مناسبات المثقف
الصحافة الحرة وأثرها في المجتمع
في عالم صارت فيه الصحافة تجارة والكتابة رتابه فأختلط فيه الحابل بالنابل والمظهر بالجوهر والغش بالنزاهة والكذب مع الصدق، عالم تتحرك فيه الكلمة في مزادات علنية ويمتلك فيه أصحاب الشأن والنفوذ والمال والسلطة زمام أمور السلطة الرابعة من مؤسسات ثقافية وصحافة. في هذا العالم فقد المثقف ثقته بالكثير مما يقرأ ويسمع لأن الكاتب، وفي كثير من الأحيان، صار يكتب وقد يكون غير مؤمن بما يكتبه لأنه لا يتطابق مع مفاهيم الصدق والعدالة وبعيد عن كنه الحقيقة ولكنه مكلّف بما يكتب وحسب سياقات نفعية مصلحية أو إنتمائية!.
لا يعترض المراقب للوضع بأن يكون الكاتب منتميا الى حزب أو تيار أو عقيدة أو فكر شرط أن ينصف في كتاباته ولا تأخذه النعرات والمصالح الى سياقات المفاهيم المنحرفة والبعيدة عن جوهر الحقيقة والواقع. لا يجعل الخطأ صوابا فيبرر ما لا يبرره المنطق ويدافع عمّن لا دفاع عنه من الشؤون والأحداث أو يمتدح من لا يستحق المديح ويكيل الذم والإنتقاد الى من هم ليسوا أهلا لذلك ! هكذا كاتب يفقد مصداقيته أمام التأريخ وأمام الناس سواء كان عاجلا أم آجلا. كم هو جميل لو أنتقد الكاتب المتحزب حزبه في كتاباته وبين مواقع الخطأ والخلل وكم هومفرح لو نشرت صحيفة نقدا أو إنتقادا لسياسة ما في الحزب الذي تمثله وتنتمي اليه. فمتى صار إنتقاد النفس أو نقدها رذيلة في عالم كثرت فيه الرذائل !؟ فكم من صحيفة في عصرنا هذا تقرأها وتحس من خلال ما تقرأ تجردها عن النزعات والنزوات والإنتماءات!؟ صحيفة تتجرد عن المنافع والمصالح وتسخر نفسها لنقل الخبر اليقين والكلمة المستقيمة والثقافة الحرة السليمة؟ كم من صحيفة لا يقف خلفها كيان يرسم مسيرتها حسب الأهواء والمزاجات والإرادات!؟.
دور الكاتب في مجتمعه أكبر بكثير من دور الطبيب، لأن الطبيب يتعامل مع علل الجسد إلاّ أن الكاتب يناجي العقل والفكر وخطأ الطبيب في التشخيص قد يعود بالضرر على مريض أو أكثر بقليل ولكن ضرر الكاتب في خيبة تشخيصه وتحليله تنال من سلامة الفكر في المجتمع. فما أتعس المجتمع الذي تغزوه العلل الفكرية وتطارحه الأوهام والضلالات .. الكاتب الحر هو كالحاكم العادل، يعالج الأمور وهو متجرد عن عواطفه الشخصية وولاءاته وإراداته، ينطق بلسان الصدق والحق حتى ولو كان على نفسه أو على نهجه ومعتقداته. الكاتب النزيه يتوقف عند مواقع الخلل ويشخصها في مجتمعه ويطرح الحلول دون مجاملة أو خوف أو تردد، كي يؤدي أمانته بأحسن وجه فيرضي الضمير ويرضي الذات قبل كل شيء.
في مثل هذا الخضم المتلاطم بأمواج الأهواء والإرادات المتناقضة يكون مصير الكاتب المعتدل السوي في نهجه ورؤاه الغرق والإختناق، لأن الأمواج العاتية لا ترحم إلاّ من خف وزنه وتطاير مع الرذاذ... فكم من كاتب نزيه نطق بلسان الصدق والصراحة فجرفته الأمواج وأبعدته بل نفته الى حيث لا يقدر أن يعود... وكم من صحيفة حرة نطقت بالحق فصادرتها الأيادي المتسلطة طوعا أو كرها لأن العيون الرمداء لا تحب النظر في وهج الشمس !.
أن خنق الكلمة الحق وموت الفكر الصحيح صار غاية ومرام لدى القوى الخفية التي لا تريد للمجتمعات أن تنهض وتقوم، بل أن ثقافات طارئة ودخيلة مهذبة ومعدّة من أجل الهدم والفناء جاءتنا من حيث ندري ولا ندري، فزحفت إلينا وأستشرت فينا بل وجدت في هوّة الجهل الذي نعيش عاملا مساعدا ووسطا ملائما لأغراضها ومساعيها. ومهما يكن من أمر ومهما تصاعدت الصيحات الضالة فهيهات أن تدوم الصولة وتطول الرحلة ما دام هناك أصوات معارضة حرة تأبى وتتحدى.... أصوات نزيهة ترفض الذل والخنوع مهما أشتدت الزحمة ومهما طال الزمن، أصوات لا تريد أن تختفي ثم تموت.... فما دام هناك إرادات تأبى التراجع وتأبى الإنكسار، إرادات ترفض المساومة في الحق وفي الصواب! فلا خوف ولا خشية على مستقبل الكلمة وظهور الحقيقة. هذه الأصوات الحرة وأن قلّ عددها لكنها أثرت بثقلها وفعلها ونهجها فأصبحت نورا في ظلمة الأفكار وملاذا للمثقف الذي أتعبه النفاق وآلمته الضلالة. هذه الأصوات تكتب التأريخ بنهجها ومصداقيتها وقيمها السامية.....
صحيفة "المثقف" التي تحرق سنتها العاشرة هي أنموذجا رائعا وشاهدا حيّا عمّا نقول، فهي نابضة في حرفيتها ونهجها وحياديتها وإنبعاثها. فقد كان لها، وبالرغم من حداثة عمرها، صولة محمودة ومشهودة في كل الميادين: السياسية والإجتماعية والثقافية. هذه الصحيفة قد واكبتها شخصيّا منذ ولادتها ومنذ فجر التأسيس فوجدتها صحيفة شامخة الآفاق عميقة الرؤى رصينة الفحوى صادقة المضمون، لا تجامل على حساب الموضوعية والإختصاص ولا تساوم في الحقيقة والصواب، فتفيد من يجنيها وتؤنس من ينهل منها حتى أصبحت بجدارة صحيفة حضارية تواكب العصر في طروحاتها ومنهجها فما أحوجنا لها ولأمثالها من الصحف في عالم يملأه الضباب !
د. محمد مسلم الحسيني - بروكسل
للاطلاع على مشاركات ملف: