًا وإعتباريًا أمام نفسها وأمام الآخرين؟!
وعلى الرغم من اطلاعي القصير على سير وتاريخ المثقف لأنشغالاتي الكثيرة في متابعة الدروس المهنية المتخصصة، فأني أجد الصحيفة قد نالت إعجاب الكثيرين من حيث الشكل والأنسيابية، أما التبويب فهو جيد جدًا .. والمهم ليس الشكل فحسب، إنما المضمون أو المضامين.. وأجدها جميعًا دسمة بالمواد وغنية بها متنوعة وشاملة .. تجد الشعر والنقد والأدب والفن والقصة و(الفكر) و(السياسة) التي يجول فيهما كتاب بعضهم، وهم قلة، محكومون برواسب لا تنفع في ترميم الواقع، وربما يصعب على الصحيفة قبولها، والأستغراب هنا، كيف لهذه الأقلام أن تخالف المنطق أولا وتخالف ما التزمت به الصحيفة من أنها تجمع ولا تفرق .. حتى أن هذا البعض بات يتمسك بنهج لا يمت للطبيعة الموضوعية بصلة .. وهنا يبرز التساؤل، ما هي المعايير الصحفية التي تستقر عليها الصحيفة، أي صحيفة كانت، يتوجب أن تتمسك بمعايير النشر وشروطه.
ولا ننسى أهمية اشاعة اسلوب الحوار الحضاري، على وفق قواعد للحوار معروفة، لأن لا أحد يستطيع أن يعلن أنه يمتلك الحقيقة الموضوعية - فيما يعلن البعض أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة - وهو الأمر الذي يمثل نهجًا إقصائيًا للآخر ومسارًا للتهميش حتى إنكار وجوده أو إحتقاره، فما بالنا عن حقوقه وحقيقة وجوده الأنساني.. وإن احتكار الحقيقة الموضوعية بالتشويه والتقزيم أو القمع الفكري للآخر يعني مسارًا تصادميًا لا يستوي وضرورات التعايش السلمي في المفاهيم، التي يشترطها الحوار الحضاري، كلما كان ضروريًا .. فأذا تثقف المرء وعرف معنى الحوار وكان مستعدًا لقبوله والتسليم بنتائجه ومضامينه ومحدداته، عندئذٍ، يستطيع ان يتواصل في الحوار حتى يصل الى قواسم مشتركة، لا أن يفرض ما يريده وكأنه نص مقدس .. الحديث هنا عن العام الشامل .. النصوص المقدسة لا أجتهاد فيها، وكذلك المُسَلَماتْ، وهذا الأمر يقتضي التنوير بعدم الخلط بين الفقهين: الفقه الديني والفقه السياسي .. وإن عملية الخلط تكون دائمًا مبعثًا للأضطراب والفوضى .. وعليه، أن نعي بأننا بشر حتى الأنبياء بشر، ولكن يوحى لهم، ولسنا آلهة أو أنبياء، تحكمنا معايير الأرض بروحية السماء، والمعنى في هذا أن ندع الفقه الديني للسماء والفقه السياسي للأرض ولا نلوث الفقه الأول بملوثات السياسة، أن ندع كل شيء في مكانه .. الفقه الديني يبني الأنسان على أساس واحد هو التقويم، والفقه السياسي يبني الدولة حسبما تشتهيه الشعوب وعلى وفق واقع حقائق التاريخ وحقائق الجغرافيا ومعايير الأنسانية السامية المثبتة في ديباجة الأمم المتحدة وميثاقها.
هكذا نمسك الميزان ونثبت محوره على أساس الأنحياز فقط للحق والعدل والأنصاف.. فهذا ما انتهت إليه الكنيسة والدولة القومية منذ زمن بعيد حين فكا ترابطهما الأقحامي.. فالحياد لا يعني الجلوس على التل والنظر إلى مباريات ينهش البعض بالبعض الآخر .. الضوابط ضرورية لأي صحيفة مهما كانت مطبوعة ورقية أم غيرها .
