مناسبات المثقف
زعلَ هيكل، فهل سيزعل الغرباوي؟ / زيد الحلي
الناظر للعدد الخاص الذي أصدرته صحيفة "الأهرام" يوم الأربعاء 27 أيلول 1972 في الذكرى 97 لصدورها (صدر اول عدد من "الأهرام" في مدينة الإسكندرية بمصر الاثنين عام 1875)
سيجد مقالة للكاتب سيد عصمت، وفيها ملاحظات وجدها الكاتب تشكل رؤى غير مهنية في مسيرة الصحفية، عدد بعضها وهي لا ترتقي الى مصاف الذم والقدح لأعرق صحيفة عربية، ولم تتعد سوى تسليط الضوء على هنات مهنية عادية، وجد كاتبها ان الإشارة إليها ستسعد هيئة تحرير الصحيفة وعميدها الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل رئيس التحرير... ونُشرت كلمة "سيد عصمت" في مكان منزو على إحدى الصفحات، ومن بعدها لم تنشر الصحيفة أية كلمة له حتى غادر هيكل رئاسة التحرير وجاء على أثره علي أمين ومن ثم احمد بهاء الدين، ليصبح سيد عصمت أحد ابرز العاملين فيها ... والسبب كان واضحاً عند الصحفيين المصريين، فالكلمة بحق صحيفة "الأهرام" حملت انتقاداً " بسيطاً " لآلية النشر في الصحيفة، أعتبرها هيكل مساساً.. به!
فهل سيزعل مني الصديق (أبو حيدر) الأستاذ ماجد الغرباوي راعي "المثقف" وواضع لبناته، حين أدع مهنيتي تتحدث بدلا من عاطفتي تجاه صحيفته .. فلغة "المهنية" هي الأصوب في حالة احتفالية شفيفة مثل التي نحتفل بها هذه الأيام وأعني بها عيد انطلاقة " المثقف " كصحيفة الكترونية، بدأت بهدف طيب، نبيل وظلت على هدفها حتى اليوم، لكن ذلك لن يمنع من تسجيل بعض الملاحظات ربما لن ترضي البعض من الإخوة الكُتاب الذين تفتح لهم صحيفة (المثقف) أبواب النشر دون ان تدقق في مدى مقبولية موادهم لجدلية عقل القاريء .. نعم لن ترضي هؤلاء، وأظن ان الاطلاع على كمْ الكلمات التي وردت الى الصحيفة بمناسبة عيد تأسيسها سنجد ان معظمها ترحيب وإشادة وتعظيم فيما ان الصحيفة في رأيي لا تحتاج الى ذلك بقدر احتياجها الى كلمة صدق وحرص ليبقى الموقع على ثبات مهني، وواجهة رصينة لمثقف وكاتب رصين يسعى لأن يصبح الأمل في قلبه، نوراً أقوى من كل الجراح والمصاعب وضربات الزمن ..
فانا أدرك ان الزميل الغرباوي يرى في صحيفتة هواءه الذي يتنفس به وطعامه الذي يتغذى منه وشاغله الذي يستبد بكل ما يملك من طاقة، لذلك أتمنى على صحيفته ان تكون الكلمة المنشورة فيها مرت بميلاد دائم حتى لايصيبها العجز ولا يهزمها مرور الأيام والسنين... حيث بدأت المسُ ان بعض المواد المنشورة تحمل وهناً مهنياً واضحاً ما يدعوني الى التأكيد على ضرورة وجود كتاب ممن عرفوا برهافة الحس واتقاد الخيال ومن المتمتعين بخاصة فطرية أصيلة تلتقط الحوادث والمشاهد الثقافية وتسجيلها بعيون متنبهة ونظرة ثاقبة وملاحظة كاشفة، تبصر الآخرين بمعنى حياتهم وغاية وجودهم وقيمة واجباتهم وتنفذ في دقة وعمق الى جوهر الأشياء .
وأتمنى على صحيفة "المثقف" ان لا تهتم في بلاغة اللفظ في اللغة العربية رغم أهميته، وتقيس الأمر على ذلك فقط بل أتمنى عليها ألانتقال الى بلاغة الصورة .. فبذلك نحقق ملمحاً حضارياً لن يقتصر أثره على لغتنا، بل سيتعداه الى تفكيرنا وربما الى مشاعرنا أيضا !
