مناسبات المثقف
عبـور
الى المثقف في ذكرى انطلاقتها الخامسة
تتكرر زياراته لي ويطرح عليّ نفس الأسئلة بنفس نبرة الحزن:
ـ ألم تصبحي طبيبة كما وعدتني؟
أجيب أنا بذاتِ الشعور الطاغي بالندم:
ـ للأسف، لا!
يقول لي:
ـ كنتُ أضع فيك أحلامي وظننتك ستحققيها.
أصمتُ لعدم قدرتي على الرد، أو ربما إحساس الخيبة الذي يتقطّر من كلماته يصيبني بالخرس.
رائحتك مدبوغة في شقوق الحائط ممتزجة بذرات التراب. تتسلل إليّ وتغمر هواء الغرفة. اتلفّت لأعرف مصدرها. تغمرني، تحيط بي، أمدّ يدي كي أمسك بها في كفي، كي أمسّها علِّي أَمَسّك من خلالها، علِّي أمسُّ كفك البضة، وجهك، يدك. أحسّك قريباً.. قريباً جداً. أحسّك قربي، فيّ، داخلي. أشعرُ بأني إن مددت يدي ستصطدم بك.
رائحتك تفتح مشارع الذكرى فتغزوني بغتةً مثل جيوش النمل تلسعني بقوة وفوضى: على عيني، جلدي، مسامي، دمي، أذنيّ وهما تلتقطان ذبذبات صوتك الحاني. تغمرني الذكرى فاستشعر دفء حضنك ودفء السرير عندما أنام قربك في طفولتي بدلاً عن أمي. عندما تأتي من مأموريتك التصق بك مثل الغراء. تحاول أمي أن تبعدني فلا استجيب. تقول لي: غداً سيسافر. أقول لها: ولكنه سيعود.
الآن وبعد أن كبرت وبعد أن ذهبت أنت، بعد أن أسلمتني لهذا الفقد الذي يصعب التعايش معه، لن أستطيع أن أجيب نفس الإجابة أو أكون بذات اليقين.
رائحتك تملأ كل مساحات الفراغ. تخرجني من دوامة ذكرى لتقذفني في أخرى أوسع وأعمق وتضخِم فيّ إحساس وجودك قربي. تحتسي الشاي، بكوبك الكبير الذي مازلنا نحتفظ به ـ وكم كنت تحب الشاي ـ بعده تستمع إلى الراديو مستلقياً على قفاك واضعاً رجلاُ فوق أخرى، ثم تعبث في حقيبة ذكرياتك وتنادي عليّ كي أقرأ هذه الورقة أو تلك. وأحياناً يخاتلني طيفُك وأنت تتوضأ تهيؤاً للصلاة، واستدعِ الآن فرحتك عندما انتقلنا لهذا المنزل قرب المسجد حيث قوة الآذان تضرب داخل القلب وتهزّ البدن، قلت: أكثر ما يفرحني هو جواري للمسجد، أهناك أفضل منه جار؟
اليوم عيد. الكل يرفرف فرحاً. مؤذن الجامع يُكبِّر ويهلّل والأطفال من بعده يكررون:
الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. الله أكبر ولله الحمد
أبناء إخوتي يدخلون ويخرجون فرحين بملابسهم الجديدة وحلوى العيد لا تفارق أفواههم. يأتون إليّ ويضجّون:
إياد:
ـ وين العيدية؟ ما قلتي ح تدينا ليها بعدين!.
براءة:
ـ أدينا سرعة عشان ماشين الطوطحانيات (المراجيح)
زياد:
ـ إنتي ح تدينا كم؟ العيدية بتكون كتيرة، أدينا قروش كتيرة عليك الله.
حينها كنتُ أضع اللمسات الأخيرة في ترتيب البيت. أعدِّل من وضع الستائر، أشدّ الملاءات الجديدة، وأزيد الجمرات في المبخر حيث أعواد الصندل تكمِل بهجة العيد وتهبها رائحتها.