مثل هذا التثقيف تقع مهمته الكبرى على المثقفين والمفكرين والكتاب والمؤتمنين على منافذ الأعلام .. تعليم الناس مهمة شاقة، إلا إذا سار الجميع في وحدة القلم المستقيم القائم على منهجية الثقافة العادلة والنقية، التي لا تحبس نفسها في مناخات التاريخ وتنسى الحاضر المعاصر أوبالعكس تمامًا، ولا تقوم بتشويه حقائق ذلك التاريخ بالأنتقائية، ولا تحابي أو تخاتل أو تجافي .. وهي مهمات يحكمها منهج يتضمن محددات عقلانية يعلن عنها من خلال القلم والتأكيد المكتوب والأعلان المنشور.
و(المثقف) عليها أن تمنع الشروخ واحتمالات حدوثها، بوسائل عملية عقلانية حضارية وان تجعل في بوابات الردود واستقبال المقالات معايير تتمكن من ضبط المدخلات والتمكن من وضعها في الساعد الجامع لكي تستبقي على التوازن الموضوعي الطبيعي في الحقول المعرفية كافة ومنها الفكرية والسياسية على وجه التحديد.
وكما نعلم، هنالك فرق بين فن الكتابة السياسية وبين كتابة المقال السياسي .. والذي أراه أحيانًا هو الخلط الهجين بين عالمين، عالم الفن في الكتابة السياسية وبين عالم يغيب فيه الفن في الكتابة السياسية، وغالبًا ما أرى أن هنالك قصورًا في (الوعي بالأزمة) الذي ينتج حزمة من التشويه واساليب تمسخ حقائق وتمسح من الذاكرة براءة التطلع الحقيقي من اجل الفهم النقي الصافي للاحداث .. فمن خصال الكاتب النقية والصحفي والباحث ايضًا، الأحتكام إلى حقائق التاريخ وحقائق الجغرافيا والمعطيات الأنسانية وعدم التسرع في الاحكام، وإجادة قراءة ما وراء السطور والترفع عن المهاترات والمحابات وتزييف التاريخ، وأن تكون آراءه وكتاباته بعيدة عن التسطيح في تناول الموضوعات .. وما أرى بعضه خليطا من هذا النوع الذي يتوجب غربلته بعلمية، لأن المهم (الكيف) وليس (الكم) من الكتاب والمفكرين والباحثين وغيرهم - ولا أعني في هذا، العاملين في المثقف إطلاقًا - إنما البعض من الذين يقدمون نتاجاتهم من هذا النوع، فتظهر للنور كما هي بشوائبها .
ولا بأس في الحوارات، ولكن ضمن ضوابط حضارية .. والحوار يختلف عن الجدل، الأول حضاري والثاني يقود إلى متاهات غير صحية .
- كنت قد وقفت عند عدد من (المقالات) وكذلك (الأستطلاعات) وما أفرزته من تعليقات ومداخلات كرست شيئًا من التشويه والتشويش، والتي بدورها قد تزيد من مساحة الخلافات وليست الأختلافات في وجهات النظر وتعمقها في جزئية إستطلاعية حول بعض الموضوعات، كانت المثقف تود الوقوف على رأي القراء وغيرهم حولها .. وهي في حقيقتها موضوعات تحتاج الى التفكير والتأني، قبل إطلاقها، طالما أنها (جزئية) أو (محدودة) لا تعالج الحالة العامة، إنما كما يبدو، تهدف تبيان الأتجاه أو جمع إحصاءات كي تعطي مؤشرًا معينًا، كما أظن في مثل هكذا استطلاعات، الأمر الذي يسقط مسعى الأستطلاع في مطبات ينبغي تجنبها، بشروطٍ أو ضوابط .
حقل الأستطلاعات، ينبغي أن يكون ممنهجًا ومبرمجًا يأخذ سياقه العام الشامل، ثم، يحدد الأولويات والبدايات، من أين تبدأ في حل هذه الأشكالات، هل من الرئيسي الأساس أم من الثانوي الذي لا يقاس عليه؟!