وينبغي الإدراك بان الصحافة ليست لها مواعيد .. فالكاتب لا بد ان يكون يقضاً حتى وهو نائم، وهنا آمل ان لا يزعل " البعض " ممن ينشرون في "المثقف " حيث وجدتُ ان مقالاتهم نائمة من ألفها الى يائيها وسطورهم تتحدث عن مغيب الشمس فيما ان ما يريدون قوله يشيء الى غبش الصباح، فشتان بين من يتحدث عن الكتابة دون ان يعاني تجربتها بجوانحه وأعصابه وبين من (تزوجها) وما أنفك يعانقها وتصهره في كل لحظة من لحظات حياته !
وتحضرني بهذا الصدد حكاية باحث الفنون الشعبية العالمي " بول فاليري " الذي دعي مرة لإلقاء محاضرة في فن الرقص ...فهل تعرفون كيف ختم المحاضرة؟ لقد قال (سيداتي، سادتي: ليس هناك حديث عن الرقص، كالرقص نفسه .. وقد خبأت لكم مفاجأة هي "أمبيريو أرخيتا" الراقصة الموهوبة، وستحدثكم ساقاها وعطافها بحديث عن الرقص، ينفذ الى روح الرقص، كما لا يستطيع مثلي ان يفعل ورقصت "أرخيتا " فعرف الناس من أمر الرقص ما لم يدلهم عليه كلام المحاضر .. فسار الرقص يومئذ في أعصابهم قبل عيونهم وآذانهم ..
وبعيداً عن رقص " أرخيتا " أشير الى موضوع حساس وهو المجاملة وأنني أشبهها هنا، بمثل خنجر مسموم في خاصرة الصحافة، لا سيما في صحيفة مثل " المثقف " تسعى الى رسم خصوصيتها، بنسيج خاص وبنولّ خاصة وبغزل خاص ... وأظن ان صديقي الغرباوي يتذكر في رسائل متبادلة بيننا إنني حدثته عن انحياز غير مبرر وجدته في الصحيفة، حيث كان ميزان الحق عنده ( في الحالة التي يعرفها في الأقل) يكيل بمكيالين ويبدو ان انبهاره واضحاً لجهة كانت في يوم من الأيام تبعث للعبد لله مقالاتها للنشر وفي مرات عديدة كان نصيب تلك المقالات الاعتذار عنها، هذه الجهة أصبحت أحد الأعمدة في الصحيفة التي لا يجوز التقرب منها، وأقنعت نفسي بان معرفتي بأخي الغرباوي جاءت متأخرة بعض الشئ .. ويا مغير الأحوال من حال الى حال، لقد آلمني ذلك الموقف، وكنتُ أمنيّ النفس بأن نشرك القراء في ما حصل ليعرفوا الحقيقة، لكني خلدتُ الى تأمل طويل أمضغه كما الرمال، وتساءلتُ مع نفسي هل انا كاتب بصير في زمن أعمى أو كاتب راء في عصر لا يرى؟ او العكس، غير ان حدسي أعلمني بأنني ليس من هذا وليس من ذاك، فالغرباوي كما تابعته يحمل أستقامة ورؤى بعيدة عن المحاباة .. اليس هو من كتب ثلاثيته الفكرية الرائعة: "تحديات العنف" و"الضدّ النّوعي للإستبداد" و" التسامح ومنابع اللاتسمح " إذاً إنه يحس وجيب قلب عصفور وزفرة مكلوم ولهيب دمعة حرَّى، ولا يأبه لضجة كبير، وضوضاء قوم، وجلبة سلطان .. فماباله في ذلك الموقف ؟؟ ولأجل أخي الغرباوي فقط ومحبتي له، أوقفتُ ما كنتُ عزمتُ عليه في إثارة الموضوع إياه، طالما كونه من الموضوعات الثقافية ذات الشأن العام، على طاولة النقاش الصحفي الورقي وألألكتروني ..وقد ازددت قناعة بعد تأمل طويل بأن أفضل الرجال من تواضعَ عن رفعةٍ، وعفا عن قدرة وأنصف عن قوة !
صحيح ان رئيس تحرير صحيفة "المثقف" أديب وباحث يعشق الأناقة والجمال ولذلك نرى الصحيفة دائمة أنيقة وجميلة .. وشيء أصيل في روحها، كأنَّ الحياة تتزين بها ولها ... هي تلهم راعيها العطاء والإبداع وتستثيره وتستحثه وهو يستلهم من ألقها كل ما في الحسن من أوج وفي الخير من عطر، والسماحة من طيب، لكن الصحيح أيضا ان كل الأشياء تستمد مدادها من الأفق إلا قولة الحق فان مدادها يجب ان يكون من الروح ..