اسمع أختي تنادي على أمي:
ـ يُمَّة.. يُمَّة.. تعالي شوفي أبويّ دا مالو.. شكلو تعبان شديد.
تذهب أمي. تتلمسّه. تسأله لا يجيب. تطلب منها أن تنادي على أخي كي يُحضِر جارنا الطبيب.
في ذلك اليوم غسلته أختي في الصباح وألبسته جلبابه الجديد، عطّرته وأخبرته بأن اليوم هو العيد، لا يبدو أنه أدرك ما تقول، أو عرف ما هو العيد. كان غائباً عن الإدراك. تسأله لا يجيب أو حتى يعطي الإحساس بأنه سمعك. ينظر إليك فتخال أنه لا يراك بل يرى عَبرك، نظراته زائغة، تائهة في فضاء المكان.
سقته الشاي الذي يحبه وأعادته إلى رقدته في السرير وغطته جيداً. سألتها:
ـ قدر يشرب الشاي؟ رجّع؟
ـ ايوة شرب. لكن ما متأكدة ح تحتفظ معدتو بيهو ولا ح تطلِّعو.
كنتُ طفلته الأثيرة، كان يحبني جداً. عندما يراني جالسة بهدوء وحدي لا أتسامر مع بقية الأسرة يأتيني ويسألني:
ـ مالك، في شنو؟ قاعدة براكي ليه؟
ـ ما في حاجة.. قاعدة ساي.
ـ أمشي أقعدي مع إخوانك وإتونسي معاهم، ما بحب أشوفك قاعدة براكي كدا.
كان يخصني بكل شيء يحضره، حلوى، نقود، قصب سُكّر، فول، تسالي، يخصني بالحنان، القرب منه، كل شيء وعندما يحتج أخوتي يتحجج بأني آخر العنقود.
بعد عودتي من المدرسة كنت أسأل أمي عن الغداء فيرد عليّ هو:
ـ امشي المطبخ براكي، انت بتخجلي دا بيتك امشي أكلي.
يعلن دوماً عن آماله الكبرى فيَّ: ابنتي هذه أريدها طبيبة. يناديني دائماً بالـ (دكتورة) وكنتُ أطرب لهذا النداء. وبعد كل هذا الحنان عجزتُ عن تحقيق رغبته.
في انتظار الطبيب كنت أجلس قرب رأسه وهو ممدد على السرير. ألاحظ حبيبات من العرق على جبينه ورأسه الأصلع. أمسحها بيدي مجردة من أيّ منديل. يندّي جبينه مرة أخرى أمسحه مرة أخرى. يستمر في الندى وأواصل أنا في المسح بيدي العارية.
عندما حضر الطبيب وجَدَنا نحيط به، أمي تدلك أقدامه المتشنجة، أختي على الطرف الآخر من السرير تمسك بيده، أخي واقفاً ليس ببعيد، وأنا على رأسه ماسحة جبينه باستمرار. عاينه بدّقة. أمي انتبهت لنظرات أبي. ربما أدركت ما كان يحدث، بدأت تردد الشهادتين، الطبيب لم يطلب منها الصمت، بل واصل في قياس الضغط وفتح عينيه وقراءة نبضه. رأيتُ شفاه أبي تتحرك وتردد بعد أمي الشهادتين بصوتٍ خفيض يكاد لا يُسمع. ثم غاب الصوت وبطأت حركة الشفاه.
في لحظة فاصلة ندّى الجبين بغزارة. توقفت الشفاه عن الحركة، رفع الطبيب رأسه وعلى وجهه تعبيرٌ آسف.
لجهلي لم أكن أدرك حتى تلك اللحظة بأني أمسح أثر تعرُّق خروج الرَّوح، ولم أدرِ أنها خرجت. ربما عبرت قربي، ربما اصطدمت بي أثناء عبورها، ربما ودَّعت، لوَّحت أو ابتسمت، لكني رغم قربي ما رأيتها قط.
كاتبة واديبة وروائية سودانية
خاص بالمثقف
..................................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: المثقف .. خمس سنوات من العطاء والازدهار: 6 / 6 / 2011)