تقارير وتحقيقات
قراءات في المنجز الأدبي والنقدي للدكتور أبو الخير الناصري
نظم المرصد المتوسطي للتنمية والمواطنة واندماج الجاليات لقاء لقراءة الأعمال الأدبية والنقدية للدكتور أبو الخير الناصري، وذلك مساء يوم السبت 24 شتنبر 2022م بمقر المرصد بأصيلة.
شارك في هذا اللقاء الذي سيره ذ.محمد البوعناني المنسق العام للمرصد الأساتذة الباحثون الدكتور نجيب الجباري، والدكتورة نبوية العشاب، والأستاذ عبد الصمد مرون، والأستاذ محمد المودن.
المداخلة الأولى قدمها الدكتور نجيب الجباري في موضوع "الخطاب السجالي في كتابات الدكتور أبو الخير الناصري"، انطلق فيها من تحديد مفهوم الخطاب والسجال في اللسانين العربي والفرنسي، وخصائص الخطاب السجالي، وحضوره في الأدب العربي، ثم انتقل لتحليل طبيعة الخطاب السجالي، وتقنياته، وآلياته في كتابات الدكتور أبو الخير استنادا إلى عدد من مقالاته التي ضم بعضَها كتاباه "وردة في جدار" و"خارج القفص" ونُشر بعضها في أعداد من جريدة "الشمال".
وقد أشار د.نجيب الجباري إلى أهمية الموضوعات التي يُساجل فيها الناصري وتنوعها (موضوعات سياسية، وحقوقية، وتعليمية، ولغوية...)، وذكر مجموعة من سمات السجال عنده، ومنها: أنه ينظر إلى مُخاطَبه بنوع من التقدير والاحترام، وأنه ينأى عن استخدام الأساليب العدوانية والعبارات العنيفة، وأنه لا يُلغي خطاب من يساجلهم وتصوراتهم، بل يقدمها ويستحضرها ابتغاء منه للموضوعية وسعيا لإعطاء الآخر حقه في الكلام قبل الشروع في مناقشته، ممثِّلا لذلك كله بنماذج من سجالات الرجل لكل من رئيس الحكومة لسابق عبد الإله بنكيران، ونور الدين عيوش، والباحث محمد قنديل وآخرين.
وفي بيان أشكال السجال عنده وجدها تستجيب لأشكالها التي حددها الجاحظ في: محاجة الخصوم، ومناقلة الأكفاء، ومفاوضة الإخوان، ومثّل لكل شكل منها بضروب من سجالاته.
كما عرض لأساليب الاستدلال في سجالات أبي الخير، ومنها الاستدلال الاستنباطي، وأساليب بلاغية (كالاستعارة، والتشبيه، والتمثيل)، وأساليب إنشائية (كالاستفهام، والأمر، والتمني..)، وبيّن أنواع الحجج التي يعتمدها في سجالاته كالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والوقائع العلمية والاجتماعية والتاريخية، وأشاد باللغة التي يعتمدها في سجالاته، واصفا إياها بالبساطة، والعمق، والجمال، والإفهام.
وانتهى إلى خلاصات منها "احترامُ د.أبي الخير، في سجالاته، لكل الآراء المعارضة حتى ولو لم يقتنع بها؛ وذلك لإيمانه بثقافة الاختلاف، وخلوُّ أسلوبه من السب والشتم، وانطلاقُه في سجالاته من معرفة كاملة ومن مصادر موثوقة متصلة بالقضية موضوع السجال، وقدرتُه على الإقناع والمناقشة وتقبل الرأي الآخر دون أن تكون غايته الانتصار على الخصم، والتزامُه بالموضوعية والابتعاد عن الذاتية والطعن الشخصي..".
بعد ذلك تناولت الكلمة الدكتورة نبوية العشاب في مداخلة عنوانها: أبو الخير الناصري من خلال كتابيه "في صحبة سيدي محمد الناصري رحمه الله" و"في صحبة أستاذي محمد الحافظ الروسي"، جعلتها في محورين أفردت كلا منهما لأحد الكتابين.
وقد وصفت الكتاب الأول بأنه "صغير الحجم، كبير الفائدة، يضم بين ثناياه قضايا تربوية هامة، ويقدم منظومة من القيم والمبادئ الأخلاقية التي تضبط علاقة الآباء بالأبناء، وتؤسس لمنهج قويم، من أجل تربية سليمة"، وانطلقت تمثل لذلك بما ورد في الكتاب من مناقب الأب محمد الناصري - رحمه الله - كحرصه على تنمية ملكة القراءة عند نجله وتهييئ البيئة المناسبة لذلك، وبذله الغالي والنفيس لتطوير قدرات ابنه الفكرية والإبداعية، وتعلميه إياه الانفتاح على الآخر دون فقدان للهوية أو زعزعة للمبادئ، واتخاذه ابنه صديقا وتقديم عصارة التجارب المعيشة له دروسا وقصصا صالحة للاعتبار والاتعاظ....لتخلص من تعداد تلك المناقب إلى أنها "نموذج للعلاقة الصحيحة المتينة و المثمرة التي ينبغي أن تكون بين الآباء والأبناء".
كما أشارت المتدخلة إلى جملة أمور لفتت انتباهها في هذا الكتاب، وذلك كالحس النقدي لمؤلفه، وتحريه الصدق في الحديث، وقدراته السردية التي تشربها من مجالسة والده وإصغائه لحكيه.
ثم انتقلت للحديث عن كتاب المحتفى به عن أستاذه د.محمد الحافظ الروسي، مبدية إعجابها بطبيعة العلاقة التي جمعت الطالب بشيخه، وهي علاقة "لا تقل أهمية عن علاقة الأب بابنه".
ونوهت د.نبوية كثيرا بما ضمه الكتاب من يوميات "تحكي عن المواقف والأحداث التي جمعت أبا الخير بأستاذه، والتي من خلالها خبر معدن الأستاذ الأصيل، ونقاء سريرته، وحسن ملاطفته لطلابه، وتقديره لظروفهم، وحرصه على إفادتهم، وتشجيعه إياهم على السير في طريق العلم، واعترافه بكفاءة الأكفاء منهم، وقبوله اقتراحاتهم وأفكارهم المفيدة..."، وهي إلى ذلك يوميات كاشفة عن أدب الطالب أبي الخير مع أستاذه، ومحبته له، واقتدائه به، واستفادته منه علميا وأخلاقيا.
وختمت مداخلتها بالقول "إنه ليس من باب المبالغة، ولا المجاملة، أن أنادي من هذا المنبر، بإدراج هذين الكتابين ضمن مقررات الدراسة. فما أحوج أبناءنا للأب القدوة والأستاذ النموذج".
في المداخلة الثالثة قدم الأستاذ عبد الصمد مرون "إضاءات في كتاب غيمات الندى للدكتور أبو الخير الناصري"، نبّه فيها على جملة أمور تخص هذا الكتاب الذي أفرده صاحبه لشخصية الأديبة الدكتورة سعاد الناصر وأعمالها النقدية والفكرية.
تحدث ذ.مرون عن الصنف التأليفي لـ"غيمات الندى"، مدرجا إياه "ضمن الكتب التي تُعنى بالتعريف بالرجال والنساء من ذوي العلم والمعرفة، فتقدم سيرتهم وإسهامهم الفكري والثقافي والتربوي"، وأشاد باحتفاء د.أبو الخير بأعلام أحياء خلافا للغالب على الساحة الثقافية التي يهيمن عليها "التأبين على هامش الرحيل"، كما أشاد بتعريف المؤلف بالشخصيات من خلال مرآة الذات الكاتبة وأهمية ذلك وضرورته.
وأشار المتدخل إلى عنوان الكتاب، ووازن بينه وبين عناوين كتب أخرى للمؤلف ككتابيه عن والده وأستاذه الدكتور محمد الحافظ الروسي، ليخلص إلى أن "غيمات الندى" عنوان "مخالف لما دأب عليه كاتبنا، حيث تبدو العلاقة بين المضمون والعنوان شاحبة في سياق يفترض الوضوح، ليستدرك بعدُ قائلا إن الكاتب تفطن لذلك فوضع عنوانا ثانيا فرعيا "يخصص ما شمله عموم العنوان الأول، وهو: سعاد الناصر، ملامح من شخصيتها ونظرات في أعمالها".
ولم تخل مداخلة ذ.مرون من نقاش صريح عبّر فيه عن اختلافه مع الطرح الفكري لأبي الخير وأستاذته سعاد الناصر في بعض القضايا التي عرض لها كتاب "غيمات الندى" كقضية المرأة وإمكان الانتقال من الحديث عنها إلى الحديث عن قضية الإنسان عامة رجلا وامرأة دون فصل وتمييز.
وختم حديثه بتحية صديقه الناصري الذي وضع أمام القراء قضايا خصبة للنقاش والاختلاف، بعيدا عن كل نزعة نحو الحسم ووهم القول الفصل.
أما المداخلة الرابعة فكان عنوانها "محورية الغرض في مؤلفات أبي الخير الناصري"، ذكر صاحبُها الأستاذ محمد المودن أن "الغرض واحد في جميع مؤلفات المحتفى به، وهو الغرض الإصلاحي الذي سخّر له آليات النقد".
رصد ذ.المودن تجليات النقد الإصلاحي وخصائصه عند د. أبو الخير الناصري انطلاقا من خلال كتابيه "لا أعبد ما تعبدون" و"في صحبة سيدي محمد الناصري رحمه الله"، فنوه بحسن اختيار النصوص المقدمة لقراء الكتاب الأول، وقسم ما فيه من نقود قسمين هما "نقد الموضوعات أدبيا واستكناز ما لها وما عليها، ونقد الأفكار التي قد يكون الموضوع المدروس قدمها ظاهرة أو مضمرة"، مرتكزا لبيان ذلك على جملة من مقالات الكتاب، ليستخلص أن الرجل "عندما يدرس ظاهرة اجتماعية من خلال أحد النصوص، أو يكشف اللبس الذي قد يراود القارئ في بعض الأفكار أو المصطلحات، أو يكشف الأخطاء المنهجية لنص ما أو السرقات الأدبية فيه، فهو لا يقوم بهذا العمل من أجل مصلحة خاصة، بل يقوم بكل هذا النقد لتقديم أفكار تساعد على تنوير العقول التي تتعامل مع الأفكار والنصوص الأدبية دون تفكير دقيق"، منتهيا إلى أن "لا أعبد ما تعبدون" "لا يكتفي بنقل المشهد الثقافي وتقديمه للقارئ، بل يقدم المشهد، ويقدم رأي المؤلف الذي يحمل من التوجيه والمحاولات الإصلاحية الشيء الكثير".
وعدّ ذ.المودن الكتاب الثاني (في صحبة سيدي محمد الناصري) "منهجا يجب على كل أب أن يقرأه ليُحسّن علاقته بولده"، كما عدّه "ترياقا لبعض المشاكل" التي تنشب داخل مؤسسة الأسرة، لا سيما بين الأبناء والآباء، مستدلا على ذلك بأهمية الموضوعات والإشكالات التي طرحها الكتاب، ممثلا لها بنماذج وأمثلة مختارة بعناية من بينها الإشكال "هل نعيش حياتنا أم حياة أخرى اختارها لنا آباؤنا؟"، فبيّن خطورة إقدام بعض الآباء على إهمال رغبات الأبناء وطموحاتهم، وتوجيههم توجيها سلطويا، مشيدا بطريقة توجيه الراحل محمد الناصري لابنه أبي الخير.
كما أشاد المتحدث بجوانب أخرى عرض لها الكتاب من أبرزها: الصداقة بين الوالد والولد، والحوار بينهما، وحرص الأب على تكوين أبنائه تكوينا علميا وأخلاقيا، وتدريبه إياهم على تحمل المسؤولية، ممثلا لذلك بأحداث ووقائع مما ذكره الكاتب في كتابه، مؤكدا من خلال ذلك كله أن هذا العمل "يقدم منهجا للحياة العائلية السليمة"، وتلك رسالة إصلاحية واضحة.
بعد هذه المداخلات تحدث الدكتور أبو الخير الناصري، فعَدَّ نفسَه ومنجزه ثمرةً لجهود الذين أسهموا في تعليمه وتكوينه ابتداء بوالديه، ومرورا بكل الشيوخ والأساتيذ الذي درسوه، منذ مرحلة المسيد حتى الدراسات العليا، دون إغفال أشخاص خارج قطاع التعليم شاركوا في تشكيل وعيه وإغنائه، قائلا إن الاحتفاء به وبأعماله إنما هو احتفاء بكل المذكورين واحتفاء بالمدينة (أصيلا) من خلال عطاء واحد من أبنائها.
وعرج المحتفى به على تصوره للكتابة، فقال إنها ليست ترفا فكريا، وليست بحثا عن وجاهة اجتماعية، ولكنها مسؤولية ينهض بها الكاتب من خلال التعبير عن الرأي الصادق تقويما للاعوجاج واقتراحا للبدائل.
وأضاف أن مؤلفاته كلها تؤطرها الرؤية الإصلاحية، سواء منها ما تعلق بالتصويبات اللغوية، أو ما كان مقالات رأي، أو دراسات نقدية، أو كتبا احتفائية بالشيوخ والأساتيذ.
ولم يغفل أن يشيد، في كلمته، بما قدمه الأساتذة المشاركون من مداخلات علمية، وأن يناقش بعض ما ورد فيها نقاشا أبان فيه عن الاختلاف في الرأي مع الحفاظ على أواصر الصداقة والمودة.