ودون أدنى حساسية، اذكر كذلك إنني وجدت في صفحات " المثقف " موضوعات تضطرب بين الشدة والهدوء وبين التكلف والجد ووجدت موضوعات لا ينطبق عليها هذا الوصف او ذاك !
وهنا أقول، ينبغي ان يبقى اسم الكاتب المعروف بعطائه وموضوعه، لفترة أوسع في الموقع ليأخذ نصيبه من القراءة والنقاش والتعليق، واما العذر بان ما يصل الى الموقع كثير، فهو عذر واه، فليس كل ما يُرسل، يُنشر.. وهكذا تعلمنا في حياتنا المهنية التي زادت على 47 سنة والأسماء الأدبية المعروفة ألان، عانت كثيراً قبل ان ترسخ أقدامها ... وحتى أسنان المشط الواحد فيها أسنان رفيعة وأخرى غليظة، فلننظر الى أسنان المشط قبل النشر !
أما في مجال (التعليقات) ورأيي يعرفه أخي الغرباوي، فهي أصبحت مرتعاً للمجاملات، وبات المرء يعرف ان الثناء على " مقالة " فلان سيأتي من هذا اوذاك حيث أصبح لفقرة التعليقات هواتها، وأعترف ان عجلتها سحبتني معها حتى لا أتهم بأنني أحلق عكس سرب العادة، لكني أقول أيضا لا بأس من وجود فقرة التعليقات، شريط ابتعادها عن المجاملات وسبغ الألقاب وتطيير المسميات، وقد لاحظت ان أحدهم كتب سطوراً بسيطة، رائحة المجاملة فيها واضحة، وإذا بالمكتوب عنه يقول (شكراً للشاعر المبدع الكبير .. الخ ) فيما نعرف ان كاتب التعليق يكتب شعرا لا يمكن ان يقال عن كاتبه ( شاعر كبير) .. وبعض " كتبة " التعليقات أستشف من سطورهم أنهم يضمرون غير ما يظهرون ... ولهم حاسة شم قوية النفاذ، فيعرفون ان هوى محرر الموقع مع الكاتب فلان، فتراهم يكتبون مبجلين عند اللحظات الأولى للنشر.. فيبرز السؤال : متى قرأ هؤلاء ذلك الموضوع وصح القول: ان القرابةُ تحتاج الى مودَّة لكن المودة لا تحتاج الى .. قرابة !
ان البعض يرى ان هذه المناسبة هي لأزجاء التهاني، غير الأمر الأهم، هو ينبغي ان تمتزج التهاني بالرأي السديد المحب الخالي من الضغينة لرؤية أكثر التماعاً وشمولية، فمشروع من مثل " المثقف " شبيه بأرض جيدة بحاجة الى فلاح صالح ونشط وهذا الفلاح هو الكاتب .. وأجد من المفيد ان تختصر الصفحة الأولى من " المثقف " على أسماء معروفة لها ثقلها في الساحة الثقافية والصحفية وليس لأسماء كل تاريخها إصدار مطبوعات او كتب لا يتعدى توزيعها أربعة او خمسة آلاف نسخة او تكرر مقالات لا يقرأها سواهم هنا او هناك .. وتخصيص صفحات أخرى للكتاب الناشئين، مثلما تفعل كل صحف العالم، فلا يجوز ان تُحشر أسماء (طرية) لم يقو عودها الى جانب أسماء لها ثقلها الكتابي في المجتمع، فهذا الأمر يأخذ من جرف الطرفين، فعطاء المبدع الحقيقي لا يتأثر بالنبع الذي ينبثق منه وحسب، بل يتأثر ايضاً بالمصب الذي يتوجه اليه وأعني به المجتمع .
وبسطور أقول: ان العمر المهني علمني ان الكتابة الصحفية والأدبية هي وعاء لما يعتمل في النفوس من أفكار ومشاعر وخواطر، وهل نشرب إلا الماء؟ وهل نرتشف إلا القهوة والشاي وهل (ننتشي) إلا بما يحتويه الكأس؟
عيد سعيد يا كأس الانتشاء ... يا صحيفتنا " المثقف " ويا حمّال أسيتنا الصديق والزميل الرائع ماجد الغرباوي .. وكل عام والجميع بخير..
خاص بالمثقف .................................. الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: المثقف .. خمس سنوات من العطاء والازدهار: 6 / 6 / 2011)