- الحوار هو أجدى من الجدل حول المفاهيم والحكايات والروايات التي فات عليها الزمن، على الرغم من إعتزاز الجميع بالماضي، خاصة الذي تفتخر به الأجيال من أجل نموها وتطورها وازدهارها ورقيها، وليس من أجل فرقتها وإقتتالها .. العمق الحضاري لأي شعب في عرف (الفلسفة السياسية) يعد أحد أهم مقومات الدولة، (فأمريكا وعمرها الحضاري لا يتعدى ثلآثمائة عام تكره حضارات العالم الأكثر عمقًا، لأنها تفتقر إلى هذا المقوم، لا تملك جذورا للحضارة الراسخة مثل: الحضارة الأوربية والحضارة الصينية والمصرية والحضارات السومرية والأكدية والآشورية والحضارة العربية الأسلامية)، فأذا عمد البعض على تشويه عمقه الحضاري، فكيف يمكن بناء المجتمع وبناء الدولة.؟ أما التطرف والمتطرفين، ففي كل ديانة فئة متطرفة - في الديانة الأسلامية، السلفيون التكفيريون، وفي الديانة اليهودية، الصهاينة العنصريون، وفي الديانة المسيحية فئات رفعت السيف على كل معارض اتهمته بـ(الزندقة) أو الـ(هرطقة)، وأوقدت الكنيسة الحطب في الساحات العامة لتحرق من يخرج على نهجها ورجال الدين بأحكام محاكم التفتيش، ومتطرفون آخرون يشهرون ديانات أخرى أو معتقدات .. كلهم لا يمثلون هذه الديانات .. لأن كل الديانات سماوية خالصة لا تعتدي على مخلوقات الأرض، إنما الذي يعتدي هم الذين يحتكرون مسؤولية هذه الديانات من البشر.. نعم من البشر، ليسوا أنبياء ولا أولياء .. هم بشر.!!
- فَقَدَ (الأسلام- السياسي) وزنه وثقله وصدقيته في العالم وبات في موضع الرفض والشك في المجتمعات العربية والأسلامية والأجنبية، وهذا يختلف عن الدين الأسلامي .. وكما يرى العالم الراهن، كيف بات (الأسلام السياسي المؤدلج) أداة من أدوات السياسة الخارجية للدول الكبرى والعظمى والأقليمية لتمزيق المجتمعات وتدمير القيم والتراث الحضاري للدول (داعش) مثالاً .. وما يقابله في هذا المضمار، أن الأستعمار القديم والحديث هو سبب التخلف والقهر والأذلال وإنعدام الأمن والأمان جراء الحروب التي يشنها على الشعوب، وهيمنته على مقدراتها طيلة قرون من تاريخه الأستعماري وحتى الوقت الحاضر.. الأمر الذي جمع بين إثنين (الثروة والقوة) الأولى إستولدت القوة .. فالثروة والقوة معًا دفعتا إلى الهيمنة على مقدرات الشعوب وبالتالي ظهور الأمبريالية في أعلى مراحل الأستعمار، الذي نهب ثروات الشعوب وقام ببناء بلدانه بناءً قويًا، بمعنى أن بناء الغرب وتطوره جاء على أنقاض دول الشرق المستعمر وغيرها، وهذه حقيقة لا يجوز طمسها أبداً .. إذن السبب الأساس لكل الأرهاصات والمشكلات والتأزمات يكمن في نهج التعامل الأستعماري في السياسة الدولية .
ليس في الوسع الأطالة .. وربما تكفي مثل هذه الملاحظات أو المدخلات من أجل إيجاد مخرجات لها تظهر في صيغة إستطلاعات المستقبل على غرارها، حيث تنطلق من قاعدة محكمة من الأفكار الموضوعية والأنسانية لا غير، لتكرس الأمن الأجتماعي والأدراك الحضاري المتقدم والفهم المشترك لمعنى الحوار الحضاري القائم على معايير لا أحد يشك في صدقيتها.
عشر سنوات من عمر المثقف أهنئكم عليها من القلب، متمنيًا لصحيفتنا دوام التألق في الشكل والمضمون مع مزيد من النجاحات.
دمتم، أستاذ ماجد بخير.
د. جودت صالح العاني
متخصص في الفلسفة السياسية
للاطلاع على مشاركات ملف: