اخترنا لكم
الإسلاميّون... وإفقار تجربة الإسلام الغنية
نسخة واحدة وحيدة تقفز فوق تمايزات بين البلدان كما بين المناطق والحقب التاريخيّة، ناهيك عمّا يفرّق إيمان أهل المدن عن إيمان أهل الريف، وأهل التنقّل عن المجتمعات والجماعات المستقرّة، فضلاً عن تفاوت المذاهب في ما بينها.
والحال أن التاريخ يعلّمنا، على العكس تماماً، أن من أبرز أسباب قوّة الإسلام غناه والتعدّديّة التي اتّسمت بها مصادر نشأته ونموّه. وهو ما يتأكّد بالعودة إلى كتب ودراسات وأعمال كثيرة أخصّها، هنا، العمل الموسوعيّ: \"تاريخ المجتمعات الإسلاميّة\" لإيرا لابيدوس، أحد أبرز دارسي الإسلام والبروفيسور في جامعة كاليفورنيا ببركلي.
فما بين القرنين السابع والثالث عشر، كما يكتب لابيدوس، أعيد تشكيل المؤسّسات التاريخيّة لمجتمعات الشرق الأوسط جميعاً بأشكال ووفق صيغ إسلاميّة. وقد تشكّلت إمبراطوريّات ودول جديدة في ظلّ مفاهيم إسلاميّة عن السلطة ورموز الشرعيّة، كما استخرجت النخب المسلمة الدينيّة، بمن فيها علماء الدين والمتصوّفون، أشكالاً مسلمة للعبادة والتعليم والقانون. وفي تحوّل أكثريّات شعوب الشرق الأوسط إلى الإسلام، اندرجت عشائر رعويّة وفلاّحون وحِرَفيّو مدن وتجّار حمل كلّ منهم معه ملامح خصوصيّاته وخلفيّاته. وهكذا ظهرت إلى الوجود حضارة جديدة متعدّدة المستويات.
وفي حقب لاحقة استمرّ النظام الإسلاميّ، بمؤسّساته وثقافاته الكثيرة، في النموّ في مناطق الشرق الأوسط التي دخلت في الدين الجديد. وبين القرنين السابع والتاسع عشر نشأت مجتمعات إسلاميّة ترتكز على التفاعل بين المؤسّسات والثقافات المحليّة وبين التأثيرات الشرق أوسطيّة في الأناضول والبلقان وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، ما يضيء على النطاق الكونيّ الهائل للإسلام.
فبين القرنين السابع والعاشر حمل الفاتحون العرب دينهم إلى شمال أفريقيا وإسبانيا وصقليّة والسواحل المتوسطيّة لأوروبا، كما حمله المحاربون والتجّار العرب إلى السودان وأفريقيا، وولدت مجتمعات إسلاميّة أخرى من تحوّل الشعوب التركيّة في آسيا الصغرى إلى الإسلام، ومن هجراتهم وغزواتهم ومن ثم بنائهم للإمبراطوريّة. فبين القرنين العاشر والرابع عشر حملته الشعوب التركيّة غرباً إلى الأناضول والبلقان وجنوب شرق أوروبا، كما حملته شرقاً إلى آسيا الصغرى والصين، وجنوباً إلى أفغانستان وشبه القارة الهنديّة. وهكذا لعبت تلك الأقوام دوراً تاريخيّاً حاسماً في دمج الإسلام بالإمبراطوريّات التي تأسّست، كالسلجوقيّة والمغوليّة والصفويّة والعثمانيّة والأوزبكيّة وغيرها. وفي المقابل، نشأ عنقود آخر من المجتمعات الإسلاميّة من طريق توسّع التجّار المسلمين في المحيط الهنديّ. فمن شبه جزيرة العرب وصل الإسلام إلى الهند وأفريقيا الشرقيّة بين القرنين العاشر والثاني عشر، ومن شبه الجزيرة والهند وصل إلى إندونيسيا وجوارها بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، ومن المناطق الساحليّة امتدّ إلى دواخل الجزر والقارات.
وفي تلك المسيرة، كما يلاحظ لابيدوس، اتّصل توسّع الإسلام بقوى عدّة أكسبه كلّ منها لونه. وفي بعض الحالات ارتبط الأمر بتبنّيه من قبل الأسر المحليّة الحاكمة، وفي حالات أخرى خاطب الطبقات المدينيّة أو الجماعات القبَليّة، كما ارتبطت جاذبيّته على المؤمنين الجدد بالتداخل بين المصالح السياسيّة والاقتصاديّة والمعاني الثقافيّة والدينيّة.
ولئن زعم الجيل الأسبق من السكولائيّين (المدرسيِّين) الأوروبيّين أن التحوّل إلى الإسلام حصل بقوّة السيف، وأن الشعوب المغزوّة خُيّرت بين عدم التحوّل والموت، فالسائد اليوم في الدوائر الأكاديميّة الغربيّة أن التحوّل بالقوّة كان نادراً. وقد جاء معظم التحوّل اللاحق طوعيّاً.
بيد أن أسباب التحوّلات الطوعيّة ظلّت، بدورها، مثار تكهّن الباحثين الأوروبيّين. وبالطبع، وبموجب رصد لابيدوس، هناك ما لا يحصى من حالات التحوّل بفعل الإيمان أو بفضل الصورة المنزّهة لبعض المشايخ وعلماء الدين، كما بفعل حسابات النفع السياسيّ والاقتصاديّ. وفي معظم الحالات اندمج السببان. لكنّ الأهمّ، هنا، أن التحوّل لم ينطوِ، بالضرورة، على انتقال كامل من حياة قديمة إلى أخرى مختلفة كليّاً. صحيح أنه عنى تقبّل معتقدات دينيّة جديدة والعضويّة في جماعة دينيّة، إلاّ أن معظم المتحوّلين احتفظوا بولائهم القديم للثقافات والجماعات التي صدروا عنها.
ثمّ إن الحكم الإسلاميّ ما لبث أن قدّم حوافز جديّة للتحوّل. فهو وفّر للجماعات المسلمة مظلّة حماية وأضفى امتياز الصلة بالدولة على الحياة المسلمة الدينيّة. فالرعاية السياسيّة كانت تسمح بإقامة المساجد وتنظيم الحجّ وإيجاد مؤسّسات قضائيّة مسلمة. وقد انطوى بناء إمبراطوريّة عربيّة على إضفاء جاذبيّة على الإسلام لدى عناصر من الأرستوقراطيّتين السابقتين البيزنطيّة والساسانيّة، وهو ما امتدّ إلى كبار الجنود والموظّفين وملاّكي الأراضي وسواهم ممن أغرتهم تلك الامتيازات.
وفي التحوّل نفسه، كان ثمّة تمايز ملحوظ: فمثلاً، مرّت التحوّلات الأولى إلى الإسلام في الشرق الأوسط، ما بين القرنين السابع والثالث عشر، في طورين: الأوّل كان تحول الوثنيّين (الأحيائيّين) والمتعدّدي الإله ممن ينتمون إلى مجتمعات عشائريّة في الجزيرة العربيّة وأطراف الهلال الخصيب ما بين العراق وفلسطين. وأمّا الثاني فكان تحوّل الشعوب التي تعبد إلهاً واحداً في مجتمعات الشرق الأوسط الزراعيّة والمدينيّة والمَلكيّة. فتحوّل الأقوام العربيّة جاء جزءاً من عمليّة نقل حضارة المجتمعات المستقرّة والمتوطّنة والمَلكيّة إلى المحيط البدويّ. وهكذا مثّل تحوّل الأقوام الوثنيّة العربيّة استجابة من الثقافة العشائريّة الرعويّة للحاجة إلى إيجاد أُطر أعرض للتشكّل السياسيّ والاقتصاديّ، أي لدولة تكون أشدّ استقراراً ولنظرة أخلاقيّة أكثر شمولاً وأوسع خيالاً تجيب عن مشكلات تطرحها مجتمعات مضطربة وقلقة. فالتحوّل كان، في رأي لابيدوس، عمليّة دمج للأقوام العربيّة في نظام سياسيّ وثقافيّ جديد مصوغ بمصطلحات ومفاهيم دين توحيديّ. وفي المقابل، كان تحوّل شعوب الشرق الأوسط المستقرّة عمليّة مختلفة. فالإسلام، في هذه الحال، حلّ محلّ الهويّة السياسيّة البيزنطيّة أو الساسانيّة، ومحلّ الهويّات الدينيّة المسيحيّة واليهوديّة والزرادشتيّة.
صحيح أن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أوقفا تلك العمليّة، بسبب القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة الصاعدة لأوروبا عهد ذاك. فتصليب الحكم الكولونياليّ الغربيّ في معظم العالم الإسلاميّ أشّر إلى نهاية الحقبة ما قبل الحديثة وبداية الانتقال الحديث للمجتمعات المسلمة. لكنّ التاريخ السابق على ذلك ترك لنا ما يفيض من الحجج عن غنى التجربة الإسلاميّة التي لا يجوز، بحال من الأحوال، أن يصار إلى إفقارها على أيدي الذين يزعمون الدفاع عنها.